زرقاء على طرف البحر.. سيدي بو سعيد التونسية ملتقى التاريخ والسياحة

تعد مدينة سيدي بو سعيد إحدى أجمل المدن التونسية، وتتميز بموقعها الاستراتيجي الذي يبعد عن شمال العاصمة تونس مسافة 20 كم، كما أنها تقع على المنحدر الصخري المُطل على قرطاج وخليج تونس، وتتميز بمبانيها البيضاء ذات النوافذ والأبواب الزرقاء والزخرفة السوداء.

  • زرقاء على طرف البحر.. سيدي بو سعيد التونسية ملتقى التاريخ والسياحة
    زرقاء على طرف البحر.. سيدي بو سعيد التونسية ملتقى التاريخ والسياحة

"سيدي بو سعيد يا عالي شرفتنا بالنور"، هي من أجمل أغنيات الفنان التونسي الراحل علي الرياحي التي تغنى فيها بجمال وبهاء مدينة سيدي بو سعيد، ببيوتها وياسمينها ووليها الصالح وأروقة فنونها التشكيلية ومعالمها التاريخية الشاهدة على الحضارات المتوسطية التي عرفتها تونس.

وتعَد مدينة سيدي بو سعيد من أشهر المدن السياحية في تونس، وقد ذاع صيتها عالمياً حتى صنفت من بين أجمل المدن الزرقاء.

هذه القرية الأسطورية الخلابة، الواقعة في الضواحي الشمالية الشرقية للعاصمة التونسية، كان اسمها قديماً رأس قرطاج، أو كاب قرطاج، وكانت جزءاً من مدينة قرطاج، أو "قرت حدشت" باللغة الفينيقية الكنعانية، أي القرية الحديثة، ثم تغير اسمها إلى جبل المنار، ثم رسمياً إلى سيدي بو سعيد لدى إحداث بلديةٍ في هذا المكان عام 1893، نسبة إلى الولي الصالح أبي سعيد الباجي الذي اتخذ تلك المنطقة للتعبّد والتزهد والتصوف، وضريحه فيها إلى اليوم.

سيدي بو سعيد، هذه المدينة المزدانة بألوان الصفاء من أزرق وأبيض، تغمر أزقتها رائحة الياسمين في مزاوجة كانت أرضية ملائمة للإبداع وملهمةً لكتابة الشعر والإنتاج الفكري والفنيّ عامة، لذلك كانت سيدي بو سعيد، وما زالت مقصد كثير من الفنانين الذين تغنّوا بجمالها، ومنهم من اتخذها مسكناً مدةً من الزمن، نذكر منهم باتريك برويال، ميشال فوكو، محمود درويش، وغيرهم.

شامخة على كتلة صخرية صنوبرية تنسدل على البحر وتلتصق به، تطل على مدينة قرطاج والخليج التونسي، ويرتادها السياح من كل بقاع العالم وبأعداد مهمة على مدار السنة، وهناك من يشبّه مدينة سيدي بو سعيد بمدينة سانتوريني اليونانية، وهي من أجمل الوجهات السياحية أيضاً.

  • سيدي بو سعيد.. مدينة الأزرق والأبيض
    سيدي بو سعيد.. مدينة الأزرق والأبيض

ينبع جمال مدينة سيدي بو سعيد من هندستها المعمارية الرائعة، ولوني المباني الأبيض والأزرق الملائمَين تماماً للمشهد الطبيعي المحيط بها، ما يبعث الأنس والراحة لدى زائريها فيعودون إليها مرات عديدة.

وتعود قصة معمار سيدي بو سعيد واتخاذها هذه الألوان إلى قصة مفادها أن البارون رودولف ديرلانجي ترك بصمته على القرية، وفرض استخدام لونينِ للأبنية هما الأزرق والأبيض.

وينحدر البارون ديرلانجي (1872-1932) من أصول ألمانية، وهو بريطاني الجنسية، فرنسي المولد، درس الفن في أكاديمية جوليان في باريس، واحترف الرسم وعُرف بمؤلفه الضخم "الموسيقى العربية" ودوّن ديرلانجي، في هذا المؤلف تاريخ الموسيقى العربية، إضافةً إلى المقامات والأوزان الإيقاعية المستعملة، وحدّد كذلك الصيغ والقوالب الموسيقية والغنائية المتداولة آنذاك، فضلاً عن ترجمة مهمة لأمهات الكتب التي تناولت النظريات الموسيقية.

كان استقرار هذا البارون المستشرق في ضاحية سيدي بو سعيد عام 1910 وبقي فيها حتى وفاته عام 1932.
 ويروى أنه كانت له علاقات جيدة بأهالي القرية وقتذاك على عكس ما يشاع عن والده الذي أسهم في إفلاس تونس، وحلول الاستعمار الفرنسي، بذريعة تراكم الديون التونسية آنذاك.

ويرى التونسيون صاحب "النجمة الزهراء" فناناً تونسياً نظراً إلى ما قدمه لتونس من توثيق وبحث وحفظ للذاكرة الفنية، ونظراً إلى ما أضفاه قصر" النجمة الزهراء"، الذي بناه، من إشعاع ليس على سيدي بو سعيد فقط، وإنما على تونس عامة.

لذلك يرى قاطنو مدينة سيدي بو سعيد، أن تأثير البارون المستشرق يتجاوز جدران قصره لما يحمله منظره من إشعاع وشموخ، يزيد مدينة سيدي بو سعيد رونقاً وجمالاً، إذ يحتل موقعاً متميزاً على هضبة سيدي بو سعيد، ويجمع معماره بين الفن الأندلسي والمعمار التونسي.

ويُعد القصر من أبرز المعالم التاريخية التي تحتضنها مدينة سيدي بو سعيد، وقد بناه البارون بين عامي 1912 و1922 بين ظلال حديقة، وفي محيطٍ غابيّ آسر وعلى ربوة المنار المشرفة على خليج تونس المشهور بصراع الحضارات المتوسطية من رومانية وقرطاجية وغيرها.

ودام بناء هذا القصر عشر سنين حتى صار مدرسة في الهندسة المعمارية، عمد إلى جلب أمهر التقنيين وأحسن الحرفيين في مهن الرخام والجبس المنقوش والخشب المحفور والمنحوت، من تونس والمغرب وفرنسا وإسبانيا بهدف بناء قصر إقامته.

ولأهمية هذا الفضاء قامت الدولة التونسية باقتنائه عام 1988، وتحوّل إلى معلم ثقافي وسياحي بامتياز، إذ تقام فيه فعاليات بعض المهرجانات التي تعنى بالموسيقى والشعر.

  • قصر النجمة الزهراء في سيدي بو سعيد
    قصر النجمة الزهراء في سيدي بو سعيد

إلى جانب "النجمة الزهراء"، الفن المعماري العربي الإسلامي شاخص في سيدي بو سعيد بين الأزقة الضيقة المرصوفة بالحجارة، والمشربيات والبيوت المزينة بالنقوش والزخارف والمسامير ذات الرؤوس المستديرة، ذلك أن أبواب المباني في ضاحية سيدي بو سعيد تحتوي على نقوش غاية في الجمال، وتشبه النقوش في المدينة العتيقة.
أما البيوت فيجتمع جلّها حول صحن مركزي تتوسّطه نافورة.

سيدي بو سعيد ليست مجرد معلَم سياحي، وإنما معلم ثقافي، فقد عرفت المنطقة برساميها وأروقتها الفنية على غرار رواق "عمار فرحات"، ورواق "شريف فاين آرت" ورواق "كمنجة" ورواق "عتيقة".

ونظراً إلى مكانة سيدي بو سعيد السياحية تحوّلت بعض البيوت إلى مطاعم على غرار بيت زروق ومقهى سيدي الشبعان، وهو أشهر مقهى في المنطقة لإطلاله مباشرةً على البحر والميناء، فضلاً عن "القهوة العالية" المشهورة في المكان.

وتعج شوارع سيدي بو سعيد بالحياة، بخاصة في فصل الصيف، فإلى جانب المقاهي والمطاعم تجد أنزالاً ومحالّ لبيع "البامبلوني" اللذيذ، وهو عجين يقلى في الزيت ويضاف إليه السكر. أما المحالّ التجارية فإنها تبيع منتوجات حرفية صنعت باليد منها النحاسيات والملابس والبلوريات أيضاً.

فيما يلاحق الزائرين باعةُ المشموم التونسي برائحة الياسمين والفل، إذ يمكن أن يزينوا به أيديهم، أو يضعوه على الأذن فيزيدهم ألفة للمكان.

  • سيدي بو سعيد ليست مجرد معلَم سياحي، وإنما معلم ثقافي أيضاً
    سيدي بو سعيد ليست مجرد معلَم سياحي، وإنما معلم ثقافي أيضاً

أما عن التصوّف والزهد فقد شاع اتباعاً للولي الصالح، أبي سعيد خلف بن يحيى التميمي الباجي، وكانت البيئة العامة في سيدي بو سعيد ملائمة لذلك، حيث الخضرة والبحر والصفاء ونقاء الهواء. وما زالت مدينة سيدي بو سعيد تمارس في منتصف شهر رمضان طقوساً صوفية يتزاحم فيها الناس من مختلف الشرائح العمرية والاجتماعية، وتتمثّل في "خرجة سيدي بو سعيد الباجي"، تيمناً بالولي المتصوّف الناسك.

ومن المهرجانات الثقافية المميزة في سيدي بو سعيد مهرجان الشعر الذي يعد ملتقى لضفاف العالم، وقد رسّخ فكرة الخروج بالشعر إلى الفضاءات المفتوحة مثل دار زروق والقهوة العالية وقصر النجمة الزهراء.

سيدي بو سعيد معلم من معالم تونس التاريخية والسياحية والثقافية، فلا يمكن أن يتجنب الزائر المرور بها، والجلوس في مقاهيها والاستمتاع بروائح القهوة والياسمين والفل، وتلخّص الروايات على ألسنة الشعراء، والفنانين جمال سيدي بو سعيد وطيب العيش فيها ومتعة لزيارتها على غرار الأغنية الفرنسية Au café des délices.