عبودية معاصرة في أميركا.. سجناء بلا حقوق يصنعون "امبراطوريات اقتصادية"

أعاد العمل القسري للسجناء نظام العبودية، حتى أن بعض السجناء عملوا في المزارع نفسها التي كدح فيها العبيد سابقاً لجني محاصيل القطن والتبغ وقصب السكر، كمزارع ولايتي أركنساس وتكساس ومزرعة بارشمان.

  • عبودية معاصرة في أميركا.. سجناء بلا حقوق يصنعون
    عبودية معاصرة في أميركا.. سجناء بلا حقوق يصنعون "امبراطوريات اقتصادية"

على الرغم من مرور أكثر من قرن ونصف على الإلغاء الدستوري للعبودية في الولايات المتحدة، لا يزال العمل القسري في السجون الأميركية يمثل إرثاً صامداً لهذه الظاهرة، إذ يرزح نحو مليونين من أصحاب الأحكام تحت شكل معاصر من الاستعباد، ضمنه الدستور نفسه الذي ألغى نظام العبودية التقليدي في البلاد. 

فقد نصّ التعديل الثالث عشر لدستور الولايات المتحدة، الذي تمت المصادقة عليه في 6 كانون الأول/ديسمبر 1865، على أنه "لا تجوز العبودية أو الخدمة القسرية، إلا كعقوبة على جريمة تمّت إدانة الطرف بها حسب الأصول، داخل الولايات المتحدة أو في أي مكان يخضع لولايتها القضائية"، وأصبح هذا الاستثناء في الدستور مستنداً لإدارات السجون وسلطات الولايات في أميركا لتشغيل السجناء بالإكراه، بحيث تجاوز استغلالهم للمحكومين ما يسمح به الدستور  في حقيقة الأمر.

وعلى إثر توقف الحرب الأهلية، كان بند الاستثناء بمثابة غطاء قانوني لاعتقال الآلاف من الرجال السود، لاسيما الشباب منهم، تحت ذرائع مختلفة وتهم لا تكاد تذكر، مثل التسكع والتشرد ونحوها، أو حتى إلصاق تهم باطلة بهم، ثم القيام بتأجيرهم للعمل،  عند أصحاب المزارع والشركات الكبرى والصناعيين، بما في ذلك مناجم الفحم وشركات السكك الحديدية، وتم بذلك إرساء نظام تأجير المحكومين في الولايات المتحدة بشكل قانوني تماماً.

وهكذا أعاد العمل القسري للسجناء نظام العبودية، حتى أن بعض السجناء عملوا في المزارع نفسها التي كدح فيها العبيد سابقاً لجني محاصيل القطن والتبغ وقصب السكر، كمزارع ولايتي أركنساس وتكساس ومزرعة بارشمان، وخضع العديد منهم للجلد بشكل يومي لعدم قدرتهم على القيام بالعمل القاسي والمميت الذي أُكرهوا على تأديته.

ظروف شاقة وأجور زهيدة 

يُرغم السجناء على القيام بأعمال مختلفة، وقد يتم تشغيل المحتجزين في بعض الأحيان حتى قبل إدانتهم، ويرتبط كثير من الأعمال الموكلة للمحكومين بمهام مثل صيانة السجن وغسيل الملابس وأعمال المطبخ والبناء. ويقوم كثير من السجناء، وخصوصا في جنوب البلاد، بأعمال الزراعة وجني المحاصيل وتربية الحيوانات،  كما يتم تأجير السجناء للعمل في القطاع الصناعي والشركات الكبرى.

وخلال عملهم، يُجبر المحكومون على تحمل ظروف صعبة، وأوضاع خطرة ومهددة للحياة أحياناً، ولا يتلقون تدريباً خاصاً في القطاعات التي تتطلب ذلك، ومع عدم توفر الخبرة، ومحدودية معدات الحماية، يتعرض العديد منهم أثناء العمل للأذى أو التشوه والإصابات الخطيرة وإعاقات على مدى الحياة، أو حتى الوفاة، وتتعرض النساء أحياناً للتحرش الجنسي أو سوء المعاملة من قبل المشرفين المدنيين عليهن، أو من قبل ضباط السجون والموظفين داخل المنشآت. وفي الكوارث وحالات الطوارئ قد يُستغل السجناء في مكافحة الحرائق، والتخلص من جثث الحيوانات الملوثة، وتنظيف المواد الخطرة.

ولا يعتبر السجناء موظفين في نظر القانون، لذلك لا يعاملون وفق قوانين السلامة والصحة المهنية، ولا يتمكنون من تشكيل نقابات، ولا يتسنى لهم غالباً الاحتجاج أو تقديم شكاوى رسمية بشأن ظروف العمل السيئة، ويُحرمون من العديد من استحقاقات قوانين حماية العمال ومعايير العمل العادلة والسلامة الفيدرالية، فلا يستطيعون رفع دعاوى قضائية عند تعرضهم لحوادث في بيئة العمل، أو الحصول على تعويضات.

وعلاوة على ذلك، يتلقى السجناء أجوراً زهيدة، لا تتجاوز بضعة سنتات في الساعة في كثير من الأحيان، وقد لا يحصلون على شيء إطلاقاً في أحيان أخرى، فلا تدفع ولايات مثل: أركنساس وتكساس وفلوريدا وألاباما وجنوب كارولينا وجورجيا أي شيء مقابل معظم أنواع العمل، كما تدفع بعض السجون أجوراً عينية زهيدة مثل ورق التواليت ومعجون الأسنان ونحو ذلك. وقلة هم الذين يحصلون على وظائف في القطاع الصناعي الحكومي، بحيث يصل  أجر الواحد منهم إلى دولار في الساعة. 

ويفضل بعض السجناء الوظائف التي تقع خارج حدود السجن؛ لأنها غالباً توفر عائداً ماديّاً أفضل، وعلى الرغم من أن العديد من الشركات لا تدفع سوى الحد الأدنى للأجور، تقوم بعض الولايات باحتجاز أكثر من نصف الراتب، مقابل احتياجات السجين، مثل رسوم الإقامة والطعام والمحكمة.

ولا يملك السجناء في ظل تلك الظروف خيار رفض العمل المطلوب منهم، ويواجه من يرفض أو لا ينتج ما يكفي عواقب وخيمة، فقد تتعرض فرصهم للإفراج المشروط للخطر، وقد يواجهون عقوبات مثل إرسالهم إلى السجن الانفرادي، إضافة إلى فقدان الامتيازات، مثل: تقييد الوصول إلى الأجهزة الإلكترونية ومنع الزيارات العائلية والتواصل الهاتفي. 

قوة عاملة خفية

يمثل السجناء في الولايات المتحدة قوة عاملة ضخمة غير مرئية، مرتبطة بسلاسل التوريد لمئات من المطاعم المشهورة وشركات الأغذية العملاقة والعلامات التجارية الأكثر شهرة على مستوى العالم، فالسجن لا يُستخدم فقط للعقاب أو إعادة التأهيل، بل هو كنز مستدام يدر أرباحاً هائلة سنوياً لإدارات السجون والولايات، حيث يعمل المحكومون على إنتاج مجموعة كبيرة من السلع والبضائع، التي تتصدر غيرها على رفوف المتاجر الكبرى في جميع أنحاء الولايات المتحدة.

وقد شكل العمل في السجون الأميركية، الذي شمل عدداً كبيراً من القطاعات، إمبراطورية اقتصادية تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، ولا تستوعب الزراعة سوى جزء محدود من إجمالي القوى العاملة في السجون، حيث يعمل كثيرون في الصناعات التي تعاني من نقص حاد في العمالة، ويقومون ببعض الأعمال الأشد خطرا في البلاد.

وفي العديد من الولايات، تمتلك السجون مزارع لتربية الدجاج والأبقار والخنازير، بالإضافة إلى مصانع المعالجة الخاصة بها ومصانع الألبان والتعليب. وفي سجون أخرى يقوم السجناء بوظائف مثل تنسيق الحدائق ورعاية الدفيئات الزراعية، وتربية النحل والأسماك. كما تستفيد كثير من الولايات من تأجير السجناء للقيام بالأعمال نفسها في شركات خاصة كبيرة، ولقد ساهم أكثر من 150 عاماً من تأجير المحكومين في بناء إمبراطوريات الأعمال الأميركية.

ولا تقتصر السلع التي ينتجها السجناء على الاستهلاك المحلي، بل يصدر بعضها عبر شركات عالمية إلى جميع أنحاء العالم، بما في ذلك البلدان التي مُنعت منتجاتها من دخول الولايات المتحدة بسبب إنتاجها عبر العمل القسري أو عمل المحكومين، فقد منعت السلطات في الولايات المتحدة شحنات القطن الآتية من الصين لهذا السبب، ولكنها في الوقت نفسه، تصدر المحاصيل التي يحصدها السجناء في بلادها إلى الصين.

ويُدين أعضاء الكونغرس هذا النوع من العمالة القسرية، ومع ذلك، يستوجب على الوكالات الفيدرالية ووكالات الولايات والبلديات، وكذلك المدارس العامة والجامعات، شراء السلع، مثل الأثاث وغيرها من المعدات التي تنتجها السجون، وفي العديد من الولايات، تكون السلع المصنوعة في السجون متاحة مجاناً.

محاولات حثيثة للتغيير

منذ النصف الثاني من القرن الماضي بدأت محاولات حثيثة من قبل منظمات وجمعيات حقوق الإنسان بالعمل على تحرير السجناء من العبودية المعاصرة، حيث قامت حركة حقوق السجناء في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات بالدعوة إلى زيادة أجر السجناء، ثم تصاعدت الدعوات لاحقاً من قبل جهات عدة إلى إلغاء شرط الاستثناء، والقضاء التام على عبودية السجون. 

وقد نجحت الجهود في سبع ولايات، هي: كولورادو ويوتا ونبراسكا وفيرمونت وأوريغن وتينيسي وألاباما في تمرير تعديلات تحظر العبودية من دون استثناء، بما فيها العمل القسري في السجون، وتجري محاولة إلغاء بند الاستثناء كذلك في حوالى 20 ولاية، وعلى المستوى الفيدرالي، تجري محاولات لتمرير قانون مشترك عبر الكونغرس لحظر العمل القسري، وذلك منذ عام 2020.  

وقوبلت التعديلات الدستورية بمقاومة من قبل بعض إدارات الولايات، ويبدو أن التكلفة المادية هي الدافع لهذه المعارضة، وخاصة بعد إعلان وزارة المالية بأن تكلفة دفع الحد الأدنى للأجور سوف تبلغ 1.5 مليار دولار، وهو الأمر الذي أثار قلق إدارات الولايات حول قدرتها على تحمل تلك الأعباء.

ومن جانب آخر، تشير التقديرات إلى أن هذه الخطوة في مجملها ستدعم الاقتصاد الوطني بما يصل إلى 20.3 مليار دولار سنوياً، حيث ستتمكن الدولة من التخلص من خدمات الرعاية الصحية والإسكان والبطالة، والتي يتم إنفاقها على الأشخاص الذين يخرجون من السجون عاجزين مادياً بشكل كامل.

وتشير تقارير إلى أن التعديلات الدستورية التي حَظرت العمل القسري على المسجونين يتم انتهاكها في بعض الولايات، لا سيما ولاية كولورادو، وقد رفع السجناء الحاليون والسابقون في ولاية ألاباما دعاوى قضائية جماعية، قائلين إنهم أجبروا على توفير عمالة رخيصة أو مجانية، وأنه تم استغلال العمال المسجونين من أجل تكريس الربح المالي، ووصفوا تلك الممارسات بحقهم بالاستعباد.

وكل يوم، في كافة أنحاء الولايات المتحدة، يُجبر المحكومون خلف القضبان على العمل تحت ظروف خطرة أحياناً وبأجر زهيد غالباً، وهذا الاستغلال القاسي للمسجونين يعد انتهاكاً صريحاً لحقوق الإنسان الأساسية، وغير مقبول وفقاً لمعايير القانون الدولي، وبعد مرور أكثر من قرن ونصف على إعلان لينكولن إلغاء العبودية في الولايات المتحدة،  أقل ما يقبل أن يعامل السجناء بشكل إنساني، وأن ينالوا أجوراً عادلة، تضمن لهم بعد إطلاق سراحهم، عودة كريمة إلى المجتمع على أساس مستقر.