"يا أهلي هاتوا الملح".. جروح الفقد الحيّة

لقد تأمّلت النصوص البديعة التي يكتبها الفاقدون مطوّلاً، أولئك الذين فجّر الظلم في نفوسهم قريحة لم تكن يوماً من ملكاتهم، وأسالت المناسبات المنقوصة حبر النصوص الشفيفة من أقلامهم.

  • الصحافي يوسف فارس متوسطاً بنات الشهيد الكاتب أيمن الرفاتي

سيكون عليّ أن أعتذر مجدّداً عن إرسال رسالة صوتية أو بطاقة معايدة لابنة الشهيد أيمن الرفاتي، صديقي وأخي. ما الذي بوسعي أن أحكيه في اليوم الذي أتمّت فيه فاطمة عامها الثاني عشر من دون شمعات تُطفَأ وأبٍ يعود إلى البيت محمّلاً بالهدايا. أدري أنّ الفاقدين بحاجة إلى حضورنا جميعاً في حياتهم، أو على الأقل في مناسباتهم التي لم تكن تكتمل إلا بحضور أعزائهم الذين غدوا راحلين اليوم، ولكن بأيّ مفردات التهنئة أو العزاء نستعين؟

ماذا في حياة الفلسطينيين في غزة سوى الذكريات، لقد سمعوا في بيوتهم وحاراتهم كثيراً أن "الخال والد"، و"الجار قبل الدار"، و"اللقمة الهنية بتكفي مية"، أمثال شعبية تحكي نظرتهم إلى شكل الحياة الاجتماعية الهانئة، أن تجتهد دائماً لتكون أفضل أب، أفضل زوج، أفضل خال وعم، تلك الأفضلية التي تنتج فيضاً هائلاً من الدفء الأسري والعائلي، المزدحم بالذكريات، الذي يفيض في يوم النجاح، الزواج، عيد الميلاد، العقيقة، صبّة سقف البيت الأولى، أو حتى جلسات السمر العائلية في الحارة، لقد استحالت الحياة العادية بنمطها الرتيب إلى أمنية، فما بالكم بالفرح!

كان عليّ أيضاً أن أتجاوز منشوراً كتبته ريما، ابنة أختي، تستذكر فيه يوم نجاحها في الثانوية العامة، الذي يصادف يوم ميلاد فاطمة ابنة أيمن ذاته، كتبت أم عمر زوجة أيمن ورفيق سهرات ضوء القمر: "أيا أيمن، ها هي حبيبة قلبك وماء عينك وضلعك الأيمن تكبر، فتاة أبيها المدلّله، وشبيهة القلب والعقل والفكر، يعزّ عليّ وعليها أن يأتي يوم ميلادها من دونك، فأنت الميلاد والهدية، كلّ عام وحبيبة قلبنا بخير، وأتمنى من الله أن تكون كما تمنيت". أمّا ابنة أختي التي فقدت والدها وأشقاءها الثلاثة، تلك التي نسيتُ نبرة صوتها خلال السنوات الخمس الأخيرة، لفرط خجلها وحيائها، فقد كتبت مستذكرة أجمل أيام عمرها: "أخبرك شيئاً يا أبي: أنا متعبة بدونك جداً، كل الليالي بعدك بلا فجر، كل الدروب بعدك مظلمة، كل الأيادي بعدك لا تنقذ، لكني صابرة جداً، فحلاوة لقائي بك ستنسيني مرارة فقدك، وظنّي في ربي أنك في مكان أفضل، ومقامٍ أعلى وأعدل، وراحة ليس بعدها تعب، لن أنساك أبداً.. اطمئن".

لقد تأمّلت النصوص البديعة التي يكتبها الفاقدون مطوّلاً، أولئك الذين فجّر الظلم في نفوسهم قريحة لم تكن يوماً من ملكاتهم، وأسالت المناسبات المنقوصة حبر النصوص الشفيفة من أقلامهم، وصرت أعي كيف يولد الأدب، كيف يُكتب الشعر والنثر، من دمعة لا تتسع لها العين، أو فرحة يضيق بها القلب، ولما عزّت الثانية، أضحت مواقع التواصل صفحات من كتاب رثاء طويل.