"إيلات في مقابل إيعات".. ريف البلدة اللبنانية "سَهلٌ" لا يهادن

"حوران العتيقة"، كما كانت تُلقَّب بسبب وفرةِ خير الأرض فيها، وكان سهلها يُغذّي أهراءات قمح الإمبراطورية الرومانية. وعمودها الروماني، من عشقه سهلَها، وهواءَها، هرب من "عجقة" أعمدة بعلبك ليختلي وحيداً بها. ومطارُها، عمرُه أكبر من عمر مطار بيروت.

  • "إيلات في مقابل إيعات".. ريف البلدة اللبنانية اليافع "سَهلٌ" لا يهادن

حين قصفت طائراتُ الاحتلال الإسرائيلي سهلَ إيعاتَ، وآخرها منذ أسبوعين تقريباً، تندَّرَ أحد الإيعاتيين الظُرَفاء، ممَّن يُحبون المزاح، كعادة الإيعاتيين، ويَرُشُّون على الجرح ملحَ النكتة، وهدَّد قادة "إسرائيل" متوعِّداً: "إيلات" في مقابل إيعات!

وبعد يوم أو يومين، فعلاً، قُصفت "إيلات"! كيف تحوّل مزاح هذا الرجل إلى حقيقة! لا أحد يعلم! لكنها أحدُ أسرار الشخصية الإيعاتية.

صفيحة وملح.. أهلاً بكم في إيعات

قبل أن تخطو أُولى خطُواتك في إيعات، الملاصقة لمدينة بعلبك من جهة الغرب، والتي تربط بينها وبين قرى غربي بعلبك، وتُشيح، عند دوّار الكيّال، ظهرَك وظهر سيارتك، لا قلبَك، لبعلبكَّ، جارةِ إيعاتَ، وتغتسل عيناك بنور نهارٍ إيعاتيّ جميل، تستقبلك رائحةُ الصفيحة البعلبكية. أمَا اشتهيتَ، من قبلُ، صفيحةً بعلبكيةً، نَفَسُها بعلبكيّ، ونكهتُها بعلبكية؟ إذاً، "حَوِّلْ". أهلاً بكَ في إيعات.

هل يمكن أن تحسبَ نفسَك زرتَ بعلبك، وأتيتَ إلى إيعات، من دون أن تتذوّق أشهى أَكْلَة بعلبكية، وربما لبنانية: الصفيحة البعلبكية، والتي مهما برمتَ الدُّنيا، وزرتَ المدنَ، ولفَفْتَ البلادَ، فلا أحدَ في الكون، غيرُ البعلبكيين والإيعاتيين، يُدرك سرَّها المَكنون، موضوعاً في أشهى نِعَمِ اللهِ: حبّة صفيحة، لحمُها وعجينتها من رَحِم أرض إيعات. 

تركُنُ سيارتك عند مستديرة دُوّار الكيال، قريباً من صَفّ مَلاحمَ، تعرض في واجهاتها عشرات القراقير. لحم القراقير فقط أحد أسرار الصفيحة البعلبكية.

ترمي التحيةَ على الشبّان الواقفين خلف القراقير، فيبادرك كلٌّ منهم بردّ التحية بمثلها، وبأحسن منها، وفي يدِ كلّ منهم حبةُ صفيحة ساخنة، يمتزج البخار المتصاعد منها بنفحةِ شَوْبٍ إيعاتية.

تحتار مِن يدِ مَن تأخذ حبّةَ الصفيحة، وتحتار مَن يقول لك، بلكنةٍ إيعاتية محبَّبة: "أهلا وسَهْلا، حوّلْ". و"حَوِّلْ"، في لغة الإيعاتيين، تعني: حَللتَ أهلاً، ووطئتَ سهلاً.

ويلٌ لكَ إن لم تأخذ حبّات الصفيحة كلَّها من أيدي الجميع. فـ"أهْلاً وسَهْلاً" لا تكفي في قاموس ضِيافة الإيعاتيّين للترحيب بك، بل عليكَ أن تقاسمهم خبزَهم وملحَهم وصفيحتهم. وحينها، تصيرُ واحداً منهم، لك صدر بيوتهم، ولهم عَتَبَتُها.

تأخذ ما قَسَمَ اللهُ لك، وما أصرّ هؤلاء الشبان على أن "تُحَلّي فمَك به"، من حبّات صفيحة بعلبكية لن تنسى مذاقَها لو عشتَ، العمرَ الطويل، ألفَ عام. وتعود إلى سيارتك، وتجلس خلف المِقود، تتذوّق حبة ثالثة ورابعة من الصفيحة البعليكية.

تُدير محرّك سيارتك، وتسلك دربك إلى قلب إيعات. يُفاجئك صوت فيروز تغني: "بتروح كتير وتغيب كتير، وبترجع عَ دراج بعلبك". تدندن مع فيروز، وتتنفّس بعمق هواءً عليلاً في عِزّ الشَّوْب. وترى أمامك لافتةً حديديةً زرقاءَ، بلون السماء، كُتِب ترحيباً فيها: "أهلاً بكَ في إيعات". 

الأستاذ توفيق.. مَن علّم الإيعاتيين حرفاً

  • يقع عامود إيعات في وسط سهل البقاع، على مسافة متوسطة بين قصر البنات في حرف شليفا وقلعة بعلبك.
    يقع عمود إيعات في وسط سهل البقاع، على مسافة متوسطة بين قصر البنات في حرف شليفا وقلعة بعلبك

على الرغم من بلوغ عدد سكان إيعات أكثر من 25 ألف نسمة، ومن أن المئات من شبانها وصباياها من حملة شهادة الدكتوراه والإجازات الجامعية، وعلى الرغم من وجود آلاف الطلاب الثانويين من أبنائها،ومن أنها أمست، بسبب ذلك، محطة للمدارس الخاصة فيها، فإن هذه القرية تفتقر، منذ عقود طويلة، إلى وجود ثانوية رسمية فيها، على الرغم من مطالبة معظم أهالي القرية وفعالياتها بهذا الأمر، منذ زمن بعيد.

القريةُ "الكوزموبوليتانية"، كما يُسَمّيها سكانُ القرى المجاورة لها؛ المضيافةُ، متعددةُ العائلات، والأديانِ، والمذاهب؛ القريةُ التي بات الساكنون فيها، المنحدرونَ من سائر القرى، أكثرَ من المنحدرين الأصليين من رَحَمِها، ومن صُلبها؛ هذه القريةُ، لما تطأ ثراها،  تبتسم لك أشجارُها، وسماؤُها، وهواؤُها، وغيومُها، ومطرُها، وشمسُها، وليسَ فقط أهلها. ويرحِّبون بك، كأنهم يعرفونك منذ زمن بعيد، أبّاً عن جَدٍّ عن جَد، كأنك واحد من أبنائهم، ويقولون لك أنّى صادفوك، ومتى صادفوك: أهلاً بكَ في بيتك في إيعات.

في إيعات، لا أحد، من الكبير حتى "المقمّط بالسرير"، كما يقول الإيعاتيون، لا يعرف، ولا يحبّ الأستاذ توفيق عبد الساتر. كبرَ جيل وتتلمذ على يدي الأستاذ توفيق عبد الساتر.

أستاذ اللغة الفرنسية، والذي أصبح مديراً لمدرسة إيعات الرسمية، يَدين كثيرون من طلاب إيعات وطالباتها، ممّن علّمهم هو، أو تعلموا في مدرسة إيعات الرسمية، التي كان مديرها، وناطور أجيالها، وكبروا وصاروا أطباء ومهندسين ومحامين وأساتذة جامعيين وثانويين وضبّاطاً وصحافيين، وتزوَّجوا وصاروا آباءً وأمهات، يَدين هؤلاء جميعاً بفضل كبير لهذا الرجل، الذي كرّس أعواماً طويلة، بحُلوها ومُرِّها، من عمره، لأبناء قريته إيعات ولأبناء القرى المجاورة، والذين كانوا يتعلّمون في مدرسة إيعات الرسمية، التي ظل الأستاذ توفيق عبد الساتر حارساً لمستقبل طلابها حتى بلغ سن التقاعد. فسلّم الأمانة، لكنّه ظلّ، من منزله المُلاصقِ لمدرسة إيعات الرسمية، عيناً تحرس مستقبل الطلاب، لا تسهو ولا تنام.

لكنّ إيعات، التي يوجد فيها أكثر من ألف طالب ثانوي، ومئات الطلاب الجامعيين، وعشرات حَمَلة الدكتوراه، وعشرات الأساتذة الجامعيين والأساتذة الثانويين، لم يتحققْ لا حلمُها، ولا حلمُ مدير مدرستها السابق، الأستاذ توفيق عبد الساتر، ولا حلمُ طلابها وأهاليهم، وظلّ بناء ثانوية حكومية مختلطة في إيعات شيئاً يشبه حلماً؛ شيئاً يشبه مناماً، ومجرد وعد لم يتحقق. 

هل الأرضُ، التي كبرتَ فيها، تبكي، لمّا تحسّ بكَ حزيناً، ولما تحسُّ بكَ مهموماً؟ هل الأرضُ، التي احتضنت أنفاسَك وعُودَك الطريَّ طفلاً، تبتسم لمّا تراكَ رجلاً، تَخطو فيها برِفق، وتُلامسُ ثراها بحب؟ هكذا تشعر، وهكذا تحس إيعات.

"مانر سكول".. الماضي الجميل

يذكر الإيعاتيون جيداً، ممن فتحوا عيونهم في ثمانينيات القرن الماضي، أن رجلاً من قرية مغدوشة الجنوبية، بات اليوم في رحمة الله، اسمه جورج صيقلي، جاء إلى إيعات، وبنى فيها منارة تربوية سمّاها "مانر سكول". وساهم، من خلالها، في رفع جزء من الحرمان، تربوياً وتعليمياً، عن سكان إيعات، وعن كثيرين من أبناء بعلبك وقراها.

يذكر الإيعاتيون أن إيعات، في ذلك الوقت، كانت شبه منسية، ولم يكن أحدٌ من المسؤولين يتذكرها، حتى جاء رجل من غير أهلها، سكن فيها، وصار بلسماً لطلابها، اسمه جورج صيقلي، آمن بالإنسان البعلبكي، والإيعاتي، وبعقله، فقام في ثمانينيات القرن الماضي، بناء صرح تعليمي، حتى يقتلع هذا الحرمان من "شلوشه"، فخرّجت "ماتر سكول" الإيعاتية مئاتِ الإيعاتيين وآلافَ البعلبكيين ممن يكنّون لجورج صيقلي حباً كبيراً، ويَدينون له بفضل كبير.

محمد الخطار.. شفيع إيعات وناطور جبانتها

  • قبل نحو أسبوعين تعرض مستودع زراعي في منطقة سهل إيعات لاستهداف بغارة إسرائيلية
    قبل نحو أسبوعين تعرض مستودع زراعي في منطقة سهل إيعات لاستهداف بغارة إسرائيلية

هل تتذكّرك الأرض، التي كانت ملعبَ طفولتك، ومدرستَها؟ هل تتذكّرُ رائحةَ طفولتك، ومشاغباتِك، ولهاثَك، ولون عينيك، وحزنَهما حين فارقتها وافترقَتْ عنك؟

في إيعاتَ، جارة بعلبكَّ، الأرضُ تفعل ذلك، الأرض تشعر وتُحسّ. والأرضُ كناسِها، تَضحكُ لمّا تلقاكَ، وتبكي لمّا تودّعُك. في إيعاتَ، الأرضُ مَجبولةٌ من ترابٍ وروح... وحُبّ.

عندما تصل إلى قلب القلب في إيعات، تسلك طريقاً، "على كيس النُّصّ"، يشطر مقبرة الضيعة، أو "جبّانتها"، كما يسميها الإيعاتيون، مقبرتين.

تلتفتُ يساراً، فتلمح بناءً حجرياً صغيراً، تزنّره الأشحار، وتحيط به عشرات القبور. تلمح سرباً من النساء يتجمعن حول أحد القبور.

قربَ إحدى بوابتي الجبّانَتَين دكانة صغيرة. تشتري منها ماءً بارداً، ثم تقصد النساءَ داخل المقبرة.

- السلام عليكنّ، يا خالة.

وقبل أن يَرددْنَ التحية، تقدّم إليهنّ الماء البارد. يرمينك بنظرات أمومة وامتنان محببة، ويقلن لك، بصوت واحد: "سقاك الله من ماء زمزم".

تسألهن: "من الساكن في ذاك البيت الحجري؟".

ينظرن إليك، ثلاثتهنّ، بارتياب بدايةً، ثمّ نظرات استعطاف. وأكبرهنّ سناً تنفخ فوق الشال الأبيض المشلوح فوق رأسها، وأطرافه فوق صدرها، وتتشارك ثلاثتُهن رواية تشبه قصة من الخيال.

تروي الحاجّات الإيعاتيات أن رجلاً صالحاً، اسمة محمد الخطّار، مرّ من هنا، ويُشرنَ بأصابعهنّ المتجعدة، والمقضومة الأظافر، إلى البناء الذي سمَّينَه "مقامَ محمد الخطّار"، و"العزيز على قلوب الإيعاتيين"، يستريح في قلب الجبّانة، كما لو أنه ناطورها وحارسها الأمين.

يَقُلْنَ، كما لو أنهنَّ يتحدّثن عن شخص يعرفنه، إن "مكرماته لا تنتهي". يَحكِينَ لي عن امرأة لم تكن تنجب، وحَلِفَ عليها زوجها، بعد خمسة وعشرين عاماً من الزواج، بالطلاق، إن لم تنجب له ولداً. يَتَلَفَّتنَ إلى وجوه بعضهنَّ البعض، ثم إلى وجهي، ويُخبرنني: "جاءت المسكينة إلى هذا المقام"، ويُشِرنَ بأصابعهنَّ إلى "المقام" الحجري داخل الجبانة، و"واظبت على المجيء طَوال عشرة أيام. وفي الليلة العاشرة، رأت في منامها رجلاً مَهيباً متجلبباً بالأبيض، هزّها من كتفها، ونفخ في وجهها، كأنه عطر، وهمس إليها: بشّري زوجك.. أنت حامل".

وضحكنَ ثلاثتهن، وقلنَ لي: حبلت المرأة بتوأمين: حسن وحسين.

"هل عرفتَ من هو صاحب الرداء الأبيض؟"

وقبلَ أن أجيبَ، قالت لي إحداهن:

"ذاك الطاهر هو شفيع إيعات، الولي محمد الخطار!"

"تراكتور الإنماء"

عندما تسأل الإيعاتيين عن المشاريع التي تذكّرتهم بها الدولة، يتلفّت بعضهم إلى بعض، ويبتسمون ابتسامات ساخرة. الابتسامات الساخرة كافية، ولا حاجة إلى انتظار الجواب! يقول أحد "الختايرة" الإيعاتيين إن ترومواي الإنماء لم يمرّ من هنا!

ثم يروي رجل ستيني، أن كثيراً من "الجُوَر"، كما يحبّ الإيعاتيون أن يُدلّلوا الحُفَر، والتي كان يغرق فيها دولاب "بيسكلات"، لمّا كان هو في عمر العشرين، بات يغرق فيها دولاب تراكتور بعد أن تجاوز عمره الستين!

أدركتُ حينها، فعلاً، أن أهالي إيعات سوف يبقون ينتظرون أن يمرّ "تراكتور الإنماء" في قريتهم!