"عزيمة ليلة الغرّة".. هكذا تعزّز عشائر الجزيرة السورية التكافل في شهر رمضان

تعتبر "عزيمة غرّة رمضان" في محافظات الجزيرة السورية تقليداً فريداً بحد ذاته، وهي عبارة عن إفطار جماعي يدعو إليه شيخ القبيلة أو مختار الحي أو أحد الوجهاء في المنطقة، ويكون الإفطار للأقرباء وأبناء العشيرة وأهل المنطقة وخصوصاً الفقراء منهم.

  • عزيمة
    "عزيمة ليلة الغرّة".. هكذا تعزّز عشائر الجزيرة السورية التكافل في شهر رمضان

في مضافة أحمد العبد الله (أبو صالح)، أحد وجهاء قبيلة الجبور في ريف الحسكة شمال شرق سوريا، تبدأ التحضيرات المُكثّفة لتأمين كلّ ما يلزم من ذبائح ومشروبات وخدمات، لإتمام تقليد اجتماعي وطقس رمضاني توارثه أبو صالح عن أجداده منذ عشرات السنين، ويسعى اليوم لتوريثه إلى أبنائه الذين يشاركون في التحضيرات الجارية لـ "عزيمة ليلة الغرّة"، التي تجري سنوياً مع دخول شهر رمضان المُبارك.

وتعتبر "عزيمة غرّة رمضان" في محافظات الجزيرة السورية تقليداً فريداً بحد ذاته وامتيازاً لعائلات بعينها في بعض القرى والبلدات، وهي عبارة عن إفطار جماعي يدعو إليه شيخ القبيلة أو مختار الحي أو أحد الوجهاء في المنطقة، ويكون الإفطار للأقرباء وأبناء العشيرة وأهل المنطقة وخصوصاً الفقراء منهم في طقس يعكس التكافل والمساندة الاجتماعية التي لا تزال قائمة لدى الكثير من أبناء العشائر الميسورين والبيوتات الكبيرة، وتجري العادة أن يطوف صاحب الدعوة منتصف اليوم الأول من شهر رمضان ليوجّه الدعوة الشفهية لرجال القرية ويحرص على أن لا ينسى أحداً منهم.

وللمحافظة على هذا التقليد يتقاسم أبو صالح الأدوار مع أبنائه الشباب، لوضع الترتيبات وتأمين التجهيزات لكل ما يحتاجونه خلال الإفطار وما بعده، حيث تتحوّل المضافة إلى خلية نحل يعمل أفرادها بمهام محددة من دون تعب أو ملل طوال الساعات التي تسبق "عزيمة ليلة الغرّة".

  • "عزيمة ليلة الغرّة".. هكذا تعزّز عشائر الجزيرة السورية التكافل في شهر رمضان

بعض الأبناء سيتوجّهون إلى سوق "الماكف" حيث تُباع المواشي، من أجل شراء عدد من الذبائح ليقدّم لحمها مطبوخاً على "المناسف"، والبعض الآخر سيقوم بتحضير الحطب والقدور الكبيرة للطبخ، بينما تقوم النسوة بعجن وصناعة خبز الصاج ليُقدّم ضمن الوليمة الكبيرة في مضافة "أبو صالح".

عادة ما تكون الوليمة عبارة عن مناسف عديدة من لحم الضأن وخبز الصاج، حيث يُفرَش رغيفٌ كاملٌ أسفل الصواني الكبيرة ويصبّ فوقها الأرز أو البرغل، ثم تُكلّل بقطع اللحم الكبيرة، ويُقدّم قبلها الماء والتمر واللبن، كما تكون العصائر الرمضانية حاضرة في العزائم، وعلى رأسها مشروب التمر الهندي الشهير.

ويشير أبو صالح للميادين نت إلى أن "عزيمة الغرّة" طقس عايشه مُذ كان طفلاً صغيراً في منزل جده قبل خمسين عاماً، لينتقل هذا التقليد إلى والده فيما بعد، ثم إليه منذ عدة سنوات، مؤكداً أن الهدف من "عزيمة الغرّة" هو التكافل مع الفقراء والمحتاجين في أول أيام شهر رمضان الكريم، كما أنه يعزز قيم الكرم والشهامة التي يجب أن يتّصف بها الشيوخ والوجهاء في القبائل العربية في الجزيرة السورية.

برغم الظروف المعيشية الصعبة التي عايشها أبناء الحسكة السورية خلال سنوات الحرب، إلا أن الالتزام بهذا الطقس الرمضاني لم ينقطع عند وجهاء المنطقة، ولكن تختلف من شيخ إلى آخر بحسب إمكانياته وقدراته، سواء من حيث كميات الطعام المُقدّمة خلال الإفطار أو عدد الأفراد المدعويين، فالظروف الاقتصادية الناتجة عن الحرب، وسنوات القحط التي ضربت الأراضي الزراعية في الجزيرة السورية، أثّرت بشكل كبير على الوضع المعيشي للأهالي، لكن ذلك لم يمنعهم من الحفاظ على الطقوس المتوارثة عن الأجداد.

"ربّك بسكر باب وبيفتح 10 أبواب، والله يقدّرنا دوم على فعل الخير"، يقولها أبو صالح بلهجته المحلية، في إشارة منه إلى أن الأمور بدأت تعود تدريجياً إلى طبيعتها، برغم كل ما تعانيه المنطقة، فالمواسم الزراعية عادت لتشهد وفرة في المحصول، الأمر الذي ساهم بانتشار "عزيمة الغرّة" على نطاق أوسع في الجزيرة السورية، وتحوّلها من طقس رمضاني إلى تقليد يمكن أن يحدث خارج رمضان أيضاً.

الظروف المعيشية تقلل ليالي "الغرّة"

"عزيمة الغرّة" هي أكبر الولائم في الجزيرة السورية خلال شهر رمضان، لكنها بالتأكيد لن تكون الوحيدة، حيث يتناوب سكان القرية الواحدة على إقامة عدد من الولائم في منازلهم خلال الشهر الكريم، وفي حال تصادف وجود "عزيمتين" في اليوم الواحد داخل القرية، يتفق الطرفان أصحاب العزيمة على اقتسام أهالي القرية لدعوتهم إلى الإفطار.

ولا يختلف الأمر في محافظات دير الزور والقامشلي والرقة عن الحسكة، فطقس "ليلة الغرّة" يكون حاضراً في كل عام ليعبّر عن المحبة والإخاء والتكافل الاجتماعي بين أبناء المنطقة الواحدة، فتكون الدعوات على الإفطار طيلة شهر رمضان المبارك، حيث يتنافس الوجهاء والأهالي على جمع الناس في مضافاتهم أو منازلهم بعد تجهيز ولائم كبيرة، ومن المتعارف عليه أيضاً بعد الإفطار أن يذهب الجميع لأداء صلاة التراويح في مسجد القرية أو البلدة.

وفي غالب الأحيان يتم تخصيص جزء من الولائم لتوزيعها على الفقراء في المنطقة أيضاً، حيث يُقسّم الطعام على شكل وجبات، توضع في كل وجبة كمية من الأرز واللحم إضافة إلى التمر واللبن، ويتم توزيع هذه الوجبات على المحتاجين مع حلول موعد الإفطار، بحيث يكون التكافل الاجتماعي على نطاق أوسع.

الباحث التُراثي أحمد الحسين يشير للميادين نت إلى أن عزيمة "الغرّة" تعتبر طقساً رمضانياً متوارثاً منذ مئات السنين، وتشكّل فرصة للقاء أبناء المنطقة صغاراً وكباراً في مكان واحد، حيث تسودها أجواء من المحبة والألفة، ولا تخلو من القصص الاجتماعية والذكريات المتبادلة بين الحاضرين، ويتابع الحسين: "في الغالب لا تقتصر تلك العزائم على اليوم الأول من رمضان، حيث تستمر الدعوات على الإفطار في معظم أيام الشهر الكريم من الوجهاء والشيوخ وميسوري الحال".

الأوضاع الاقتصادية وإن لم تلغِ هذا الطقس الرمضاني بشكلٍ كامل، إلا أنها ساهمت في انخفاض مساحة الحيّز الجغرافي الذي يشهد "عزيمة ليلة الغرّة"، حيث تراجع هذا الطقس في المناطق الريفية أو تلك الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، والتي تشهد توترات أمنية متواصلة. وفي هذا السياق يؤكد الحسين أن ارتفاع الأسعار بشكلٍ كبير وازدياد عدد السكان ضمن القرى والأحياء نتيجة موجات النزوح الداخلي، أدى إلى تراجع هذا الطقس الرمضاني إلى الحدود الدنيا وبات على نطاق ضيّق نسبياً، بحيث يكون عدد المدعوين محدوداً للغاية في بعض الأحيان.

وبرغم الظروف المعيشية الصعبة التي تشهدها سوريا عامةً ومنطقة الجزيرة بشكلٍ خاص يبقى لأيام وليالي شهر رمضان المُبارك تقاليد وطقوس خاصّة تميّزه عن باقي الشهور، حيث تعمّ فيه الألفة والمحبة، ويكون فرصة لتصفية النفوس والقلوب، لذلك يحرص السوريون على استمرار إحياء هذه الطقوس التي توارثوها من آبائهم وسيورثونها لأبنائهم.