الجنوبيون يشرّعون بيوتهم وأرزاقهم لآلاف العائلات اللبنانية النازحة من القرى الحدودية

بعد الثامن من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وفي ظل تصعيد العدو الإسرائيلي هجماته الوحشية على القرى الجنوبية الحدودية مستهدفاً المدنيين والبيوت والأحراج، تدفقت أعداد وافرة من أهالي تلك القرى نحو أقضية أكثر أماناً. 

  • الجنوبيون يشرّعون بيوتهم وأرزاقهم لآلاف العائلات اللبنانية النازحة من القرى الحدودية
    الجنوبيون يشرّعون بيوتهم وأرزاقهم لآلاف العائلات اللبنانية النازحة من القرى الحدودية (رويترز)

لا يستطيع شخص أن يثني نفسه عن الوقوف عند النظرة الودودة التي رمقها الحاج أبو محمد لرجل أربعيني يقف أمامه، فالشيخ الذي "لم يترك مصلحة" إلا وعمل بها منذ أن كان فتى، لم يهن عليه أن يغلق باب داره ويمضي من ميس الجبل (قضاء مرجعيون) إلى قرية أكثر أماناً بعد الاعتداءات الصهيونية التي طالت قريته، وهو الذي يعرف ميس الجبل ويعرف سكانها كباطن كفه، بوصفه راعي ماشية في القرية وجوارها. 

لكنه عندما وصل نازحاً إلى كفرصير (قضاء النبطية)، وانهالت عليه الترحيبات، كما يقول لـلميادين نت، وكثرت الدعوات له للإقامة في البلدة، شعر براحة كبيرة، فهانت الحرب، وهان نزوحها بعدما وجد أن له بيوتاً بدل البيت. أكثر من 90 يوماً قضاها أبو محمد كباقي النازحين في البلدة من دون الحاجة "لاستعمال قشة من أغراضهم التي أتوا بها". 

من يعرف الجنوبيين، يعلم أن لهم طرائق عديدة في أداء الشكر، فقد يأتون على ذكر طيب لأبيك أو جدك بعد أن "يسلسلوك"، وقد يمازحونك بلكنتهم الخاصة أو يدعونك للأكل على سفرتهم، وقد يعدونك ببضع كيلوغرامات من الزيتون والزعتر والسماق. وفي بعض الأحيان، عندما تستثار عاطفتهم، قد تطالك منهم نظرة ودودة. 

 60% من النازحين فُتحت لهم بيوت أهل الجنوب 

بعد الثامن من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وفي ظل تصعيد العدو الإسرائيلي هجماته الوحشية على القرى الجنوبية الحدودية مستهدفاً المدنيين والبيوت والأحراج، تدفقت أعداد وافرة من أهالي تلك القرى نحو أقضية أكثر أماناً. 

وبحسب آخر إحصاء لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، وصل العدد الإجمالي للنازحين من القرى الحدودية إلى أكثر من 72 ألف نازح موزعين على الأقضية. الشريحة الأكبر منهم توجهت إلى قضاء صور، حيث بلغت أعداد النازحين 24217 نازحاً، بحسب وحدة إدارة الكوارث في اتحاد بلديات قضاء صور. عدد يمكن أن يشكل ضغطاً هائلاً في ظل الوضع الاقتصادي الراهن، لو لم يبادر الجنوبيون في القرى التي تعتبر آمنة لفتح بيوتهم للنازحين. 

 التضامن الذي أظهره عدد من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي بإعرابهم عن "فتح بيوتهم للنازحين" لم يكن شكلياً قط. يذكر تقرير الأمم المتحدة نفسه أن نحو 60% من النازحين من القرى الحدودية استضافتهم عائلات أخرى، في حين لجأ 30% منهم إلى استئجار منازل، و2% توجهوا إلى منزلهم الثاني، و2% سكنوا في مراكز إيواء. 

نزحنا إفساحاً للمقاومين للمواجهة

  • نازحون من القرى اللبنانية الحدودية: خرجنا إفساحاً للمقاومين للمواجهة وبيوت الجنوبيين شُرّعت لنا

لمعرفة أحوال النازحين، قام فريق الميادين نت بجولة في قضاءي صور والنبطية، اللذين عبّرت فيهما أغلبية النازحين عن امتنانها لكرم العائلات المضيفة ودعم الأهالي. كفرصير على سبيل المثال واحدة من البلدات التي استقبلت ما يفوق 200 عائلة، فأمّنت لهم بيوتاً مجاناً، إضافة إلى عدة لوازم تشمل نحو 1419 حصة تموينية و1000 من اللوازم الطبية، و730 جرة وقود، وغيرها من المساعدات، بحسب لجنة التكافل الاجتماعي في البلدة.

في حديثه إلى الميادين نت، يقول النازح موسى قاروط إن "نزوحه كعموم أهالي بلدة ميس الجبل والقرى الحدودية مؤقت، وما كان إلا بهدف إفساح المجال أمام المجاهدين المرابطين على الجبهة، حتى لا ينشغلوا بنا". يضيف قاروط: "لم يتوانَ أهل هذه البلدة المضيفة عن تقديم كل ما يملكونه. يكفينا منهم الكلمة الطيبة والوجه البشوش. يمشي الشخص منا في الأحياء، فتتهافت عليه الدعوات لشرب الشاي والقهوة". 

أما النازحة زينب طه، فتروي عن حادثة تأثرت بها: "لو لم أرَ هذا المشهد بنفسي، لم أكن لأصدقه، فالعائلات المضيفة تفضل راحة النازحين على راحتها". تقول طه إنها ذهبت لزيارة نازحين نزلوا في ضيافة إحدى العائلات في البلدة، فاكتشفت أن العائلة المضيفة قدمت للنازحين بيتها، وانتقلت للسكن في الطابق السفلي المتواضع من المبنى، حتى لا يحتاج النازحون إلى شيء. 

الثابت في قصص النازحين على اختلافها هو شعورهم بالاحتضان، وأكثر منه بالمواساة، فما يقاسونه الآن ليس إلا دوراً من شدة مرّت على أهالي الجنوب تباعاً، والناس الذين استقبلوهم اليوم، اختبروا النزوح بالأمس إبان حرب تموز 2006، أي أنهم فعلاً بين أهلهم وناسهم، وهو ما يخفف عنهم هذا الهم. 

البلديات تحاول ما بوسعها وأهل الجنوب "بيضوها" 

  • مبادرة "نور الخير" الخيرية في مدينة صور جنوب لبنان تقدم للنازحين من القرى الحدودية مساعدات أساسية

من جهتها، تبذل البلديات جهدها في إدارة السيل البشري، محاولة تخطي التحديات التي تفرضها الأزمة الاقتصادية، فأكثر العاملين في قضاء صور مثلاً هم من المتطوعين، بحسب اتحاد بلديات صور. لذلك، يجري التعاون مع عدد من منظمات المجتمع الدولي، مثل مفوضية شؤون اللاجئين في لبنان، واليونيسف، وبرنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة، لتأمين الاحتياجات المنوطة بالنازحين، ولا سيما في مراكز الإيواء، لكن أداء هذه المنظمات يتّسم بالبطء، كما يقول الاتحاد، بذريعة أن الدولة "لم تعلن حالة الطوارئ بعد". 

 في المقابل، هناك عدة مبادرات وجمعيات خيرية محلية تسعى إلى تخفيف حدة النزوح؛ ففي مقابلة مع مبادرة "نور الخير" الخيرية، حدثتنا الأختان رقية وإسراء باجوق عن عملهما. وقد تحولت قضية النازحين من القرى الحدودية إلى إحدى أهم أولوياتهما التي تشمل تقديم مساعدات غذائية ولوازم للنساء والأطفال في الأحياء الفقيرة لمنطقة صور.

"للنزوح آثار نفسية صعبة، نعرف ذلك من تجربة أحد أقاربنا، وبالتالي نحن نحاول إلى جانب تأمين الحصص التموينية أن ننظم نشاطات ترفيهية للأطفال تساعدهم وتساعد عائلاتهم على التخفيف من الضغط النفسي للنزوح"، تقول الشابتان، وتضيفان أن أكثر ما يدفعهما إلى تقديم المزيد من المساعدات هو "تعفّف الناس" وفرحة الأطفال النازحين الذين أخبروهما أنهم "يريدون أن يصبحوا مثلهما عندما يكبرون". أما الكبار، فقد "وعدونا إنو رح يدوقونا الزيت والزيتون بالضيعة بس يرجعوا". 

المستوطنون غارقون في التخبط

تشير وسائل إعلام إسرائيلية إلى أن نحو 200 ألف مستوطن إسرائيلي نزحوا من شمال فلسطين المحتلة بسبب عمليات المقاومة، عدد منهم هاجروا بشكل كامل، وآخرون أعربوا عن عدم نيتهم بالعودة. أما من هم قيد الانتظار، فيعيشون تخبطاً وسخطاً على "الدولة العاجزة" عن تأمين احتياجاتهم. 

وتشير الصحف الإسرائيلية إلى وجود 56 ألف غرفة فندق مؤهلة لاستقبالهم، أي أن قدرة خدمتهم لا تزيد على 28% بسبب خروج العديد من الفنادق عن العمل. يعلق أحد النازحين في جنوب لبنان على الأمر: "نحن ورثنا هذه الأرض عن جدودنا، فيما لا تعني أرض الشمال للمستوطنين شيئاً. لذلك، من الطبيعي أن نعود ولا يعودوا، وأن نرتاح ولا يرتاحوا".

ينجح الجنوبيون في جميع الاختبارات، كما لو أن لهم خبرة في كسب المعارك على أنواعها. "نحن أهالي الجنوب معروفون منذ الأزل. نعيش همنا الواحد. وبحكم قربنا من فلسطين المحتلة، نحن أخبر الناس بالعدو الإسرائيلي، هذا ما يجمعنا ويدفعنا إلى التكاتف وإظهار المحبة والألفة. ولأجل هذا الهم، نحن مستعدون لبذل الغالي والرخيص". بهذه الكلمات، وبنبرة هادئة وقوية، ودع النازح ربيع قاروط فريق الميادين نت الذي ختم جولته في قضاء النبطية، بعدما أصبح المشهد واضحاً: الجنوبيون، هم أنفسهم، يظلون أنفسهم. 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.