العلاج النفسي خارج العيادة.. دور فنية في الجزائر تقدم وسائط للمساعدة

لا يقتصر العلاج النفسي في عيادات المختصين وحسب، وإنما تتوسع دائرته بحسب الحالة النفسية للمريض، ومن بين الطرق العلاجية هي العلاج بالفن، وهو ما بات منتشراً بشكل واسع في الجزائر.

  • العلاج بالفن.. هزم الأمراض النفسية بالإبداع
    عبير خليفي (15 عاماً) المصابة بمتلازمة داون

بسعادة غامرة، وثقة كبيرة، تشرح صاحبة الهمم العالية عبير خليفي، لوحاتها الفنية لزوار معرض إبداعات الطفل، بقصر الثقافة العربي بن مهيدي، في قلب العاصمة الجزائر.

قبل أشهر، لم تكن والدة عبير لتصدّق أن ابنتها ستقوى على التواصل مع هذا الجمع الكبير من الناس، فالفتاة صاحبة الـ15 عاماً، المصابة بمتلازمة داون (تريزومي 21)، عانت من نقص في الثقة بالنفس، ومزاجية زائدة وانطواء اجتماعي.

هذا التغيّر الجذري كان ثمرة تجربة علاجية بالفن، في جمعية "زهرة بلادي"، مكّنت عبير من تخطّي مشاكلها النفسية، عن طريق الرسم بتقنية "الماندالا".

"زهرة بلادي" هي واحدة من عشرات الجمعيات التضامنية، التي تعمل على تقديم الرعاية النفسية للأطفال ذوي الهمم العالية (الاحتياجات الخاصة) والمصابين بالتوحد ومتلازمة داون والسرطان، بأساليب مبتكَرة ترتكز على الفنون.

يستفيد مؤطرو الجمعية من تدريبات مجانية، يقدمها "مركز الإبداع الفني المعاصر".

العلاج بالفن.. انتعاش في زمن كورونا

تأسّس أول مركز متخصص في هذا المجال بالجزائر، على يد الفنان التشكيلي الهاشمي بوزيان، الذي استفاد في تجربته هذه، من خبرة ثلاثة عقود في التعليم، أستاذاً للرسم، ثم مفتشاً تربوياً، فمُحاضراً في المنتدى العالمي للعلاج بالفن.

خلال فترة الحجر الصحي الذي فرضته جائحة كورونا، خاصة في عامها الثاني، زاد الإقبال على الدورات العلاجية، التي ينظّمها المركز على مستوى فرعيه بالعاصمة. 

يقول الهاشمي بوزيان: "عادة ما يقصد الكبار مركزنا هرباً من الضغوط الاجتماعية، ويسجّلون أطفالهم للتخلص من شغبهم وحركتهم الزائدة، وفي الحالتين لا يؤمن المريض بقدرة الفن على علاجه نفسياً"، وفي كثير من المرّات "لا يعترف الشخص بمرضه، إلا بعد انتهاء العلاج".

التداعي الحر للتخلص من الطاقة السلبية

فور التحاقه بالمركز، يخضع المريض للفحص، توضع أمامه ورقة بيضاء وقلم غير قابل للمحو، ويُترك لأفكاره برسم ما يشاء. 

يتولّى بعدها أصحاب الاختصاص فكّ شيفرات الرسمة، التي قد تبدو لغيرهم عشوائية وفوضوية وخالية من أي جمالية، لكنها عكس ذلك، فمبدأ "التداعي الحر" لا يعترف بالعبثية أبداً، وتداخلات الخطوط والنقاط والشكل العام، هي في الحقيقة مشاعر وهواجس وذكريات كامنة، يحاول العقل الباطن التخلّص منها، وهي ما سيحدّد طريقة العلاج.

لكلّ عِلّة فنّ

لا يحتاج العلاج بالفن موهبة متطوّرة، فهو لا يتعلق بالقيمة الفنية للعمل، بل بإيجاد ارتباطات بينها، وبين ما يشعر به المريض في أعماقه، لمساعدته على التخلص من التجارب المؤلمة.

في الأغلب، يوجّه مرضى التوحد إلى قسم الفسيفساء، والمصابون بالقلق إلى الماندالا والتشكيل بالورق، في حين يوصف التشكيل بالطين (الصلصال) والنحت للمكتئبين، أما صناعة رسوم الكرتون والسينما فهي من نصيب المدمنين، ويجمع الرسم كلّ هؤلاء.

قد تختلف هذه الوصفة أحياناً، فيقرر الاختصاصي استعمال طريقة "الاستوديو المفتوح" مع فئة الكبار، وتترك للمريض حرية اختيار طريقة العلاج.

استرجاع شخصية مفقودة

يوظِّف مركز "الإبداع" الفن في العلاج وفق تصور فلسفي، يتجاوز ذلك المفهوم النمطي، فالمريض في النهاية لا يرغب في أن يصبح فناناً محترفاً، بقدر ما يبحث عن الراحة النفسية والتخلص من الطاقة السلبية.

يعتقد المعالج الهاشمي بوزيان أن الوسائط العلاجية يجب أن لا تقتصر على الريشة والألوان، بل على كل الأشياء المُهملة من أغراض المنزل وثياب قديمة ومواد من الطبيعة، لوضع المريض في حالة تواصل حسّي مع بيئته، وتحفيز المشاعر المرتبطة بها.

منح حياة ثانية لهذه المواد "معدومة القيمة"، بإعادة تدويرها ودمجها في أعمال فنية ذات قيمة جمالية، يحاكي استرجاع شخصية الإنسان المفقودة، واستعادة تقديرها لذاتها.

يُعتمَد هذا الأسلوب، بشكل خاص، مع النساء الماكثات في البيت، والمتقاعدين والمراهقين، نظراً إلى سيطرة المشاعر السلبية على هذه الفئات، واعتقادها بأنها لم تعد مفيدة للمجتمع.

تقول نادية إنها اكتشفت ذاتها من جديد، بفضل هذا العلاج.

قبل عام ونصف، فقدت نادية وظيفتها وساءت علاقتها بزوجها، ودخلت في حالة اكتئاب، صاحبتها شراهة مرضية، أكسبتها وزناً زائداً، وانعكس كل هذا على سلوكها مع أبنائها، الذي أصبح يميل نحو العنف.

اتبعت حميات غذائية لإنقاص الوزن لكن عبثاً حاولت، إلى أن قرّرت معالجة أصل المشكل بدل نتيجته.

خضعت نادية للعلاج في ورشة لفّ الورق، بهدف استعادة التحكم في سلوكها، وتفريغ شحنات توتّرها في لوحات فنية، بدل المطبخ والأكل المرضي.

بعد 3 أشهر، تخلّصت من 5 كيلوغرامات، لكن مكسبها الأكبر كان التخلص من مشاعر الإحباط والطاقة السلبية.

من الإدمان إلى صناعة المحتوى

شكّل مركز "الإبداع" نادياً لصنّاع السينما والرسوم المتحركة (أفلام الكرتون)، يضمّ أطفالاً صغاراً، حوّلوا إدمانهم على الهاتف والألعاب الإلكترونية، إلى مهارات في صناعة محتوى رقمي هادف، عبر تقنية "stop motion"، باستخدام ألعاب بسيطة أو حتى صناعتها من الورق.

يفرّق الأستاذ بوزيان بين الإدمان على الألعاب وبين صناعتها، فالأول يجعل الطفل بليداً منفصلاً عن محيطه، أما الثاني فيحفّزه على التفكير والبحث حوله عن قصص يحوّلها أفلاماً.

30% من الجزائريين في حاجة لرعاية نفسية

تكشف تقديرات الهيئة الوطنية لترقية وتطوير البحث، حاجة 20 إلى 30% من الجزائريين لرعاية نفسية، بسبب التوتر والقلق والفصام وألزهايمر، وغيرها من الأمراض.

ويقول رئيس الهيئة البروفيسور مصطفى خياطي، أن 1 من أصل 5 أشخاص يحتاج لاستشارة نفسية، في حين تعاني المنظومة الصحية العمومية من عجز كبير في الأطباء والمختصين النفسانيين.

وترى الهيئة أن وزارة الصحة مطالبة بالتنسيق مع وزارة التعليم العالي، من أجل مواكبة أنماط العلاج الحديثة، في مجال الطب النفسي.

أما الفنّان الهاشمي بوزيان فيرى أن "مجتمعنا العربي مريض.. ولشفائه، لا يحتاج منظمات تمنحه الغذاء.. بل يحتاج فنّاً يغذّي روحه، فينطلق في هذه الحياة من دون هواجس وعقد".