جنوبيون يحولون بيوتهم إلى صفوف دراسية للنازحين من القرى اللبنانية الحدودية

تحدّيات العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان قابلتها مبادرات مجتمعية كثيرة وتكاتف ملحوظ من قبل الأهالي، إن كان على صعيد الطلاب الصامدين في قراهم، أو النازحين لقرى أخرى، ومبادرة الجنوبيين لفتح بيوتهم من أجل استخدامها كصفوف دراسية.

  • جنوبيون يحولون بيوتهم إلى صفوف دراسية للنازحين من القرى اللبنانية الحدودية
    جنوبيون يحولون بيوتهم إلى صفوف دراسية للنازحين من القرى اللبنانية الحدودية

ينطلق الطالب محمد جهير صباحاً من بلدته الناقورة الحدودية، متوجّهاً إلى مدرسة صور المختلطة الرسمية، بعد إقفال مدرسته الكائنة في قرية علما الشعب أبوابها منذ الثامن من تشرين الأول/أكتوبر، نتيجة الحرب العدوان الإسرائيلي على القرى الجنوبية الحدودية.

بنبرة إصرار، يروي محمد للميادين نت عن تجربته قائلاً: "التحاقي بالمدرسة الجديدة كان خياراً جيداً، إنها السنة الأخيرة ويجب أن أنال الشهادة الثانوية، المشكلة الوحيدة هي في خطورة التنقّل بسبب القصف، لكن حتى ذلك لن يمنعني من متابعة تعلّمي".

تجربة محمد تعكس جزءاً من المشهد العام الحالي للواقع التعليمي في القرى الحدودية الجنوبية.

مبادرات مجتمعية لمواجهة التحديات

يتابع الطالب علي عليّان – زميل محمد - دروسه عن بُعد، بسبب تعذّر التحاقه بمدرسة أخرى، وفي هذا الإطار يصف للميادين نت تجربته بالقول: "نواجه أحياناً مشكلة في شبكة الإنترنت، وأحياناً أخرى يخترق صوت القصف والغارات صوت الشّرح، خاصةً وأن معظم أساتذتنا ما زالوا صامدين في القرى، طُلب منا مؤخراً إحضار إخراج قيد فردي للحصول على طلب لامتحانات الشهادة الرسمية، ولكن تفاجأنا بإضراب الموظفين في مديرية النفوس". ويضيف علي: "رغم كلّ الظروف الصعبة، لا خيار سوى التعلّم، أساتذتنا يدعموننا بكلّ الطرق المتاحة، وبعضهم خصّصَ لنا ساعات دراسية إضافية، سنتحدّى العدوان، سندرس وننجح".

تحدّيات الحرب الصعبة ومعها ظروف البلد القاسية، قابلتها مبادرات كثيرة وتكاتف ملحوظ من قبل الأهالي، إن كان على صعيد الطلاب الصامدين في قراهم، أو النازحين لقرى أخرى، وقد رصدت الميادين نت عيّنات من هذه المبادرات في قرى جنوبية ضمن أقضية مختلفة.

مريم صالح، سيدة من قرية تبنين الجنوبية (قضاء بنت جبيل)، نقلت نماذج حية عن هذه المبادرات في قريتها. في الحي الذي تقيم فيه مريم، يجتمع ما يقارب الـ25 طالباً يومياً في منزل والدتها، حيث أمّنت الوالدة لهم تجهيزات الدراسة من مقاعد وطاولات وشبكة الإنترنت والتدفئة اللازمة، وفتح الأهالي بيوتهم لاحتضان أولياء الأمور، كما سارعوا لتأمين الاحتياجات الأساسية للبيوت غير المجهّزة، من إمدادات مياه وكهرباء ومفروشات.

في سياق متصل، تشير مريم إلى الدور الذي تؤدّيه بعض معلمات القرية في مساندة الطلاب النازحين ودعمهم أكاديمياً، فضلاً عن المساعدات العينيّة التي ترد من المغتربين، والتي تشمل الطلاب وأولياء أمورهم، وبعبارةٍ  مصحوبة بابتسامة رضى واعتزاز، تختم مريم حديثها قائلة: "المشهد فعلاً ملفت، شي بكبّر القلب".

"ما كان لله ينمو"، بهذه الكلمات يعبر علي سلمان عن المبادرة الإنسانية التي يقودها في قريته القْلَيْلة (قضاء صور)، حيث تتضمّن المبادرة جمع مبالغ مالية من الخيّرين، تُخصّص لتوفير مستلزمات تعليمية ودفع أقساط مدرسية وجامعية لطلاب القرية، وقد تم تعزيز المبادرة بشكل أكبر في ظل الحرب ومع صمود الأهالي ورفضهم للنزوح.

خطة طوارئ الوزارة 

بعد شهرٍ تقريباً على بدء الأحداث، بدأت  وزارة التربية والتعليم  تنفيذ خطة طوارئ للمدارس الرسمية المقفلة في القرى الحدودية والتي بلغ عددها 44 مدرسة، تضم 6800 طالب و1400 أستاذ. 

محمد دروبي، مدير ثانوية عيتا الشعب الرسمية، تحدّث للميادين نت عن تفاصيل الخطة على صعيد المدارس الرسمية قائلاً: "بدأنا التعليم عن بُعد منذ بداية شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي للطلاب الذين تعذّر عليهم الالتحاق بمدارس أخرى، وقد عمدت الوزارة خلال الأسبوع الأول من الشهر الحالي لتوزيع أجهزة حواسيب محمولة للأساتذة، وأخرى لوحيّة للطلاب في المدارس الابتدائية"، وأشار دروبي إلى أنّ الأعداد لم تكن كافية"، وأضاف: "أما فيما يتعلّق بالثانويات، فقد تمّ تزويد الوزارة منذ أيام بأعداد وأسماء الأساتذة لتجهيز حواسيب محمولة لهم".

في السياق نفسه، لفت دروبي إلى وجود مبادرة صادرة عن النائب أشرف بيضون، بالتعاون مع اليونسيف وبالتنسيق مع الوزارة، تقضي بتسجيل أسماء هؤلاء الطلاب والأساتذة في برنامج رديف لبرنامج الوزارة يسمى "AP SIMS"، تستخدمه المنظّمة بهدف منح الأساتذة والطلاب المسجّلين مبلغ 60 دولاراً شهرياً كبدل نقل.

من جهته، أكد حسين شبلي، مدير ثانوية القْلَيْلة الرسمية، للميادين نت، أن الثانوية ما زالت تزاول عملها الأكاديمي بشكل شبه طبيعي "بعد أن تعايش الناس مع الجو الأمني الصعب وفضّلوا البقاء في بيوتهم".

تضمّ المدرسة حالياً طلاباً نزحوا إليها من مناطق أخرى، وأوضح شبلي أن هؤلاء "تتمّ متابعتهم عن كثب، وقد عملت الإدارة على تأمين كتب لهم على نفقتها الخاصة، في المقابل ثمة طلاب من المدرسة نزحوا والتحقوا بمدارس رسمية أخرى، وتتمّ أيضاً متابعتهم مع إدارات المدارس الجديدة".

يُذكر أن وزير التربية والتعليم العالي عباس حلبي، وأثناء قيامه بجولة تفقّدية بتاريخ 23 كانون الثاني/يناير 2024، لمتابعة تنفيذ برنامج التعلّم عن بُعد والتعلّم الحضوري للتلامذة النازحين والملتحقين بمدارس ومعاهد رسمية، التقى في ثانوية صور المختلطة عدداً من مديري المدارس والثانويات والمعاهد الرسمية في منطقتي الجنوب والنبطية.

وأشار في تصريح له خلال اللقاء إلى "ضرورة تأمين الحد الأدنى من العلم للتلاميذ في هذه المناطق، كما يجب ألّا نترك الأساتذة في هذه المناطق بلا عمل"، وعلى صعيد صفوف الشهادات الرسمية، أكد أنّ الامتحانات قائمة بالتأكيد وليس هناك لغاية الآن أي قرارات جديدة بشأنها.

حلول ووسائل بديلة 

بعد بدء الحرب، أقفل مجمّع المبرات في بلدة الخيام (قضاء مرجعيون) أبوابه نظراً لموقعه الجغرافي غير الآمن. مدير المجمّع الأستاذ أحمد عطية شرح للميادين نت آلية عملهم الجديدة كالآتي:" أعدت المؤسسة منذ 6 سنوات آلية عمل لمواجهة الأزمات تضمّنت إنشاء منصة تعليمية خاصة، ورغم أن الأزمة الحالية كانت جديدة نسبياً علينا، إلا أن فريق إدارة الأزمات وضع على الفور خططاً بديلة وجديدة لمواجهتها".

وأضاف" في المجمّع 1368 طالباً تقريباً (مدرسة عيسى بن مريم ومبرة النبي إبراهيم للأيتام) تَوزَّع ما يقارب الـ 635 منهم على 10 مدارس تابعة لجمعية المبرات وعلى مجمّعَين تعليميّين استُحدثا في بيروت والنبطية، أما العدد المتبقّي  والبالغ تقريباً 685 طالباً فقد تابعوا التعلّم عن بُعد، حيث قام فريق العمل بإجراء تعديلات على المنصة التعليمية لتكون أكثر فعالية".

يضيف الأستاذ أحمد أن المؤسسة قدّمت مساعدات مادية وعينية لعائلات أيتام المبرة، وأجهزة للطلاب للتعلّم عن بعد، وقد تمّ ذلك بالتنسيق مع عدد من الجمعيات الأهلية والبلديات التي نظّمت أيضاً نشاطات للدعم النفسي للطلاب.

يعيش الطالب الجنوبي اليوم تجربةً فريدةً من التعلّم، تحيطها مخاطر الحرب من جهة، وتحدّيات المعيشة الصعبة من جهة أخرى، وبين هذه وتلك، تتجلى إرادة الجنوبي الصلبة، وعزمه على التعلّم رغم كل الصعاب، لأن الجهاد  في مفهوم الجنوبي العاملي لا يخلو من ثقافة التعلّم، تماماً كمفهومه لحياةٍ مشرّفة لا تخلو من ثقافة التضحية والشهادة.