زينة حول الركام واستئناس برمضان.. أهالي غزة "يتناسون" جوعهم
الهاجس الأكبر، الذي يشغل المحاصَرين في شمالي غزة، هو السؤال الذي يتكرر ألف مرة في كل لحظة: على أي شيء سنفطر؟ وبمَ سنتقوّى على الصوم في السحور؟
كل المشاهد التي تقرأها عيناك، وأنت تمشي في شوارع مدينة غزة المدمرة هذه الأيام، تستدعي إلى ذهنك المشاهد التي تخزنها الذاكرة، لما تكون عليه الحال في الأيام التي تسبق الشهر الفضيل من كل عام.
أكثر الذين نالوا فرصة السفر والتجول بين العواصم العربية والإسلامية من سكان القطاع، خلال الأعوام الماضية، يُقرّون دائماً بأن أجواء شهر رمضان في غزة هي الأجمل والأحلى. صحيح أن هناك اعتبارات ذات صلة بالقرب من العائلة والجيران، لن تكون متوافرة لأي مغترب، إلا أنه للموضوعية، ومن دون أدنى درجة من الانحياز، فإن لغزة نكهتها وأجواءها الخاصة، والتي لا تتصل بطبيعة الشعب الذي يبحث عن أي فرصة للفرح فقط، وإنما بالطباع التي صنعها تراكُمُ أعوام الحصار الطويلة، والحروب المتتابعة.
الناس هنا بسطاء، متدينون بالفطرة، تربطهم بخالقهم علاقة ودودة خاصة، قائمة على حسن الظن، على قاعدة أن الله سيكافئ أهل غزة جميعهم على كل ما قاسوه، ويدخلهم الجنة بلا حساب.
لكن الجدير ذكره أن الطقوس المادية، التي يُستقبل فيها الشهر الفضيل، ليست أصيلة. فوانيس رمضان، حبال الزينة الملونة، المعلقات المضيئة التي تملأ الشوارع، كلها مظاهر لم تكن منتشرة بتلك الكثافة، قبل عشرين عاماً من اليوم، وإنما هي وافدة، صنعتها حالة التأثير والتأثر المتبادلين مع مصر، أُعجب بها الناس، واستنسخوها من شوارع الجارة الكبرى، حتى صرت تشعر، في أثناء تجوالك في سوق الزاوية أو شارع عمر المختار مثلاً، بأنك تسير في شوارع محافظة الجيزة، أو وسط البلد في القاهرة.
وإن كانت فكرة الزينة مستوردة، فإن الصبغة الفلسطينية حاضرة. كل لافتة أو فانوس ضخم يتوسط المفترقات، يذكّر بالبلاد الضائعة، ويبشّر بالأمل الذي لم يملّ الناس تكراره في كل عام: "رمضان المقبل في باحات الأقصى، إن شاء الله".
سيكون صعباً أن تمشي في الشوارع التي لن تشاهد فيها سوى دمار على مد البصر، من دون أن يطربك صوت ابتهالات النقشبندي، أو من دون أن تبهر عينيك حبالُ الزينة، وتشدك أنواع المخللات والمشروبات، وحلويات القطائف والخضروات التي تزدحم بها الشوارع.
في خضمّ هذه الحرب، وعلى رغم قسوة الظروف، فإن الناس لم ينسوا طقوسهم. في الجهة الغربية من سوق الصحابة، شمالي شرقي مدينة غزة، ستلاحظ أن هناك من يصر على صناعة خيط من البهجة والفرح. هناك، خطت أيدي الشبان بالطلاء الزاهي على الجدار: "مبارك عليكم الشهر، رمضان كريم على رغم الحرب والدمار"، وعلقوا عدداً من حبال الزينة.
أما السوق المزدحمة بالآلاف، فعكست بساطته الخاوية من البضائع واقعَ المجاعة القاسي. لا أجبان، ولا تمور ولا فواكه مجففة ولا أي نوع من البقوليات، لا عصائر ولا حلاوة السمسم، ولا خروب ولا قمر الدين. لا شيء متوافر من البضائع الرمضانية، التي تزدحم بها أسواق القطاع في هذا التوقيت. والحق، أن المواد التموينية الأساسية، مثل الطحين والأرز والبقوليات والمعلبات، نسي الأهالي، الذين فُرضت عليهم المجاعة، شكلَها: "صايمين في غير أوانا.. بدأ رمضاننا مبكراً"، قال الحاج أبو محمد للميادين نت، وأضاف أن "منظر الأسواق، والناس الحزينة على فراق من تحب، الأهالي إلي فقدوا المأوى، العائلات التي تشتت شملها بين الشمال والوسط والجنوب، كل شيء مبكٍ، لكن الأمل بالله كبير".
الهاجس الأكبر، الذي يشغل المحاصرين في الشمال، هو السؤال الذي يتكرر ألف مرة في كل لحظة: على أي شيء سنفطر؟ وبمَ سنتقوّى على الصوم في السحور؟
فقدَ الناس كل شيء. الخبز عملة نادرة، يقول أبو محمد بعلوشة، وهو موظف حكومي يشغل منصباً مرموقاً في وزارة التربية والتعليم: "جمعت كل ما في البيت من أموال، حتى أشتري كيس طحين واحداً لرمضان. في الأعوام الماضية، كنا نتحير شو نشتري من أصناف المونة الرمضانية، الآن بدنا خبز فقط، خبز بزيت وفلفل أحمر، إن توفّر كإفطار وسحور، نعمة وفضل (..) لكن الحمد لله، كل شيء بأجره، الله يخصنا بهذا الابتلاء العظيم".