شهداء الشمال يُدفنون مرتين.. الغزّيون يكرّمون جثامين أحبائهم بـ"جنائز لائقة"

ثلاث مقابر تاريخية في محافظة شمال قطاع غزة، هي الفالوجا وبيت لاهيا ومقبرة الشهداء الشرقية، عاثت فيها جرافات الاحتلال خراباً، السيناريو نفسه تكرر في مقبرتي البلتاجي والبطش في حيي التفاح والشجاعية شرقي مدنية غزة.

  • مقابر جماعية في سوق جباليا شمال قطاع غزة
    مقابر جماعية في سوق جباليا شمال قطاع غزة

قاسية هي الطقوس التي تفصل بين صعود روح من نحب، ومواراة أجسادهم الثرى، بكلّ ما فيها من تفاصيل، التكفين والغسل ثم وداع العائلة، لحظة الفراق الرهيبة عند الخروج الأبدي من باب البيت، إلى حفر القبر، ثم إهالة الرمل، ذلك الوقت، يحسب بعداد الثواني، ويجتهد المكلومين في تناسيها فور انتهائها، يقولون في غزة: "نار الفقد، تبقى مشتعلة طالما لم يكرّم جسد الفقيد بالدفن".

في خلال هذه الحرب، كانت واحدة من جملة الأمور غير المفهومة إلى الآن، هي العلاقة المتوترة جداً بين جيش الاحتلال ومقابر الشهداء والأموات، ثلاث مقابر تاريخية في محافظة شمال قطاع غزة، هي الفالوجا وبيت لاهيا ومقبرة الشهداء الشرقية، عاثت فيها جرافات الاحتلال خراباً، السيناريو نفسه تكرر في مقبرتي البلتاجي والبطش في حيي التفاح والشجاعية شرقي مدنية غزة، وإلى جانب الخراب، نبش القبور وانتشال الجثامين من لحودها، استمرت طائرات الاحتلال المسيرة، طوال شهرين، حتى بعد انسحاب دباباته من المناطق المأهولة في أوساط المدن والمخيمات، في قصف كل من يحاول الاقتراب من تلك المقابر.

تشكلت المقابر المؤقتة، إذ بدأ الناس يدفنون موتاهم في أي فسحة من التراب، على قارعة الطريق، في مراكز الإيواء، في الأسواق والشوارع، في قبو البيت، في حوض ورود كبير فوق سطح المنزل، الآلاف من الشهداء دفنوا في تلك المناطق، حتى استحال كل شبر في البلاد مقبرة.

اليوم، وبعدما هدأت حدة القصف وتراجعت العمليات البرية إلى حدودها الدنيا، في مناطق الشمال، بدأ ذوي الشهداء في إعادة الطقوس ذاتها: "القبر هو الشاهد المادي الوحيد، الذي يحفظ لنا ذكرى من نحب، نحن نؤمن أن الجسد في حسابات الله لا شيء، وأن الحياة الأخرى عمادها الروح التي نجهل كنهها، لكننا بشر، نأنس بزيارتهم، نلقي إليهم وجعنا، نقرأ على أرواحهم الفاتحة، نزورهم في أوقات الفرح لنفرحهم معنا، لذا علينا أن نكرم دفنتهم"، قال أبو محمود الشريف، وهو يقف على قبر شقيقه الأكبر الذي اضطر لدفنه في فسحة من التراب خلف الفصول الدراسية في إحدى مدارس وكالة الأونروا بمخيم جباليا.

وأضاف للميادين نت: "هذه هي المرة الثانية التي نعيش فيها الطقوس القاسية، دفنّاه قبل شهرين، واليوم نعيد فتح القبر، ونحفر قبراً آخر في مقبرة بيت لاهيا، نحمله وهو متحلل على الأكتاف، نصلي عليه ثانية، نعيد دفنه، ندعو على قبره الجديد للمرة الثانية، ثم نتلقى التعازي مجدداً".

ولحسن حظ عائلة الشريف، أنها كانت قد استحاطت لتلك اللحظة، لقد أحاطوا الجسد الحبيب بالنايلون، وغطوه بحرام قماشي، وحصنوا حفرة القبر المؤقت بألواح من الخشب قبل أن يردموها بالتراب، خططوا لذلك جيداً برغم قسوة الظرف الأمني حينها.

لكن عائلة أحمد التي دفن الجيران عنها والدها الستيني، من دون أن تدري أصلاً باستشهاده، تعيش اليوم خشية الموقف الذي لا بد منه، لقد استشهد الوالد أبو محمد في خضمّ التوغل البري في حي تل الزعتر، بقي جسده مسجىً في الشارع لـ18 يوماً، قبل أن تتاح الفرصة عقب انسحاب جيش الاحتلال، ويبادر من عرفه من جيرانه إلى دفنه، في حفرة بفسحة من قطعة أرض مجاورة لبيته، على أن الطيران الحربي وقتذاك، لم  يتح لهم تجهيز قبرٍ مؤقت بالطريقة التي يسمح لهم فيها بإعادة الانتشال والنقل إلى المقبرة الرسمية على نحو أقل قسوة. يقول نجله النازح إلى جنوب القطاع: "حدا يفهمني كيف رح نطلعه من بين الرمل، كيف رح نتحمل نشوفه بهيك صورة.. هذا وجع أكبر من طاقتنا يا الله".

في جنوب قطاع غزة، يبدو كل ما سلف ذكره في هذا التقرير ترفاً، حتى اللحظة، ليس بوسع ما أمتلكه من مفردات أن توصف شعور المئات الذين تجمعوا حول شاحنة كانت تقل جثامين 400 شهيداً، اختطف الاحتلال رفاتهم من مستشفى ناصر، وأعادهم أخيراً بعدما تثبت أنهم ليسوا من جنوده ومستوطنيه، لا أحد تعرف أيهما جثمان والده أو شقيقه أو فلذة كبده، لقد وحدت الأكفان الزرقاء بين الجميع، المذيلة برقم باللغة العبرية، حملوا على كف جرافة، وأنزلوا حفرة كبيرة، ستغدو مقبرة جماعية، دمعة واحدة على جميع الشهداء، فاتحة على أرواح كل من ظلموا أحياءً وشهداء.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.