صبري جريس.. الباحث الطلائعيّ الذي عاين يوميات فلسطينيي 48 عن قرب

يتحدث الباحث الفلسطيني والمؤرّخ والمناضل، صبري جريس، عن مسيرته النضاليّة والبحثيّة المستمرّة منذ أكثر من 60 عاماً، والتي عاين خلالها المجتمعات الفلسطينية في الداخل المحتل عن قرب ونقل يومياتها وتفاصيل حياتها إلى العالم.

  • الباحث الفلسطيني والمؤرّخ والمناضل، صبري جريس
    الباحث الفلسطيني والمؤرّخ والمناضل، صبري جريس

داخل مكتبه المكتظّ بالكتب المكدّسة والدراسات في قرية "فسوطة" في أعالي الجليل، يتحدث الباحث الفلسطيني والمؤرّخ والمناضل، صبري جريس، عن مسيرته النضاليّة والبحثيّة المستمرّة منذ أكثر من 60 عاماً.

طفولة لا تعترف بالحدود

مع احتلال فلسطين عام 48، كان صبري جريس في العاشرة من عمره، يسكن مع والديه في قرية "فسّوطة" المحاذية للحدود الفلسطينية-اللبنانية. كان طفلاً ذكياً ومشاكساً فضوليّاً يبحث دائماً عن المعرفة.

يتحدث جريس عن طفولته التي لا تعرف الحدود: "الحدود كانت خطّاً شبه وهمي. كنا نذهب إلى لبنان باستمرار وكان الدركي يطلب من الرجال والنساء إظهار هويّاتهم، أمّا أنا فأمرّ بلا إذن، فالدركي لا يسأل الأطفال. أذكر بالتفصيل زياراتي مع أمّي وعمّتي، للسوق في قرية عنيبل (عين إبل) لشراء الخضراوات والمنتجات الزراعية والأقمشة للفساتين. وأنا كانت حصّتي الحلويات - الكثير من الراحة والبقلاوة".

مفهوم الحدود لدى جريس الطفل كان "حبراً على ورق" كما يصفه، لكنّه شعر به للمرة الأولى بعد احتلال فلسطين، وتحديداً في منتصف الخمسينيات عندما أغلقت الحدود تماماً، ما شكّل لديه حالة مستمرة من الرفض والمقاومة، رفض الواقع الجديد وحدوده، وهذا الرفض أثّر في فكره ونهجه لاحقاً.

ويصف التغيير المُفاجئ والعزلة اللذين فرضهما عليه الاحتلال، قائلاً: "عرفت الوحدة في سنّ صغيرة. بعد الاحتلال بدأت أشعر بوحدة قاتلة وكأن كل شيء اختفى من حولي – خمس قرى فرغت من سكّانها: سحماتا وإقرث ودير القاسي والمنصورة وجزء كبير من ترشيحا. بلدتي أصبحت معزولة وتلك القرى التي اعتدت زيارتها مع أبي لشراء وبيع المواشي، دمّرت وهُجّر سكّانها".

طلائعي يزيل الستار

أنهى صبري جريس المرحلة الابتدائية في القرية، والثانوية في كليّة "تيراسنطة" في الناصرة، ثمّ التحق بكليّة الحقوق في الجامعة العبريّة في القدس، وتخرّج منها عام 1962 بدرجة الماجستير في الحقوق وحاز رخصة مزاولة المحاماة في فلسطين المحتلة عام 1965، وعمل في المجال حتى عام 1970.

في هذه الفترة عمل أيضاً لإصدار باكورة أعماله، كتاب "العرب في إسرائيل"ـ  كتبه جريس باللغة العبريّة، وترجم لاحقاً إلى 9 لغات ليكون مرجعاً أساسياً للباحثين، ويُعد اليوم من روّاد البحث المنهجي المتعلق بالفلسطينيين في الداخل المحتل، إذ أزال عنهم الستار الذي وضعته "إسرائيل" مع احتلال فلسطين.

فبعد احتلال فلسطين وتهجير أكثر من 700 ألف فلسطيني، بقي في البلاد ما لا يزيد على 150 ألف وجدوا أنفسهم تحت حكم عسكري جائر وفي عزلة تامّة عن امتدادهم الطبيعي. كانت حال من بقي في البلاد حالاً استثنائية، وأشبه بالسجن. فمن جهة أصبحوا مواطنين في كيان أقيم على أنقاض مدنهم وقراهم المدمّرة، ومن جهة أخرى أصبح أبناء شعبهم ينظرون إليهم بنوع من الشكّ والريبة. ومع فرض الحكم العسكري عليهم مباشرة، ومنعهم من التنقّل إلّا بتصريح من الحاكم العسكري، باتوا في عزلة تامّة، وعن هذه الحال أسهب صبري في كتابه "العرب في إسرائيل" لتوثيق أحوال شريحة الفلسطينيين في الداخل.

وعن تجربة إصدار كتابه الأوّل يروي جريس: "كتبت هذا الكتاب عندما كنت في الثامنة والعشرين من عمري. كبرت تحت الحكم العسكري، وكنت شاهداً على الظلم والتهجير فترجمت التجربة إلى كتاب. بصراحة، لم أتوقّع أن يترجم إلى لغات عديدة ويلقى هذا الصدى. في أعمالي أحب أن أكتب ما لا يحب الآخر أن يسمعه. كتبت الكتاب باللغة العبريّة قصداً، أردت أن يخرج القارئ العبري من عالمه الغوغائي. ببساطة أردت أن أشرح لليهود ما يلاقيه العرب من اضطهاد تعتّم عليه الدولة تعتيماً كاملاً، وما نشر حول العرب كان فقط تضليلاً لأنهم أرادوا خلق صورة معيّنة عن العرب، حتى إنني لم أجد أي دار نشر عبرية توافق على نشره، فذهبت إلى مكتب صحيفة الاتّحاد وطلبت مساعدتهم في النشر، كنت مصرّاً على ذلك، حتى إنني ذهبت بنفسي واشتريت الورق".

صدر هذا الكتاب عام 1966، وأصبح مرجعاً أساسياً للباحثين، وأثار اهتماماً عالمياً واسع النطاق بشريحة الفلسطينيين في الداخل، على الرغم من معارضة رئيس الشاباك الإسرائيلي، الذي اقترح آنذاك منع نشر الكتاب في أحد الاجتماعات، وقد علم بذلك جريس من خلال باحث يهودي التقاه وأحضر له بروتوكول الاجتماع.  

عقلٌ لا يهدأ

كتاب "العرب في إسرائيل" لم يكن الأخير، فقد نشر العشرات من المقالات والدراسات طوال سنين حياته، وما زال. ولعلّ كتابه "تاريخ الصهيونية" من أهم أعماله وصدرت عام 1976، بعد كتاب "العرب في إسرائيل".  فمنذ 60 عاماً يبحث جريس في بروتوكولات الحركة الصهيونية ويدرس أعمال "الآباء الأوائل" للحركة.

وملخص آرائهم أجمع أنه إذا كان لشعوب أوروبا الحق في استعمار شعوب آسيا وأفريقيا فكم هذا حري بنا نحن الذين تربطنا علاقة ما بهذه الأرض، بحسب ادعائهم. ويضيف: "مشكلتهم الأساسية أنهم مهما حاولوا أن يتجمّلوا، فهم لا يستطيعون إخراج أنفسهم من مأزق جوهر الحركة الصهيونية! فهي حركة استعمارية بحتة، وهذا لن يدوم طويلاً. كيانهم استعماري وعقلهم استعماري، حركة استعمارية "ديلوكس" والعقد النفسية تتحكم بهم".

عند سؤاله عن سرّ استمراره في الكتابة والإنتاج بعد أن تخطّى عامه الثمانين، قال: إن المرّة الأخيرة التي شعر فيها بالملل، كانت في الصف الحادي عشر لأنه أتمّ واجباته المطلوبة قبل نهاية العام   وأضاف: "لديّ دائماً ما يشغلني، دائماً لدي هدف، وما يساعدني على الكتابة أنني أعيش وحدي! وغير مضطر إلى السعي وراء أسباب المعيشة. كلّما أكبر عقلي يكبر وأفكر بطريقة هادئة وأعمق وكأن عقلي أصبح يعد إلى العشرة من تلقاء نفسه. كما أنني بعيد عن الاندفاعية ولدي منطق بارد كالحديد".

تأسيس حركة "الأرض"

بعد فرض الحكم العسكري، منعت "إسرائيل" الفلسطينيين، الذين بقوا في أرضهم من ممارسة حقهم في التنظيم السياسي أو إقامة أي أطر قوميّة، إلّا أنّ الاضطهاد الممنهج ضدّهم وسياسة مصادرة الأراضي ومنع الحركة دفعت جميعها عدداً من الشخصيات العربيّة إلى تنظيم أنفسهم بهدف التصدّي لتلك السياسات. 

يقول جريس: "آنذاك، كان الحزب الشيوعي الإسرائيلي أحد أهم منابر الوعي السياسي، وكانت أغلبيّة أعضائه من العرب. في عام 1958، قررت الشخصيات العربية في الحزب وشخصيات وطنيّة من خارج الحزب، إنشاء تنظيم للتصدي لسياسة الحكومة. وفعلاً جرى إنشاء الجبهة الشعبية، إلّا أن~ بعض الأحداث في المنطقة العربية أثّرت في هذا التنظيم، وتحديداً الخلاف بين الناصريّة والحزب الشيوعي العراقي. صحيح أن نشاط الجبهة الشعبية لم يرُق لإسرائيل إلا أنه الحزب الوحيد الذي يستطيع تنظيم نفسه سياسيّاً! لأنه يعترف بوجود "إسرائيل". فقرّرنا نحن مجموعة القوميين العرب الناصريين، أننا نختلف عن الحزب الشيوعي، إذ إن موضوع الإخاء بين اليهود العرب ليس في سُلّم أولويّاتنا، وأننا لسنا جزءاً من الحركة الشيوعية العالمية. أنشأنا حركة "الأرض"، وهو أوّل تنظيم سياسي-فلسطيني بحت بعد النكبة. وبطبيعة الحال، هذا شيء لا تريد "إسرائيل" أن تسمع به وتراه! كنا حركة عربية قومية فلسطينية وجلّ اهتمامنا كان قضيّة عودة اللاجئين وتنفيذ قرارات التقسيم".

ويضيف: "لاحقتنا الدولة وكأننا مجرمون، منعتنا من إصدار الجرائد والنشرات، ولاحقتنا حتى تفكيك الحركة. منذ البدء حاولنا أن نحصل على الشرعية من خلال تسجيل الحركة كحزب، أو إقامة الأندية، إلّا أن "إسرائيل" لم توافق بادعاء أن أهداف الحزب تضر بأمن وكيان الدولة، ولم نحصل على أي رخصة شرعية لمزاولة عملنا كجماعة، لكن واصلنا عملنا السياسي كأفراد، إلى أن جرى تفكيك الحركة عام 1966 وإعلانها حركة خارجة على القانون".

منفى وعودة

كانت تجربة تنظيم حركة "الأرض" وحدها كافية بالنسبة إلى صبري جريس ليقرّر الرحيل، إضافة إلى العيش تحت جور الحكم العسكري. يقول جريس: "لم أكن حرّاً ولو يوماً واحداً! حتى بعد إلغاء الحكم العسكري كنت ضمن "قائمة المئة شخص" الذين لا تسري عليهم التسهيلات، ويبقى الحكم العسكري قائماً بالنسبة إليهم. وكل هذا بسبب نشاطي السياسي. حتى عندما عملت محامياً، كنت بحاجة إلى تصريح لدخول المحاكم". 

في عام 1970، غادر جريس البلاد إلى أوروبا ثمّ إلى بيروت، حيث التحق بحركة التحرير الوطني (فتح)، وعمل رئيساً لقسم الدراسات الإسرائيلية في مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت (1971-1973) ثم انتقل للعمل في مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية كمشرف على الدراسات الإسرائيلية فيه، وعين فيما بعد مديراً عاما للمركز عام 1978. 

عام 1983، انتقل جريس للعيش في نيقوسيا بقبرص، بعد أن أعيد افتتاح مركز الأبحاث هناك، إثر تفجير مقرّه في بيروت، وفي عام 1994 عاد إلى مسقط رأسه، وما زال يعيش هناك، بعد شتات دام أكثر من 35 عاماً وذلك في أعقاب اتّفاق أوسلو.