صناعة الأجبان الحموية: تراث عريق يواجه صعوبات الإنتاج

تشتهر محافظة حماة بأنها منطقة زراعية ذات غلال وفيرة، وتتنوّع قطاعات الإنتاج في المحافظة، أبرزها تُعنى بتصنيع الأجبان والألبان ومشتقاتهما.

  • صناعة الأجبان الحموية تراث عريق يواجه صعوبات الإنتاج
    صناعة الأجبان الحموية تراث عريق يواجه صعوبات الإنتاج 

لا تزال محافظة حماه حريصة على صناعة الأجبان فيكفي القول "جبنة حموية" للدلالة على الجودة العالية والطعم المميز. وقد ساهم موقع حماه الجغرافي وقربها من بادية الشام والمراعي الخضراء الواسعة التي تضم ثروة كبيرة من قطعان الأغنام والأبقار في استمرار هذه الصناعة، بالإضافة إلى خبرة محترفيها وعراقتهم، والذين توارثوا هذه المهنة عن أجدادهم، وعملوا على تطوير خطوط الإنتاج بالاعتماد على استخدام التقنيات الحديثة في صناعة الأجبان ومشتقاتها.

تشتهر محافظة حماه بأنها منطقة زراعية ذات غلال وفيرة، وتتميز بسهولها الممتدة وبيئتها النظيفة، ومن أهم سهول المحافظة سهل الغاب وسهل العشارنة وسهول وادي العاصي المتموضعة حول مجرى نهر العاصي، وتساهم هذه السهول في رفد الإنتاج الحيواني ما جعل من حماه مركزاً لمؤسسات الخدمات الحيوانية مثل المؤسسة العامة للأبقار، وكلية الطب البيطري، بالإضافة إلى مراكز بحوث تحسين الوراثة للأغنام والماعز. 

صناعة الأجبان مهنة توارثتها الأجيال 

تتنوّع قطاعات الإنتاج في المحافظة، بعض منها يجاري التقنيات والأساليب الحديثة والمتطورة في الإنتاج، وبعضها الآخر عبارة عن ورشات حرفية صغيرة تعمل في الأحياء الشعبية وبعض الأماكن الخاصة، وكلا القطاعين يمارسان نشاطهما على مدار العام وبإنتاجية عالية في حين أن القطاع الثالث والأخير يتمثل بإحداث مراكز موسمية تُعنى بتصنيع الأجبان والألبان ومشتقاتهما، وتنشط في مواقع تربية الأغنام في البادية، وذلك خلال فصل الربيع حصراً حيث يتم شراء الحليب من المربين وتصنيعه بشكل مباشر في المنطقة نفسها، مع الإشارة إلى أن هذه المراكز تعمل فيها أعداد كبيرة من مصنّعي الأجبان، وبالتالي ينتجون كميات كبيرة من مختلف أصناف الأجبان، وخاصة العكاوي المشهور. 

رأفت الدريعي (66 عاماً) قال للميادين نت: "توارثنا هذه المهنة عن جدّنا الذي أدخلها إلى السوق منذ عام 1910، بدأ في مصنع يدوي صغير لصناعة الأجبان في مدينة حماه، وأخذ ينمّي صناعته ومبيعاته بتفانٍ وصدق، وتوّج طريقته بإخلاصه في عمله ومحيطه وانتشر الإنتاج في أنحاء سوريا وكانت الجودة جيدة جداً". 

وأضاف: "للجبن الحموي خصوصية في مذاقه ونكهته وهذا يعود أولاً إلى المراعي، فالمرعى ينعكس على جودة الحليب وطعمه، وثمة مناطق في أرياف حماه نسعى لشراء حليبها بسبب انخفاض حموضته؛ لأن ارتفاع الحموضة يؤدي إلى تخثر الحليب، ويمكن اختبار حموضة الحليب بغلي عيّنة منه على النار، فإن تخثر الحليب دلّ ذلك على ارتفاع حموضته وعدم صلاحيته لصناعة الجبن. قد تتعدد الأصناف لكن المذاق واحد، من العكاوي إلى الأقراص والحلوم والشلل، واستطعنا أن نوصل المنتجات إلى فنادق دمشق الشهيرة والعديد من البلدان عبر تصدير كميات كبيرة". 

ووفقاً للدريعي، فإنّ "تصنيع الكيلوغرام الواحد من الجبن الجيد يحتاج إلى 6 كيلوغرامات من الحليب خلال فصل الشتاء أو الأيام التي يكون فيها الطقس معتدلاً، أما في أيام الحرارة الشديدة، فكل 7.5 كيلوغرامات من الحليب ينتج منها كيلوغرام من الجبن. أما أفضل أنواع الجبن فهي: الجبنة البلدية وجبنة الغنم وجبنة البقر والجبنة الخضراء والبيضاء والشلل والجبنة العكاوية وجبنة الحلّوم وغيرها الكثير...، ولتحضير الجبنة طرق عدّة، تبدأ بغلي الحليب، ثم إضافة بودرة المنفحة (للتخثير) بعدها يتم وضعها في براميل مخصصة، لفصل المياه الناتجة من العملية عن الجبن أسفل البرميل، ويتم تقطيعها وحفظها في مياه مالحة".

أما الجبنة الحلوم أو المشللة التي تتميز بصناعتها حماه فهي من الأجبان القاسية المتخمرة، وتتم صناعتها بتخثير الحليب، إذ توضع الخثرة بعد تشكلها في قوالب وتترك في مكان بارد حتى تختمر وتنضج ثم تقطع قطعاً صغيرة وتوضع في سلال لتغطى في ماء حرارته بين 70-80 درجة مئوية حتى تصبح كالعجين ثم تؤخذ منها قطع صغيرة وتسحب منها خيوط تلف فوق بعضها ثم تلقى في ماء بارد وتحفظ بعدها في محلول ملحي وتخزن لحين الاستعمال"، بحسب تعبيره.

المشكلات التي تهدد استمرار هذه الصناعة العريقة 

  • الجبنة الحلوم أو المشللة التي تتميز بصناعتها حماة فهي من الأجبان القاسية المتخمرة
    الجبنة الحلوم أو المشللة التي تتميز بصناعتها حماة فهي من الأجبان القاسية المتخمرة

الحرب السورية وضعت أصحاب المهن والصناعات أمام تحدِ كبير للمحافظة على باب رزقهم، فصعوبات تأمين الوقود لتوليد طاقة المعامل وحفظ المنتجات، بالإضافة إلى صعوبة نقل الحليب وجمعه من الأرياف أجبرت الكثير منهم على التوقف عن العمل أو العودة إلى الطرق البدائية وإنشاء ورشات تصنيع متنقلة في الأرياف لتخفيف الخسائر.

محمد ياشوط (45 عاماً) يعمل في ورشة صغيرة لصناعة الأجبان والألبان مع عدد من الموظفين بطرق بدائية في سهل الغاب قال للميادين نت: "بعد أن كانت هذه المواد الغذائية تنتج بآلات حديثة وبكميات أكبر، أرجعتنا الحرب إلى الصناعة البدائية؛ حرصاً منا على القرب من مصدر إنتاج الحليب، وتخفيفاً لأعباء نقله إلى المدينة". 

وأضاف: "يصل إنتاج هذا المعمل يومياً إلى نحو 200 كيلو غرام من الأجبان الطازجة، ويتنوع إنتاجنا منه، ولكن تبقى الجبنة البلدية المفضلة للناس لاحتوائها على نسبة عالية من الدسم وكذلك الجبنة العكاوي والمشللة".

خسائر في قطاع الأجبان 

يتراجع اعتماد العائلات السورية على مؤونة الجبنة بسبب ارتفاع الأسعار، وأصبحت ضمن قائمة المحذوفات رغم توافر الحليب، لكن انخفاض قيمة الليرة السورية مقابل الدولار الأميركي انعكس على أسعار منتجات الأبقار عموماً لاعتماد المربين على العلف الذي يتم شراؤه بالدولار.

علاء قهوجي (44 عاماَ) قال للميادين نت: " ارتفاع أسعار منتجات الأجبان يعود إلى أسباب متعددة منها تعرض قطاع الأجبان لخسائر كبيرة بسبب التقنين الكهربائي الطويل الذي أصبحت نسبته تصل إلى %80، وأغلب الحرفيين ليس باستطاعتهم تحمل نفقة المولدات للسيطرة على الخسائر، لذا خرج عن الخدمة نحو 30% من المنشآت في قطاع الأجبان والألبان، بالإضافة إلى تراجع المراعي وارتفاع أسعار الأعلاف، وهو ما جعل العديد من مربي الثروة الحيوانية يبيعون بعضاً من قطعانهم ليؤمنوا الأعلاف للرؤوس التي أبقوها للتربية".

يذكر أن مئات المصانع السورية تعمل بالرغم من الخسائر المادية في قطاع الصناعة، في ظل الظروف الاقتصادية القاسية التي تعيشها البلاد من عقوبات غربية ونقص حاد في الوقود والكهرباء والمواد الأولية وتنتج حماة 39 % من إجمالي إنتاج القطر من الجبنة، وهذه بدورها ترفد صناعة الحلويات الحموية المشهورة كحلاوة الجبن والكنافة والقطايف التي تتميز بها حماة ومادتها الأساسية الجبنة العكاوي التشيكي التي تتصدر صناعة الحلويات والقشقوان، بالإضافة إلى صنف الموزاريلا الذي يعد الأغلى ثمناً والأعلى جودة من بين أصناف الجبن الأخرى، وهو يلقى طلباً من قبل بعض الأسر المقتدرة أو التي يسمح لها دخلها المادي باستهلاكه.

بعض الإنتاج يوزع على المحافظات السورية والآخر يصدر إلى الخارج، إضافة إلى تلبية حاجة الفنادق الكبرى وخصوصاً فنادق العاصمة دمشق، ومن أهم أصناف الجبن التي يتم تصديرها إلى الخارج الحلوم الذي يلقى طلباً واسعاً بسبب جودته وأسعاره المعتدلة وقابليته للشحن مسافات طويلة من دون تعرضه للتلف.