عودة الأهالي إلى بيت لاهيا شمال غزة: الموت لا يضحك

لقد جاء التهديد الإسرائيلي بإخلاء مدينة بيت لاهيا شمالي قطاع غزة فوراً، لأنها أضحت ساحة قتال خطيرة، مخالفاً لأحلام أهاليها البريئة في أن يقضوا ما تبقى من أعمارهم في مدينتهم وبين الحقول التي شرعوا في إعادة زراعتها أخيراً.

  • عودة الأهالي إلى بيت لاهيا شمال غزة: الموت لا يضحك
    عودة الأهالي إلى بيت لاهيا شمال غزة: الموت لا يضحك

ستُجيب أعين الآلاف ممن اضطروا إلى النزوح أخيراً من مدينة بيت لاهيا شمالي قطاع غزة عمّا يعنيه الخروج من البيت أو ما تبقى منه للمرة العاشرة بعد المئة. وبالرغم من أنه لم يكن ينتظر الأهالي في عودتهم إلى بلدتهم سوى بقايا بيت تستر سقفه وجدرانه قطع من القماش، فإنّ ترك الأرض والدار لم يكن في يومٍ ما خيار أحدهم. 

يمتلك أهالي هذه "البلدة"، التي ظلت لسنوات تحاول التمرد على ذلك المسمى لتُسمّى مدينة، مليون سبب منطقي مقنع يدفعهم إلى التمسك بها حد الموت، لا لأنهم فلاحون وأبناء لهذه الأرض فحسب، بل لأن معنى الحياة وطعمها الوحيد بالنسبة إليهم ينحصر في أن يعيشوا ما استطاعوا العيش في المنطقة ذاتها التي شهدت ميلادهم.

أهالي بيت لاهيا أو كما يُسمون شعبياً بـ"اللهاونة" ليسوا لاجئين، برغم أنهم شكلوا دائماً الصف الأول في طليعة كل حركات المقاومة التي مرت على هذه البلاد. علاقتهم ببلدتهم تكتنز خليطاً مذهلاً من الانتماء والحب الاجتماعي، وهم يمتلكون قدرة هائلة على تسخيف كل هول، ويقال إنّ حس الدعابة هو "جين" متوارث ذو صلة بتاريخ هذه البلدة القديمة، إذ إن اسم "بيت لاهيا" أساساً تطور عن مسماها القديم: "بيت اللهو"، ومع أن هذا التأصيل لا يروق للمتدينين في المدينة، إلا أنهم حين يقدمون روايتهم المشروخة بأن التأصيل الحقيقي لاسم البلدة هو "بيت الإله" يغلفونها بفيض هائلٍ من الوداعة والدعابة التي تجعلك تتمسك بالرأي الدارج بأنها بيت اللهو حقاً.

في ذلك المساء فقط، كان يمكن أن ترى اللهاونة على غير طبيعتهم. كل شيء يقابل بالدعابة إلا فقدان العزيز وترك البيت والأرض. ستقرأ في عيون الآلاف من النازحين نظرات القهر والانكسار. لقد أشبع العدو هذه المدينة طوال الأشهر الثلاثة الأولى من عمر الحر قصفاً وتدميراً ومجازر، وكانوا يتأملون بأن عدونا "أخذ حصته من دمهم وانصرف". لقد جاء التهديد الإسرائيلي بإخلاء المدينة فوراً، لأنها أضحت ساحة قتال خطيرة، مخالفاً لأحلامهم البريئة في أن يقضوا ما تبقى من أعمارهم في مدينتهم وبين الحقول التي شرعوا في إعادة زراعتها أخيراً.

أبو أحمد معروف هو واحد من هؤلاء الذين لم يجدوا مفراً من الاستجابة لأوامر الإخلاء: "الضنى غالي يا خوي، فقدنا 15 من العيلة، بدنا نحافظ على النسل"، قال في حديثه إلى الميادين نت. وأضاف: "لو مسألة البقاء تتعلق في وجودي أنا بس، والله ما بطلع، لكن معظم البيت أيتام ونساء وأطفال، مش من حقي أقرر عنهم، أو أجبرهم يلتزموا بقراري". بالنسبة إلى الرجل الخمسيني، فإنّ الموت هو صنو النزوح في مركز الإيواء، بل إن أفضل مصير يمكن أن يلقاه الواحد (منا) هو أن يموت وآخر صورة تقرأها عيناه هي بيته وأشجاره. 

لماذا بيت لاهيا بالذات؟ سألنا الحاجة أم عطا التي التقيناها بعدما عادت أخيراً، وهي تسقي أصيصاً من ورد الجوري على شرفتها: "بدهم يهجرونا، وهما عارفين إنه أكثر ناس صعب يتركوا أرضهم هم الفلاحين، إحنا قهرناهم، ما ارجعنا على بيوتنا أو بقايا بيوتنا بس، لأ، رحنا نظفنا أراضينا وبدينا نزرعها، الزراعة يعني بقاء ورفض لأي مخطط بيخططوا إله ليقرروا مصيرنا".

بالنسبة إلى اللهاونة أيضاً، تتجاوز قيمة البلدة لديهم حسابات البيت والبستان. ثمة طبائع وأجواء اجتماعية لا يمكن أن يتوفر معشارها في أي بقعة من هذا العالم. يقول محمد الأشقر: "الناس هان بتحب بعضها، المصيبة الكبيرة بتصغر بمواساة الجيران، يحافظ الناس مثلاً على إطعام المكلومين. إذا توفى حدا، كل الجيران بتصنع الطعام إله طوال أيام. إذا تزوج أحد، كل البلد بتفرح معه. لا التكنولوجيا ولا مشاغل الدنيا صنعت أمراض الأنانية والفردية إلي خربت المجتمعات البشرية، وطبيعي الاحتلال ما رح يقدر على هالإشي". 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.