عينُ اللبنانيين على التصدّعات.. الحكومة تمسح المباني ولا خطة واضحة

بعد زلزال سوريا وتركيا، إضافة إلى انفجار مرفأ بيروت في 2020، ظهرت أزمة يحاول اللبنانيون متابعتها مع المسؤولين حتى لا تؤدي إلى كارثة كبرى، وهي تصدّع المباني القديمة وسط مطالبات بالكشف عنها وترميها.

  • مبان متصدعة في طرابلس شمال لبنان
    مبان متصدعة في طرابلس شمال لبنان

لم يمرّ فجر السادس من شباط/فبراير خفيفاً على اللبنانيين. أيقظ الزلزال الذي ضرب جنوبي تركيا في نفوسهم خوفاً كان منسياً: ضعف المباني وتصدّعها، مع ما يرافق هذا من خطر وقوعها بحال حصول أي زلزالٍ آخر، ما دفعهم للهلع والهرَع إلى أي جهةٍ تطمئنهم على "صحة" مساكنهم، وقدرتها على الصمود.

الحكومة اللبنانية، عبر رئيس تصريف أعمالها، نجيب ميقاتي، كلّفت وزير الداخلية بسام المولوي التواصل مع البلديات في مختلف المناطق اللبنانية، بغية مسح المباني المتصدعة بشكلٍ رسمي. 

هذا التكليف دفع المواطنين للتفاؤل، على اعتبار أن الحكومة ستتدارك أي كوارث محتملة، لكنّ نائب رئيس لجنة رؤساء البلديات في لبنان، رئيس بلدية الغبيري في بيروت، معن الخليل، لم يبدُ متفائلاً.

الأداء الحكومي لا يدعو للتفاؤل

يقول الخليل في حديثه للميادين نت إن ما يفوق 40% من المساحة المأهولة الواقعة ضمن نطاق بلدية الغبيري هي مساحة مُخالِفة، أو لم تُبنَ وفق معايير تنظيم مدني سليم. المعلومات التي في حوزة البلدية ليست حديثة العهد، فالبلدية تُوجّه للحكومة منذ عام 2016 كتباً رسمية متعلّقةً بملف الأبنية المتهالكة والمتصدّعة، "ولا تجد آذاناً صاغية أو تجاوباً".

ضمن نطاق الغبيري، تقع عشرات الأبنية التي يتخطّى عمرها العقود الخمسة، هذه المباني إضافة إلى كونها مباني قديمة، وربّما بُني بعضها قبل اعتماد بروتوكولٍ خاص بالبناء المقاوم للزلازل، فإنها شهِدت فترات حرب طويلة، كما شهدت حرب تموز خلال العقد ما قبل الأخير، إضافة إلى سلسلة التفجيرات التي شهدتها الضاحية الجنوبية بين الأعوام 2013 و2015، وفي العام 2020 وصلت ارتدادات انفجار مرفأ بيروت إلى المنطقة. كل هذا يعني تعرّض المباني لارتجاجاتٍ قويّة ومتكرّرة، قد تكون أحدثت فيها ضرراً، يُضاف إلى الضعف الذي قد يكون سبّبه عامل الزمن.

وعن  الكشوفات التي طلبت وزارة الداخلية من البلديات المباشَرة بها، والتي تحدّد مدى متانة البناء، أكّد الخليل أن البلديات لا تملك الإمكانيات اللازمة (من الناحية الفنية ومن ناحية الكلفة) للقيام بكشفٍ من هذا النوع، مُشيراً إلى أن هذه العملية تحتاج إلى شركاتٍ متخصّصة لديها الخبرة المناسبة والمعدّات اللازمة.

عدد من البلديات في محافظات الجنوب والبقاع أجمَع على أن البلديات لا إمكانيات لديها لإجراء كشفٍ من هذا النوع.

يتخوّف الخليل من مصير المباني التي بُنيَت "بالليل"، ويحكي عن مبانٍ سكنية بُنيَت من دون مراعاة لأدنى معايير الهندسة والبناء، "شي انحطّله مي مالحة، شي رمول بحرية، وشي حديد غير مُطابق.."، يعزو السبب إلى انعدام رقابة الدولة، ويذكر آسفاً قانون تسوية مخالفات البناء الذي أُقرّ عام 2019، مشرعناً كل ما ارتُكِب من مخالفات بناء خلال عشرات السنين (45 عاماً)، وهذا ما دفع المواطنين لاستسهال المخالفة واستساغتها، وفق تعبيره، "طالما أنّ ثمة ما سيشرّع عاجلاً أم آجلاً مخالفاتهم المميتة، تحت ذريعة دعم الخزينة العامة".

إن سنوات الحرب الطويلة التي عاشها لبنان بشكلٍ عام وبيروت بشكلٍ خاص، سهّلت انتشار الأبنية العشوائية، وجعلت من عمليات البناء المخالفة "أمراً طبيعياً" في ظل ظروفٍ غير طبيعية، وفي ظل غيابٍ تامٍ لرقابة الدولة وأجهزتها. لكنّ الأمر اللافت، وبعد عقودٍ من انتهاء فترة الحرب والفوضى، فإن الاستهتار في شرعنة المخالفات وتكريسه بمعايير التنظيم المدني، هو ما تتمظهر تداعياته المأوساوية اليوم.

ولا يبرّئ الخليل المواطن من المسؤولية تماماً، لافتاً إلى أن جزءاً كبيراً من العشوائية والفوضى يعود سببه إلى المواطنين أنفسهم. 

وعن هلع السكّان وطلبات الكشف التي انهالت على البلدية، قال إن الكثير من الطلبات تحوّلت إلى المحافظ ووزارة الداخلية والهيئة العليا للإغاثة، مقسّماً السكان إلى ثلاثة أقسام: قسمٌ تعايش مع الأزمة من دون ردة فعل، وقسمٌ سارع إلى تفقّد المبنى الذي يقطنه، وقسمٌ ثالث هو شريك في الأزمة عبر التعدّي على القوانين وارتكاب المخالفات. 

أما عن عمليات الترميم والتدعيم التي قد تحتاجها بعض المباني، فأكد أنه مشروعٌ يحتاج إلى خطة طوارئ تديرها الحكومة، وهي مسؤولية أكبر من البلديات.

طرابلس: بين كارثةٍ محتملة وسكّانٍ يخشون التشرّد 

شمالاً، أعلن رئيس بلدية طرابلس، أحمد قمر الدين، أن عدد المباني التي تواجه خطر السقوط نتيجة التصدعات هو 700 مبنى تقريباً، ومنها 10% تشكّل خطراً على ساكنيها. 

خطرُ الانهيارات ليس جديداً على طرابلس وأهلها، هي المدينة التي لم تخلع ثوب الحداد بعد على ابنتها ماغي محمود، الطالبة التي توفّيت إثر سقوط سقف صفّها في مدرسة "الأميركان" في جبل محسن، خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام المنصرم.

رئيس رابطة الإنشائيين في نقابة المهندسين إيهاب خضر، حذّر من أنّ الوضع في طرابلس وعكار والضنية أشبه بقنبلة موقوتة، في ظل وجود عشرات الأبنية الآيلة للسقوط، ومئات الأبنية التي تحتاج إلى إعادة تدعيم.

لكنّ اللواء محمد خير، رئيس الهيئة العليا للإغاثة، رفض في تصريحٍ إعلامي التهويل و"تخويف" السكان، مشيراً إلى أن الأبنية التي تواجه خطراً فعلياً قد تم إبلاغ سكانها بالإخلاء. وعن بدل الإيواء قال إن الحكومة ستقدّم 30 مليون ليرة شهرياً للأسَر التي ستضطرّ إلى مغادرة منزلها، لمدة 3 أشهر قابلة للتجديد.

بين تهويلٍ وتطمين يتوه أهالي طرابلس، المدينة الأكثر فقراً على ساحل البحر الأبيض المتوسط، "وين بدنا نروح؟" يسأل رجلٌ تبلّغ احتمال أن يكون مضطراً وأسرته لإخلاء منزلهم.

يخشى أهالي المدينة أن يُتركوا بلا عَون، هم الذين اعتادوا أن يسند بعضهم البعض في ظل ظروفٍ اقتصادية ومعيشية خانقة، وجدوا أنفسهم تائهين أمام خطرٍ أكبر من قدرتهم على تداركه.

محيط المرفأ: المباني بحاجة إلى كشفٍ سريع

"نظراً للظرف الصعب في ذلك الوقت، لم يُكشف على المباني بالشكل المطلوب، ما كان واضحاً أنه مهدّدٌ بالسقوط أُخليَ وما تضرّر أُعيد ترميمه بشكلٍ سطحي تسهيلاً لعودة السكان إلى بيوتهم"، تقول المهندسة كوثر بزون، التي تُعدّ أطروحة دكتوراه متعلّقة بإعادة إعمار بيروت بعد انفجار المرفأ.

عصر الرابع من آب/أغسطس عام 2020، دوّى انفجارٌ هائلٌ في مرفأ بيروت، وهو الأقوى في تاريخ لبنان، وقد قُدّرت شدّته بطاقة زلزال بقوّة 4.5 على مقياس ريختر، وأفادت أنباء بأنّ صوت الانفجار سُمِع في دول الجوار.

حينها، كان اللبنانيون يتخبّطون أمام أزمةٍ اقتصاديةٍ خانقة مجهولة المصير، وكانت جائحة كورونا في أوج انتشارها.

دوّى الانفجار، وطال عصفه مناطق على بعد عشرات الكيلو مترات. 

بحسب الإحصاءات، تأثر 8000 مبنى بالانفجار، 640 منها هي مبانٍ تاريخية، و60 مبنى منها مهدّدٌ بالدمار الكامل. البيوت القريبة تأثرت بشكلٍ كبير، ولا سيّما تلك التي تُشكّل وحدة سكنية منفردة، أي أنها ليست ضمن مبنى كبير، كونها قديمة العهد أصلاً.

توضح المهندسة كوثر بزون أن الإجراءات التي حصلت حينها، كانت إجراءات سريعة، تسهيلاً لعودة الناس إلى منازلهم أولاً، ونظراً لانتشار جائحة كورونا ثانياً، ونتيجة خوف بعض الناس حينها من الاستيلاء على مساكنهم بحال تركها. كل هذه العوامل دفعت الناس إلى العودة إلى بيوتهم من دون الأخذ بعين الاعتبار مدى الضرر الذي قد تكون تعرّضت له هذه المنازل.

وتقول بزون إنه نتيجةً للأسباب نفسها، لم يُكشَف على المباني بشكلٍ دقيق ولم يُحدّد حينها مدى تأثر أساسات المبنى ومدى متانته. وتُضيف: "للأسف لقد أخذت الأبنية التراثية حجم اهتمام أكبر من الاهتمام الذي نالته المباني السكنية، لهذا هي اليوم مبانٍ مهدّدة وتحتاج إلى كشفٍ عاجل".

تلتقط إحدى السيدات عدة صورٍ لجدران منزلها في منطقة الجناح في بيروت، تظهر التشققات واضحةً في معظم الجدران. "هول بلشوا وقت انفجار المرفأ وإجت الهزّة وكمّلت فيهم"، تقول عن تأثير الانفجار والهزات الارتدادية التي حصلت.

ماذا يقول المهندسون المدنيون؟

"أُصيب الناس بالقلق والهلع، تلقّيتُ عشرات الاتصالات التي مفادها أن العديد من التشققات ظهرت في الجدارن أو الأسقف. إن هذه التشققات لا تعني أن المبنى بكامله في خطر"، يقول المهندس حسين شحرور، الخبير في ترميم الأبنية.

قام شحرور شخصياً بالكشف على عددٍ من المباني بطلبٍ من السكان، طغى القلق على السكان بعد الزلزال. "في تشققات هيي أساساً موجودة بس عالخوف والقلق انتبهولها"، يقول.

نتيجة الظرف المستجدّ صار الناس أكثر حذراً وانتباهاً لتصدّعاتٍ هي موجودة بالأصل.

يوضح شحرور أن الكشف الفعلي على المباني يتمّ عبر الكشف على الأساسات، أي في الطابق الموجود أسفل المبنى (الطابق الأرضي أو المستودع)، حيث يتم الكشف على العواميد، ويتم التأكد من وجود تشققات أو تصدعات. 

ثمة تصدعات عرضية وأخرى طولية، وهي قد تحصل بشكلٍ يؤثر على العمود بشكلٍ خطر يستدعي تدعيماً عاجلاً و"مربكاً" نوعاً ما، وقد تحصل بشكلٍ يَسهل بحال حصوله ترميم العمود. 

"التدعيم سهل لما يكون التصدع  بجزء من أجزاء العمود، أما بحالة تضرره بالكامل، فلازم يصير إخلاء من المبنى ليصير عملية تدعيم أكبر وأوسع، يعني لبكة طويلة"، يقول شحرور.

أما عن آلية الكشف، فيوضح أن الكشف الأولي يكون نظرياً، لكن في بعض الأحيان ونتيجة لعدم قدرة المهندس على الاطلاع على الخرائط الخاصة بالمبنى، ولا سيما في حالات المباني القديمة، فيضطر إلى الحفر تحت الأعمدة للكشف على عرض قواعدها، وإذا ما كان حجمها مناسباً. ويُضيف: "أحياناً تكون العواميد سليمة ولكن حجمها صغير، وفي هذه الحالة يضطرّ المهندس أيضاً لتدعيمها".

يؤكد شحرور أن نظام البناء في لبنان قد تطوّر كثيراً في السنوات الأخيرة، لكنّ ثمة من يصرّون على المخالفة و"التذاكي".