غزّيون يبيعون "الرواق" لأهل البلاد.. ليالي الشمال لم تعد كلها حزينة

من الموضوعية القول إننا شعب يحب الفرح بالقدر الذي يرى فينا الحزن أننا "أهله وقبائله". ولعل ساعات ما بعد الإفطار تعكس تلك الغريزة، حتى في عالم غزة السفلي المتمثل بمراكز الإيواء.

  • غزّيون يبيعون
    غزّيون يبيعون "الرواق" لأهل البلاد.. ليالي الشمال لم تعد كلها حزينة

لا شيء في مشاهدات الحرب اليومية ينزع عن سكان غزة طبيعتهم، البعيدة كل البعد عن الأسطرة وخرق العادة. في نهاية الأمر، هم شعبٌ عادي ككل شعوب أهل الأرض، تُخرج الأزمات أجمل وأسوأ ما فيهم، وتكشف المعادن الأصيلة والمزيفة. وفي تبني خرافة الأسطرة والتبجيل المبالغ فيهما، جنوحٌ إلى تبرير الخذلان والتقصير، على اعتبار "أننا" مغايرون للطبيعة البشرية المعتادة، وقادرون على التأقلم دائماً مع الظروف، أياً كانت.

على أن من يحبنا يرغب في أن يرانا أقوياء، سعداء، غير بائسين ولا محبطين، تماماً كما يرغب عدونا في أن يرى آثار إجرامه فينا، بؤساً وجوعاً ويأساً واستسلاماً. وانسحاباً في حديثنا الموضوعي ذاته، فإن المشي في شوارع شمالي القطاع، وهي أكثر مناطق هذا الكوكب، في الوقت الحالي، بؤساً وجوعاً وكارثية، يُشعرك في لحظة بأن ثمة شيئاً ما، شكلته أيام هذه الحرب الطويلة، ينافي النتيجة المنطقية، التي يجب أن يتسبب بها تراكم الأسى والفقد والمجازر.

على مفترق الشيخ رضوان مثلاً، حيث يتجمع المئات من المواطنين لالتقاط إشارة الإنترنت من خلال الشرائح الإلكترونية، التي تحولت إلى مشروع استثماري، علّق محمد أبو غوش لافتة لمشروعه النوعي، كتب فيها إن "مسلسلات رمضان full hd الحلقة بـ1 شيكل"، ومن حوله، تجمع العشرات من الشبان والصبايا، ينتظرون دورهم في الحصول على ما يتابعونه من برامج ومسلسلات رمضانية.

من وجهة نظر الشاب، الذي كان يدرس هندسة الحاسوب، فإن الناس تأقلموا، أو يحاولون، مع واقع الحرب المستمرة: "هل من المعقول أن نُمضي ستة أشهر ونحن نبكي ونلطم الخد؟ الطبيعة البشرية تأنف ذلك الروتين"، يقول الشاب، ويتابع حديثه إلى الميادين نت: "فهمت إنو في عالم محتاجة تتحايل على واقع القصف والمجازر المستمرة، لهيك أعددت قائمة بأشهر المسلسلات الرمضانية، وبلشت أحمّل حلقاتها في ساعات ذروة سرعة النت. وفي اليوم التالي، قررت أفهم أكثر شو العالم بدها. علقت يافطة إنو حمّل مسلسلك المفضل بـ1 شيكل، حتى أفهم ذوق الناس بدقة، وسألت كل شاب أو صبية عن شو بيبحثوا، وبعدها صرت أتولى المهمة (..). بحمّل كل الحلقات في الليل، وثاني يوم ببيع الحلقة بشكيل".

قال ذلك، وضحك مزهواً، وحقٌّ له أن يزهو بكل هذا القدر من الذكاء. بالقرب منه، كانت لينا، وهي فتاة في العقد الثاني من العمر، فرغت من نقل حصتها اليومية من البرامج والمسلسلات، وحينما حاولت كسر الحاجز معها، وسألتها عن المكان الذي يباع فيه الرواق وهداة البال في هذه البلاد، ضحكت قائلة: "معقول ما بتعرف؟ من هان أستاذ، محمد وكيل الرواق الحصري"، قبل أن تضيف: "في أول يوم رمضان، زعلت من حالي وأنا بحضر المسلسل، لأني حسيت إني خنت دم أختي وبنت عمي الشهيدة، بعدين فكرت شوي، إنو سما وتولين عند ربنا إلي نهى إنو نحكي عن الشهداء أموات، وبما إنهن أحياء، فأكثر شي بيحبوه، هوا إنو يشوفونا سعداء وبنضحك (..) ما رح تصدق، صرت أصنع السعادة في البيت، ومن العدم أعمل سهرة رمضانية، وأفتح مسلسل على الجوال، أجمع العائلة وأمي إلي ما راضية تترك الحداد، لأنو سما إجتني في المنام وحكت لي إنها مبسوطة مني، وأنا كل يوم بآجي آخذ المسلسلات حتى أصنع جو ما قبل الحرب.. عشان سما وتولين".

من الموضوعية القول إننا شعب يحب الفرح بالقدر الذي يرى فينا الحزن أننا "أهله وقبائله". ولعل ساعات ما بعد الإفطار، تعكس تلك الغريزة حتى في عالم غزة السفلي المتمثل بمراكز الإيواء. وضمنها، يتوسط مخيم جباليا، يعمد يومياً لصناعة طقوس البهجة، مثل إقامة صلاة التراويح وإذاعة صوت التلاوة على مكبر الصوت، واستقدام  فرق مهرجين، ومدائح نبوية، وإقامة المسابقات. ويكسر صوت ضحكات هؤلاء صمت الليل الغريب في أجواء الشهر الفضيل.

يقول أبو أحمد، وهو أحد القائمين على ليالي رمضان: "توافقنا مع الأهالي على أن لا مكان للحزن بيننا، وأننا سنصنع أجواء البهجة والفرح بأي طريقة. الهدف هو أن نخلق ما يجدر انتظاره في أذان المغرب. الطعام الآن عزيز وشحيح، والموائد الرمضانية العامرة بكل ما لذّ وطاب صارت شيئاً من الماضي والذكريات. هذه الأجواء، بما فيها من بهجة، تُخرج الناس من الحزن وتأمل الواقع الحالي، الذي يورّث الكآبة".