قتل بطيء.. مستشفيات شمال غزة تخرج عن الخدمة بعد الحصار والإخلاء

في الوقت الحالي، لا مستشفيات تعمل في مناطق التوغل الإسرائيلي كافة، ولا تستطيع سيارات الإسعاف الدخول إلى المناطق الحمراء لانتشال الشهداء والمصابين.

  • فلسطينيون يخلون مستشفى كمال عدوان بعد استهدافه بغارة إسرائيلية في بيت لاهيا شمال قطاع غزة (رويترز)
    فلسطينيون يخلون مستشفى كمال عدوان بعد استهدافه بغارة إسرائيلية في بيت لاهيا شمال قطاع غزة (رويترز)

يخرج توصيف المستشفى في شمال قطاع غزة عن كونه المكان الذي يُنقَل إليه الجرحى والمرضى للتداوي والتعافي إلى المكان الذي يشعر فيه الأهالي بالقليل من الأمان والأمل. بالمعنى الموضوعي، لا مستشفيات تعمل بشكل حقيقي في شمال القطاع منذ شهور، لكن العملية العسكرية المستمرة منذ قرابة أسبوعين قوّضت حتى الشكل الخارجي للعمل الصحّي، إذ إن قوات الاحتلال، وبعد حصار استمر 4 أيام متواصلة، اقتحمت مستشفى العودة في حي تل الزعتر شرقي مخيم جباليا، وأجبرت الطاقم الطبي على إخلائه تحت تهديد الرصاص، علماً أنه المستشفى الأهلي الوحيد الذي تتوفر فيه غرفة عمليات وطاقم طبي وفني مكوّن من 90 كادراً، ولا يزال يحافظ على بروتوكول العمل الصحي المنظم الذي كان يسمح في حال وصول المصابين إليه بتقديم رعاية فيها قدر أكبر من الاهتمام مقارنة بالمستشفيات الحكومية. 

وفقاً للطبيب محمد صالحة، وهو القائم بأعمال مدير المستشفى، فقد تعرض الطابق الإداري في مبنى المستشفى لقصف بقذائف الدبابات، وعاش الطاقم الطبي طوال أيام الحصار ظروفاً بالغة القسوة، بسبب إطلاق النار المكثف على الشبابيك وخزانات المياه والمكيفات وعلى كل من يتحرك في داخل المباني. وعقب إخلائه، سمحت قوات الاحتلال ببقاء 14 كادراً طبياً فقط لرعاية ما تبقى من المصابين والمرضى في المستشفى.

أما في مستشفى كمال عدوان، وهو المستشفى الحكومي الوحيد الذي أعيد تأهيله بعدما اقتحمته قوات الاحتلال في نهاية كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي، فبدا المشهد كارثياً: العشرات من المصابين الذين تسيل منهم الدماء ملقون على الأرض في الممرات والغرف. وسط هؤلاء، التقينا الطبيب محمد ظاهر. كان يقاتل وحيداً، وحوله عدد جيد من الممرضات والممرضين. كان ما نشاهده أبلغ من كل إجابة يمكن أن يقدمها على سؤال نطرحه. اكتفينا بالقول: "يعطيك العافية يا أبو حسين.. بعين الله"، ليردّ الرجل وهو ينتقل بين مريض وآخر، وتقطر الدماء من ملابسه: "سنبقى نقاوم، لن نترك أهلنا، سنموت قبلهم". وقربه، التقينا الممرّضة سناء عسليّة* للمرة الأخيرة.

ووفقاً لعماد عفانة، وهو مدير قسم الإسعاف في المستشفى، فإن الطواقم تعمل من العدم، إذ لا يتوفر المازوت اللازم لتشغيل سيارات الإسعاف، وثمة نقص حاد في الطواقم الطبية. ويتابع حديثه إلى الميادين نت: "اضطر العشرات من الممرضين والأطباء إلى مغادرة المستشفى للبحث عن مكان يؤمّنون فيه عائلاتهم. العملية البرية تستهدف المناطق التي تقع فيها منازلهم. لذا، تغيّب بعضهم، وحوصر البعض الآخر في مكان نزوحه، فيما لم يعد آخرون لأنهم لم يجدوا مكاناً يؤوون فيه عائلاتهم".

والجدير بالذكر أن مدير مستشفى كمال عدوان الطبيب حسام أبو صفية، وقبل يومين من بدء العملية البرية المفاجئة على شمال القطاع،  حذر من العجز عن العمل بشكل كلي بسبب النقص الحاد في المازوت والمستهلكات الطبية. وقد بدأ التوغل البري قبل أن تلقى نداءاته أيّ استجابة من المؤسسات الدولية، على أن كل ما سبق من ظروف أصبح قبل يومين شيئاً من الترف، إذ تكلفت القذائف المدفعية والرصاص التي تطلقه طائرات الكواد كابتر بحصار المستشفى بالنار وإخراجه بشكل كلي عن العمل، ليخرج من تبقى من الأطباء والممرضين وحتى المرضى من المستشفى مشياً على الأقدام والكراسي المتحركة.

في الوقت الحالي، لا مستشفيات تعمل في مناطق التوغل الإسرائيلي كافة، ولا تستطيع سيارات الإسعاف الدخول إلى المناطق الحمراء لانتشال الشهداء والمصابين. أما من يصاب، وإن استطاع الوصول إليه أحد، فينقل إلى المستشفى الأهلي المعمداني الذي تفصل بينه وبين مخيم جباليا مسافة تزيد على 14 كيلومتراً. وهناك يزدحم قسم الاستقبال والطوارئ بالمئات من المصابين، وينتظر جرحى العظام طابوراً طويلاً لإجراء العمليات الجراحية.

* اللقاء الأخير

ليس من حقّ أحد، حين يتحدث عن قسم الاستقبال والطوارئ في مستشفى كمال عدوان، أن يتجاوز الممرّضة سناء عسلية. لم تغادر تلك السيّدة مستشفيات شمال القطاع منذ بداية الحرب. حوصرت في المستشفى الإندونيسي قبل تدميره، وحوصرت في مستشفى كمال عدوان، ولم تترك عملها يوماً واحداً. في كل مرة زرنا فيها المستشفى، كنا نرى سناء.

في المرة الأخيرة، كانت تعيش الملحمة إلى جانب الطبيب محمد ظاهر. اقتربتُ منها محاولاً كسر قسوة اللحظة. "والله المفروض نعملك تمثال بعد الحرب يا سناء.. الله يآجرك على قد ما تبعتي"، قلت ممازحاً. ضحكت هي، وأصرّت على التسامي: "واجبنا والله يا أخ يوسف، فش داعي"، لأرد: "خلص بنهدم التمثال.. لأن الأصنام حرام". هكذا انقضى اللقاء الأخير. وفي اليوم التالي، اضطرت الممرضة المثابرة إلى مغادرة المستشفى للاطمئنان لعائلتها المحاصرة في حي الصالحين. قال لي زميلاتها: "وعدتنا بأنها ستعود في الحال". انقضت ساعة واحدة، ودخلت القسم مجدداً، ولكن جثّة هامدة. 

(هذه المادة مهداة إلى روح سناء عسلية، كي لا تغيّب الأحداث الكبيرة سيرة أبطالنا البسطاء)