أزمة المياه في العراق وإسقاطات الأمن والسياسة والاقتصاد

ملف الخلافات المائية بين العراق وتركيا، ملف شائك ومعقد، وعلى امتداد أربعة عقود من الزمن، تداخلت فيه الملفات السياسية والأمنية والاقتصادية.

  • أزمة المياه في العراق وإسقاطات الأمن والسياسة والاقتصاد 
    أزمة المياه في العراق وإسقاطات الأمن والسياسة والاقتصاد 

في بلد مثل العراق، يضم نهرين كبيرين، يمتدان من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ويعدان من بين أكبر الأنهار في العالم، يفترض أن يتمتع هذا البلد بوفرة عالية من المياه، تنعكس على القطاع الزراعي بالدرجة الأساس، ومعه القطاعات الصناعية المختلفة، والجوانب الحياتية الخدمية. بيد أن صورة الواقع تبدو مختلفة إلى حد كبير في ظل التناقص الحاد بكميات المياه، واتساع ظاهرة التصحر والجفاف، وتراجع وانحسار مساحات الأراضي المزروعة على نحو واضح وملموس.

تشكل مياه نهري دجلة والفرات، التي تأتي من تركيا ما نسبته 70% من مجموع الثروة المائية العراقية، فيما تشكل نسبة المياه الواردة من إيران عبر عدد من الأنهار الصغيرة نحو 12%، في حين تأتي النسبة المتبقية من الأمطار والبحيرات الصناعية والخزانات المائية والمياه الجوفية.

قبل بضعة أعوام فقط، كانت ثروة العراق المائية تقدر بـ150 مليار متر مكعب، إلا أنها تراجعت إلى أقل من مئة مليار متر مكعب. وفي ظل ذلك التراجع المخيف، اتسعت دائرة المخاوف والهواجس من مواجهة تحديات ومخاطر معقدة وكبيرة وشائكة، لا تقتصر على قطاع معين، بل تشكل تهديداً واقعياً متعدد الجوانب والمستويات، يمس حياة ملايين الناس، وربما يتنامى ذلك التهديد ويتسع مع غياب الحلول والمعالجات الحقيقية.

ولعل هناك عوامل وظروفاً وأسباباً عديدة ساهمت في تفاقم أزمة المياه في بلد المياه، بعضها خارجية عامة، وبعضها الآخر داخلية خاصة. وقد تكون ظواهر التغير المناخي، من قبيل الاحتباس الحراري، والارتفاع المتواصل في معدلات درجات الحرارة لعموم الكرة الأرضية، وانخفاض كميات الأمطار، وتزايد الحاجة العالمية إلى المياه في مجالات الزراعة والصناعة والطب وغيرها ارتباطاً بالتطور العلمي المتسارع، من بين أبرز العوامل والظروف والأسباب الخارجية، علماً أن البلدان التي تمتع بأوضاع سياسية وأمنية مستقرة، وتتبنى إستراتيجيات علمية وعملية دقيقة وعميقة، راحت توفر خيارات وبدائل مثمرة لمواجهة أزمة نقص المياه لديها، وهذا الأمر لا وجود له في العراق، وإذا كان موجوداً فبحدود ومستويات متواضعة جداً، لا ترقى إلى حجم المخاطر والتحديات القائمة والمنتظرة.

وثمة حقائق على الصعيد العام، لا بد من الالتفات إليها والتوقّف عندها، لأنها غير بعيدة من واقع الأزمة في العراق، وفي أي بلد آخر. ومن بينها، أن بوادر وملامح أزمة المياه في العالم على وجه العموم، أخذت تظهر وتلوح في الأفق منذ أربعة أو خمسة عقود من الزمن، حتى إن كثيراً من الأوساط والمحافل السياسية والاقتصادية، ومراكز البحث والتفكير، راحت تردد مقولة (الماء سيصبح في يوم من الأيام أغلى من النفط)، وأكثر من ذلك، أهم منه. 

ولعل مصداق مثل هذه المقولة نجده يتجلى بأشكال وصور ومظاهر مختلفة، ليس أقلها أن استخراج وإنتاج النفط لا يمكن أن يكونا من دون توافر المياه، سواء تحت سطح الأرض أو فوقه، فضلاً عن أن اتساع نطاق التلوث البيئي وما يتسبب به من مخاطر صحية هائلة جراء استخدام الواسع للنفط ومشتقاته ومخلفاته، جعل مختلف البلدان تتجه إلى البحث عن مصادر الطاقة النظيفة المتجددة، التي تعتمد أساساً على المياه والشمس والرياح.

ويشير مدير برنامج الأمم المتحدة للتنمية في العراق باولو ليمبو في إطار الأسبوع العالمي للمياه الذي عقد في العاصمة السويدية ستوكهولم أواخر شهر آب/أغسطس الماضي، إلى "أن المصدر الإستراتيجي الأكثر أهمية في الشرق الأوسط والدول المجاورة للعراق ليس النفط ولا الغاز بل المياه، وأنه مع تزايد عدد السكان والشح المتزايد في المياه وعدم توقع وجود احتياطي في المياه وتدهور نوعيتها بسبب التغير المناخي، فإن ملايين الناس قد شعروا بارتفاع حرارة الأرض، ما يتطلب وضع خطط أو تطوير إستراتيجيات لمرحلة مستقبلية، الآن وليس خلال عشرة أعوام أو خمسة عشر عاماً.

 ومن بين تلك الحقائق أيضاً، أن الصراعات على المياه، تعد من أبرز أنواع الصراعات في ميدان العلاقات الدولية في عالم اليوم، وغالباً ما تستخدم حكومات عديدة ورقة المياه لتحقيق مكاسب سياسية وأمنية واقتصادية على حساب خصومها وأعدائها، وتعاطي تركيا بهذا الشأن يعد خير دليل وأوضح مثال، وهو لا يختلف كثيراً عن تعاطي إثيوبيا التي تتحكم بمنابع نهر النيل، وتساوم وتضغط وتماطل مع كل من السودان ومصر للاستحواذ على أكبر قدر من مياه النهر عبر إقامة السدود والخزانات الضخمة وإنشاء المشروعات الزراعية والصناعية الكبرى.

فملف الخلافات المائية بين العراق وتركيا، ملف شائك ومعقد، وعلى امتداد أربعة عقود من الزمن، تداخلت فيه الملفات السياسية والأمنية والاقتصادية. ولم يختلف مجمل سلوك صناع القرار التركي عن نظرائهم في أديس أبابا.

ولأن نهري دجلة والفرات يمثلان 70% من مجموع ثروات العراق المائية، ولأنهما ينبعان من الأراضي التركية، فمن الطبيعي جداً، أن يتسبّب استئثار تركيا وعدم التزامها وتقيّدها بالحصص المقررة لها ولشريكها الآخرَين العراق وسوريا بمشكلات وأزمات متعددة الأبعاد والجوانب، لاسيما العراق.

ووفقاً لمعهد ميديترينيان للدراسات الإقليمية (MIRS)، فإن العراق يفقد القسم الأعظم من مصادر مياهه، إذ كانت تصريفات المياه الداخلة عن طريق نهر الفرات من تركيا وسوريا عام 1933 تبلغ 30 مليار متر مكعب، لتتراجع إلى 9.5 مليار متر مكعب في عام 2021، أما نهر دجلة فقد كانت تصريفاته 20.5 مليار متر كعب، وأصبحت عام 2021 نحو 9.7 مليار متر مكعب! 

وكل ذلك يعود إلى مشروع جنوب شرقي الأناضول (GAP)، الذي ترجع فكرة إنشائه إلى بدايات تأسيس دولة تركيا الحديثة في الربع الأول من القرن الماضي، وتتمحور أهدافه حول إنشاء محطات لتوليد الطاقة الكهربائية، وبناء عدد من السدود على نهر الفرات، وإنشاء المشروعات الزراعية ومشروعات الثروات الحيوانية، فضلاً عن المنشآت الصناعية المتخصصة بالصناعات التحويلية.

ويعد مشروع (GAP) من أكبر وأهم المشروعات التي تبنتها تركيا، إذ يعتمد بنسبة 80٪ على مياه نهر الفرات، و20٪ على مياه نهر دجلة. ويمتد إلى محافظات تركية عدة، مثل باتمان، وديار بكر، وسرت، ولكس، وماردين، وغازي عنتاب، ويشغل 9.7٪ من مساحة تركيا، و20٪ من الأراضي الزراعية فيها. 

واللافت أن كميات غير قليلة من المنتجات الزراعية والحيوانية التي تُنتج في إطار المشروع باتت تصدر إلى العراق، هذا في الوقت الذي تراجعت المساحات الصالحة للزراعة فيه إلى مستويات مقلقة، إذ تقلص الناتج السنوي للمحاصيل الإستراتيجية مثل القمح والشعير والأرز تقلصاً كبيراً، فضلاً عن المحاصيل الموسمية الأخرى من خضروات وفواكه، وترتّب على ذلك هجرة عدد لا يستهان به من الفلاحين إلى المدن، وبالتالي استفحال البطالة مع اتّساع ظاهر التصحر، إضافة إلى انخفاض مناسيب المياه في السدود، ما أثّر في عمليات توليد الطاقة الكهربائية، وكذلك جفاف مساحات شاسعة من مناطق الأهوار في جنوبي البلاد، وهو ما أدّى إلى حصول تهديد كبير وجادّ للتنوع البيئي، خصوصاً أن أهوار العراق تزخر بمئات الأنواع والأصناف من الطيور والحيوانات والنباتات البحرية، وطبيعي أن الجفاف يؤدي إلى زوالها وفقدانها، وفي ذلك خسارة عظيمة للبلاد. 

ولا شك في أن تركيا استخدمت ورقة المياه لتحقيق مكاسب مختلفة، فهي من جانب عززت إنتاجها الزراعي والصناعي وتوليد الطاقة وحركت سوق العمل لديها، ومن جانب آخر ربطت الأمر بملف حزب العمال الكردستاني المعارض(PKK)، ورأت أن إحداث تنمية وازدهار اقتصادي وحياتي في مناطق الجنوبية الشرقية المحاذية للعراق، من شأنه أن يقطع الطريق على حزب العمال، ويقلّل فرص وإمكانات انتشاره في تلك المناطق. 

 ومن باب الموضوعية، فإن هناك أسباباً وعوامل أخرى وراء تراجع الثروة المائية في العراق، تتمثل في البقاء على طرائق الرّي التقليدية القديمة التي تتسبّب بهدر كميات كبيرة من المياه، وغياب القوانين الرادعة التي تمنع أو تحدّ من الإسراف والعشوائية في استخدامها، فضلاً عن اختفاء التخطيط الممنهج والمدروس في هذا الجانب، وهذا ما تحدث به وزير الموارد المائية في الحكومة الجديدة عون ذياب، وما تطرق إليه مرات عديدة، حينما كان يشغل في أعوام طويلة مواقع مفصلية مختلفة في الوزارة، وهو ما حذر منه عدد من خبراء المياه في العراق والخارج.

قد لا تختلف عملية إدارة ملف المياه عن إدارة مجمل الملفات المهمة والإستراتيجية في البلاد، التي أدّت إلى تبديد الموارد والثروات، وتعميق المشكلات والأزمات، وتضاؤل فرص الحلول والمعالجات. 

وإذا كانت الحكومة العراقية الجديدة برئاسة محمد شياع السوداني صاحب التخصص الأكاديمي في مجال العلوم الزراعية، جادة في تحسين الواقع الزراعي والنهوض به، كجزء من التوجه نحو إصلاح القطاعات الإنتاجية الخدمية، فإن ذلك لن يتحقق ما لم تكن هناك حلول ومعالجات فنية وتقنية وسياسية عملية وسريعة لأزمة المياه، مع عدم التعويل والمراهنة على حلول ومعالجات الخارج، لأن تركيا لن توقف مشروعاتها ولن تغيّر خططها، ولن توقف تجاوزاتها. وإيران حتى وإن تعاطت بإيجابية مع العراق، فإن كميات المياه القادمة منها، التي ترتبط أساساً بمعدلات الأمطار، لا تغير من الواقع شيئاً لأنّ نسبها قليلة قياساً على نسبة المياه القادمة من تركيا. لذلك فإن حلول ومعالجات الداخل هي المفتاح والمخرج الملائم، ونقطة الشروع الحقيقية لا بد أن تكون من الحكومة أولاً وأخيراً.