خارج السَّيطرة.. كيف عطّلت إيران التفوّق الجويّ الأميركيّ؟ [3]

في الأيام الماضية، في مكان ما من الجنوب العراقي، عثرت القوات العراقية على نموذج من صاروخ "سام-358" الجوّال المضاد للطائرات، وانتشرت الصور كالنار في الهشيم في وسائل التواصل الاجتماعي.

  • خارج السَّيطرة.. كيف عطّلت إيران التفوّق الجويّ الأميركيّ؟ [3]
    خارج السَّيطرة.. كيف عطّلت إيران التفوّق الجويّ الأميركيّ؟ [3]

"كما قلتُ سابقاً، في المستقبل القريب، لن تسمع بأسماء الأنظمة الغربيّة أو الشرقيّة [في الترسانة الإيرانيّة]"- العميد أبو الفضل سبهري راد، قوات الدفاع الجوي في الجمهورية الإسلامية.

"لقد وصلنا إلى نقطة أصبح يمكننا فيها أن نقدّم قدراتنا ومعدّاتنا ومقدّراتنا للدول الصديقة والحليفة، لتحمي نفسها" - العميد الثاني محمد يوسفي خوشقلب، قوات الدفاع الجوي في الجمهورية الإسلامية

سنحاول في هذا المقال عرض التطوّر الإيراني في مجال الدفاع الجويّ، مع التركيز على المنظومات التي تمّ الكشف عنها حديثاً، والتي تتركز فاعلية معظمها، بعكس معظم ما سبق من صناعات محليّة في المرحلة السابقة، على ميادين الحرب اللامتكافئة أو غير المتناظرة (Asymmetric warfare).

مقدّمة

في مقالين نشرناهما العام الماضي (مقال 1، مقال 2)، كنا قد تحدّثنا عن التطوّر التقني الهائل في الدفاع الجوي الإيراني، والذي بدأ منذ العام 2010 في الحدّ الأدنى. كانت الجمهوريّة الإسلاميّة تقوم بتعديل المنظومات بما تيسّر في السنوات التي تلت الحرب الإيرانية العراقية، وفصل سلاحي الجو والدفاع الجويّ، إلا أن الفترة الأخيرة شهدت تطوّراً نوعياً. انتقلت الجمهورية الإسلاميّة من نسخ المنظومات الغربيّة المستوردة في حقبة الشاه (بطاريات الهوك الأميركيّة والرابيير البريطانية) والشرقية (الإس-200 والكفادرات الروسي والصيني) إلى مستوى آخر تماماً.

 لم يطَل هذا التطوّر صناعة صواريخ المنظومات فحسب، بل أيضاً رادارات الكشف والتتبّع أو الاشتباك التي احترفت الجمهورية الإسلاميّة في صناعتها وتصميمها (راجع المقال السابق). من الواضح أنّ الجمهورية قامت بكسر حواجز تكنولوجيّة سمحت لها بتسريع الوتيرة الّتي تصنع فيها منظومات جديدة؛ فبعدما كان المتابعون ينتظرون "الباور-373" و"السوم خرداد" الشهيرين لسنوات طويلة منذ الإعلان عن البدء بمرحلة البحث والتصميم لكلا النظامين، أصبحت منظومات كهذه تخرج من العدم إلى العلن خلال عام أو عامين. 

بعد عام من المقال الذي نُشر سابقاً في هذا المجال، خرجت إلى الضّوء منظومات حديثة بشكل متسارع، كما ذكرنا، وتمّت إضافة تحديثات تقنيّة إلى "الباور-373"، كرادار بحث إضافيّ على منصّة الإطلاق، ظهر في بعض الصور المسرّبة (عمداً؟)، وتحديثات أخرى على منظومة "خرداد-15" التي زودت برادار باحث سلبي، ليصبح اسم المنظومة "جوشن"، إضافة إلى تطوير آخر طال منظومة "شلمجة" المطوّرة بدورها عن منظومة "الهوك" الأميركية، فزوّدت بصواريخ محدّثة تطلق من مستوعبات مغلقة. يساعد ذلك في الحفاظ على الصاروخ من التلف، وخصوصاً ما إذا كان يعمل بالوقود السائل، عبر عزله عن الظروف الجويّة المحيطة، من خلال ملء الأنبوب بغاز النيتروجين في بعض الأحيان. 

بعد أن تسلط الضوء في السنوات السابقة على منظومات بعيدة المدى، مثل "باور" و"خرداد-15" و"تلاش"، أو متوسّطة المدى، مثل "رعد" و"سوم خرداد"، حصلت المنظومات القصيرة المدى على حصّة الأسد في مناورات "حماة سماء الولاية 1400". 

إن منظومة مثل "مجيد" كانت غير مألوفة بالنسبة إلى المدى والحركيّة والحجم، نظراً إلى الدور التي تؤدّيه، فيما أعلنت منظومات، كما "دزفول" و"زوبين"، دخول الجمهورية الإسلامية إلى ميدان الدول المصنّعة للصواريخ عبر "الإطلاق البارد" (Cold launch). ذلك يعني دفع الصاروخ (غالباً باتجاه عمودي) خارج أنبوب الإطلاق باستخدام الغاز المضغوط، قبل أن يشتعل محرّكه خارج في الهواء. حصّة الأسد ذهبت إلى الصاروخ المجهول الذي لم يعلن الإيرانيون عنه حتى، وسمّاه الأميركيون "سام 358" الثوري، وهو الذي يقدّم مفهوماً جديداً كلياً في هذا المجال.

"مجيد"

ظهرت في السنوات الماضية خلال العروض العسكريّة الإيرانية منظومات صغيرة نسبياً محمولة على شاحنات رباعية الدفع صغيرة الحجم تحت أسماء مختلفة، منها "برهان". وكما بدا من حجم الأخير الأساسي، تكهّن الكثيرون أن المنظومة ستلتزم بالفكرة التي طبّقتها العديد من الدول سابقاً، وهي وضع صواريخ مضادة للطيران محمولة على الكتف (MANPADS) على شاحنات خفيفة، كما فعل الروس مع "الإيغلا"، والفرنسيون مع "الميسترال"، والأميركيون مع "الستيغر"، وهو ما يعني أن النظام لن يتجاوز الارتفاع التقليدي للاشتباك لمنظومات كهذه، وهو لا يتجاوز 3 إلى 4 كيلومتر في الحدّ الأقصى.

"مجيد"، على العكس من ذلك تماماً، أخذ الأمور إلى منحى آخر كلياً، فكما يظهر من الصورة، النظام متحرّك ومحمول بشكل من الصعب التفوّق عليه، مع المحافظة على حجم المقذوفات الكبير الّذي يتجاوز حجم صواريخ المقذوفات المذكورة سابقاً بمرتين. 

  • منظومة مجيد للدفاع الجوي قصيرة المدى (تسنيم)
    منظومة "مجيد" للدفاع الجوي قصيرة المدى (تسنيم)

المميّز أيضاً في المنظومة هو اعتمادها على جهاز مسح كهروبصري، يدور كالرادار في جميع الاتجاهات للحصول على مسح 360 درجة، فيما التوجيه نفسه يتمّ بطريقة "اضرب وانس" (Fire and Forget). يعني ذلك أن جهاز التوجيه المستقل موجود في رأس الصاروخ نفسه، ما يمنح الرامي حركيّة أعلى وقدرة أعلى على التعامل مع عددٍ أكبر من الأهداف. 

حجم الصواريخ يوحي بأنها قد تصل إلى ارتفاعات تزيد على 6 كلم ومدى يفوق 8 كلم، وكلا الرقمين مصرّح عنه رسمياً، رغم أن الضباط الإيرانيين تركوا هامشاً للمراقبين للتقدير، قائلين إنَّ هناك إصداراً آخر من مقذوفات هذه الصواريخ سيفوق مداه وارتفاع اشتباكه هذه الأرقام. وما لم يكن جهاز المسح البصري الخاصّ بالمنظومة المتحرّكة يكفي، يمكن رفدها بمنظومة رادارية خفيفة محمولة على شاحنة رباعية الدفع أيضاً تحت اسم "كاشف 99"، وهي تستطيع كشف 300 هدف، بمدى أقصى يبلغ 30 كلم وارتفاع أقصى يبلغ 10 كلم، وهي أرقام مقبولة جداً لحجم كهذا.

ما المميّز في هذه المنظومة إذاً؟ أعتقد أنَّ التفاصيل السابقة تشرح نفسها بنفسها. رغم أن شكل المنظومة ومواصفاتها توحي بأنها ستكون مسؤولة عما يسمى "دفاع الخطّ الأخير" (Last Line) عن المنظومات الأثقل أو الأهداف التي تحاول هذه المنظومات حمايتها، فإن باباً واسعاً من الإمكانيات يُفتح لها إذا ما تخيّلناها في سيناريو كاليمن مثلاً أو جنوب لبنان.

 المنظومة صامتة جداً، حتى إن المسؤولين العسكريين صرّحوا بأنها تزودت بنوع من "الوقود الأخضر" الذي لا يصدر دخاناً يكشف مكانها في حال الإطلاق، وهي سريعة الحركة باستخدام أسلوب عمل فردي، وما عليها إلا أن ترصد الهدف، وتطلق النار بشكل صامت تماماً، ومن ثمّ يتمّ سحبها إلى مكمنها الأساسي مع وقت تفاعل قصير جداً ممنوح للهدف، نظراً إلى قدرة الصاروخ العالية على المناورة (زعانف المناورة في الأمام)، قصر المدى وسرعة المقذوف. 

"دزفول" و"زوبين"

حصلت الجمهورية الإسلامية في إيران على منظومة "تور إم-1" الروسية في العام 2006. ما زلت أذكر بشكل واضح الإعلان عنها في الصفحة العسكريّة التي كانت تصدر عن جريدة "الانتقاد". يومها، لم أفهم ما تعنيه هذه المنظومة فعلاً ولا مقدرتها، رغم أن المنظومة بنفسها، وهي قصيرة المدى، لم تتمتّع بقدرات خارقة يومها، سواء من ناحية المدى أو المقدرة على التعامل مع الكثير من الأهداف في آن، إلا أنها تمكّنت من سدّ ثغرة في الدفاعات الجويّة الإيرانية على المدى القصير، وخصوصاً في فترة تهديدات إدارة جورج بوش الابن بالهجوم على المفاعلات النوويّة الإيرانية بعيْد احتلال العراق. 

المميّز في المنظومة هو قدرتها على التعامل مع الأهداف التي تحلّق على ارتفاع منخفض، وبشكل أساسي صواريخ "الكروز" الجوّالة، بشكل سريع وفعّال، نظراً إلى أنها قادرة على أن تطلق عمودياً حمولة صواريخها التي تبلغ 8 صواريخ، في وقت تفاعل قياسي لا يتجاوز الثواني القليلة، باستخدام تقنيّة الإطلاق العمودي البارد.

مشكلة هذا النموذج الأقدم كانت قدرة كلّ عربة على التعامل مع هدفين، عبر ضرب كلّ منهما بصاروخ أو اثنين في آن، ما حتّم عليها ضرورة العمل في بطاريّات تقوم بالتنسيق بين بعضها البعض في حال "هجمات الإغراق" (Swarm attacks). 

ثمة مشكلة أخرى تتجلّى في غياب قناة بديلة للرادار المحمول بشكل مستقل تحمله منظومة "دزفول" في حال التشويش الإلكتروني الشديد أثناء ظروف المعركة. على الرغم من أنَّ المنظومة ليست سيئة في التعامل مع ظروف كهذه، فإن الإيرانيين دأبوا منذ عدّة سنوات على تزويد منظومات "التور" بجهاز من هذا النوع يكون الملاذ الأخير في حال التشويش، بعدما أصبحوا قادرين على صناعة أجهزة الرصد والتصوير الكهروبصري بكفاءة وبعدد كبير. يمكننا ملاحظة هذا المسار في العديد من المنظومات الإيرانيّة، نظراً إلى إدراك القادة العسكريّين لحتميّة العمل في ظروف التشويش الإلكتروني أو السايبري في حال اندلاع المعركة.

"دزفول"، الحامل لاسم مدنية دزفول، يتشارك مع "التور" في كثير من هذه المميّزات. لم يعطِ القادة العسكريون الكثير من المعلومات عن المنظومة، باستثناء المدى الذي يبلغ 12 كلم، وارتفاع الاشتباك الذي يبلغ 6 كلم. يبدو أن المنظومة تتجاوز منظومة "التور إم- 2" بقدراتها، فهي تستطيع الاشتباك مع 4 أهداف في آن عوضاً عن اثنين.

بشكل آخر، تتجاوز المنظومة الكثير من محدوديات المنظومة السابقة، ويُحتمل أن تكون قادرة على إطلاق الصواريخ في حالة الحركة، نظراً إلى أنَّ الإيرانيين كانوا قد تحدّثوا في السنوات السابقة عن عملهم على منظومة بقدرات كهذه. هذا الأمر يعطيها أفضلية كبيرة، نظراً إلى الدور الموكل إليها، أي الاشتباك القصير الَّذي يحتاج إلى قدرة عالية على الحركة ووقت قصير للتفاعل. 

  • منظومة دزفول للدفاع الجوّي قصيرة المدى (تسنيم)
    منظومة "دزفول" للدفاع الجوّي قصيرة المدى (تسنيم)

إلى جانب منظومة الإطلاق العمودي "دزفول"، ظهرت منظومة أخرى غامضة تستخدم التقنيّة نفسها التي تتميّز بالإطلاق البارد. في السادس عشر من الشهر الجاري، أعلن الصحافي في وكالة "فارس" محمود شلتوكي اسم المنظومة، وهو "زوبين". وبحسب شلتوكي، إن النظام الصاروخي هو النسخة الأرضية من منظومة "نوّاب" للدفاع الجويّ، والتي يتمّ تطويرها حالياً لسلاح البحريّة الإيرانية.

ما يمكن ملاحظته من التفاصيل الواضحة في مقطع الفيديو المنشور ليس بالكثير؛ أولها قدرة المنظومة على الإطلاق العمودي، كما سبق أن ذكرنا، وتزويدها برادار غير مألوف الشكل. القسم العلوي الدوّار هو رادار الكشف، فيما "المكعّب" أسفله يحوي على الأرجح 4 رادارات اشتباك موجهة في جميع الاتجاهات، والتي تشبه رادارات القطع البحريّة الحديثة، بحجم أصغر بكثير بالتأكيد.

  • منظومة زوبين للدفاع الجوّي (تسنيم)
    منظومة زوبين للدفاع الجوّي (تسنيم)

 لم يعلن عن أي تفصيل عن قدرات النظام، ولكن يمكن التكهّن من حجم الصواريخ بأن المدى سيكون ضمن القصير إلى المتوسّط، رغم أنّ النظام مزوّد في الفيديو بـ4 صواريخ فقط في حال الجهوزية، ولكن من الواضح أنه قادر على حمل صفّين آخرين بشكل مترادف، ما يرفع الرقم الكلّي إلى 12 صاروخاً. إنه رقم منطقي في حال كان هدف المنظومة هو التعامل مع هجمات الإغراق التي أصبحت أكثر شيوعياً مع انتشار المسيّرات "الانتحارية" والصواريخ المجنّحة بشكل أكبر في هذا السنوات.

الصاروخ الجوّال (!؟) المضادّ للطائرات

في العام الماضي، ضبط سلاح البحريّة الأميركية في البحر الأحمر شحنة سلاح غير مألوفة. كانت الصناديق الخشبيّة تحتوي على قطع من سلاح غير مسجّل في السجلّات الرسمية الأميركية، ولم يظهر في أي العروض أو المعارض العسكريّة الإيرانية على مدى السنوات. 

بيان البنتاغون أعلن ضبط الشحنة، ولكنّه رفض تقديم أي تفاصيل عن الصاروخ ووظيفته وماهيّته، واكتفت بمنحه الاسم "سام-358". تمّ نشر صور الصاروخ المضبوط، وفتحت أبواب التكهّنات والتحليلات أمام الهواة والخبراء على السواء. 

ما هو هذا الصاروخ؟

المربك في شكل الصاروخ هو أنَّ زعانف التوجيه الخاصّة به توحي بأنه صاروخ مضاد للأهداف الجوّية، ولكن محرّكه نفّاث ويستعمل عادةً في الصواريخ الجوّالة الصغيرة، نظراً إلى أنه غير قادر على دفع الصاروخ بشكل كافٍ إلى سرعات تمكّنه من اصطياد الأهداف الجويّة المناورة. 

  • الصاروخ رقم 358 من الشحنة المضبوطة في عام 2020 في بحر العرب (البنتاغون)
    الصاروخ رقم 358 من الشحنة المضبوطة في العام 2020 في بحر العرب (البنتاغون)

إذاً، هو ليس صاروخاً مضاداً للأهداف الجويّة. من جهة أخرى، يحتوي رأس الصاروخ الحربي على جهاز تصوير بصري من نوع ما، قد يكون باحثاً حرارياً. وحول الصواريخ، تلتفّ حسّاسات ليزرية تعمل كصواعق تفجير "عبر القرب" (laser proximity fuse). إذاً، هو صاروخ مضادٌّ للأهداف الجويّة. القسم الذي يحلّ لغز التناقضات في هذا الصاروخ الغامض هو الدافع السفلي القابل للانفصال، كيف ذلك؟

إذا ما شاهد القرّاء أحد فيديوهات إطلاق الصواريخ الفضائيّة، يمكنهم ملاحظة أنَّ أقساماً من المكوك الفضائي تنفصل بشكل تدريجي ما إن يصل المقذوف إلى سرعات عالية تمكّنه من الإفلات من جاذبية الأرض، تعمل بعدها محرّكات المكّوك الأضعف خارج الغلاف الجوّي لتدفع الجسم بدون قوّة الجاذبية المقاومة. 

بالتأكيد، لن يخرج الصاروخ المسمى "سام-358" من الغلاف الجوّي، لكنّ الفكرة مشابهة. يحمل الدافع القابل للانفصال (انظر الصورة) الصاروخ إلى ارتفاعات تزيد على ارتفاعات الصواريخ المطلقة عن الكتف، والتي تحدّثنا عنها، بسرعات ما فوق صوتيّة. 

وعندما يبلغ الصاروخ ارتفاعات تصل إلى 8-10 كلم مثلاً، ينفصل القسم السفلي ليسقط باتجاه الأرض، ويشتغل المحرّك النفاث الأضعف من جهة، والذي يتمتّع بقدرة على العمل لوقت أطول بكثير، وتبدأ أجهزة التوجيه بالعمل بكفاءة، في وقت يتباطأ الصاروخ تدريجياً إلى سرعة ما تحت صوتية. ما الفائدة من ذلك؟

للإجابة عن السؤال السابق، علينا الإجابة عن سؤال أسهل: ما الأهداف التي تحلّق ببطء شديد على ارتفاعات لا تجاوز 8 كلم إذا ما أرادت العمل بكفاءة؟ المسيّرات الجوّية أو الطائرات من دون طيّار. في الخلاصة، من "ابتكر الصاروخ" قام باختراع مفهوم جديدٍ كلياً لمجابهة خطر حديث، كلفته ضئيلة، وفعاليّته عالية، وحجمه صغير يمكّنه من العمل في ظروف المعركة غير المتكافئة بشكل مثالي. إنه صاروخ جوّال مضادّ للطائرات، هو الأول من نوعه من العالم، حتى نكون دقيقين.

من البحر الأحمر إلى صحراء العراق

في الأيام الماضية، في مكان ما من الجنوب العراقي، عثرت القوات العراقية على نموذج من صاروخ "سام-358" الجوّال المضاد للطائرات، وانتشرت الصور كالنار في الهشيم في وسائل التواصل الاجتماعي. من لم يتابع قصّة الاستحصال الأولي على الصاروخ في العام 2019، لن يكون مذنباً في أن يظنّ أن الصاروخ من عمل الفضائيين، وأن شكله غريب فعلاً. ما الذي أتى بالصاروخ إلى الصحراء العراقية؟

هناك عدّة احتمالات. انبرى العديد من الهواة (وكاتب هذه السطور منهم) إلى تحليل الصور المنشورة، وهناك عدّة نقاط يمكن استخلاصها: أولاً، لم يتمّ إطلاق الصاروخ، فلا بدنه ولا زعانف التوجيه الخاصّة به متضرّرة، وهذا مؤكد، في حال تمّ إطلاقه، ولو سقط على الرمال. ثانياً، لم يتمّ نزع غطاء حماية الباحث البصري للصاروخ، أي أنه ليس في وضعية الإطلاق أو الكمين المعدّ مسبقاً بأي شكل. 

  • الصاروخ 358 في العراق
    الصاروخ 358 في العراق

قد يقول قائل إن الصاروخ كان مخزّناً بشكل سريّ، وتمّ كشفه بعمليّة أمنيّة، ولكنه كان موضوعاً أمام الملأ بشكل علنيّ جداً، حتّى إن أحد المعلّقين يقول إن العراق وصحراءه كبيران جداً، ولن يصعب عليك إخفاء صاروخ لا يتجاوز حجمه 3 أمتار إن أردت ذلك.

الاحتمال الأقرب إلى المنطق هنا، بما أنّ التكنولوجيا تمّ كشفها سابقاً (وذلك لا يجعلها غير فعّالة بالضرورة)، هو أن هذا "الكشف" قد يدخل في إطار سيناريوهات "ماذا لو؟". ماذا لو أراد الطرف الذي وضعه هناك إرسال رسالة واضحة: "ماذا لو أصبحت مروحيّاتكم وطائرات مراقبتكم المأهولة أو غير المأهولة في مرمى "السام 358"؟ ألن يغير ذلك من قواعد الاشتباك في هذه المنطقة الرماديّة؟

لو أن القوّات الأميركيّة أو أحد حلفائها قام بكشف منصّة التوجيه الخاصّة بالصاروخ المذكور سابقاً، لكان الأمر قد اختلف تماماً. على الرغم من أن مقاطع الفيديو في اليمن تخلو من أي إشارة إلى نوع صواريخ، إلا أن إسقاط العديد من المسيّرات يطرح العديد من الأسئلة التي ستبقى على الأرجح من دون أجوبة في المدى القريب. المؤكّد هنا أن إسقاط المسيّرات الكبيرة في اليمن أصبح في السنوات السابقة بغاية السهولة، حتى انتقل الأميركيون إلى استعمال مسيّرات أصغر، مثل "سكاي لارك" (Skylark)، لتخفيف الكلفة المتصاعدة التي تدفعها الولايات المتحدة في مشاركتها المباشرة وإدارتها للعدوان على اليمن.

لنعد إلى جنوب لبنان من جديد، كخطّ دفاع أول في وجه المشروع الصهيوني الغربي في بلادنا، ماذا لو وصلت بشكل ما، غير معروف، صواريخ كهذه إلى أيدي المقاومة! من المعروف أن سلاح الجوّ الإسرائيلي، على ضخامة ترسانته، من الطائرات والقنابل الموجّهة والذكيّة، يعتمد على الجمع الاستخباراتي كعمود أساسي في أي عمليّات حربية هجومية. 

في ضوء ذلك، ماذا سيكون مصير جهده الحربي إذا ما اضطر إلى التعامل، بعد الضربة الأولى لبنك أهدافه في بداية الحرب، مع خصمٍ لا يملك مراكز قيادةٍ واضحة وثكنات وقوافل إمدادٍ أو مراكز تجمّع معروفة من دون أي استطلاعٍ جويّ؟ ألن يتحوّل سلاح الجوّ إلى سلاح مدفعيّة مبجّل آخر بمدى أطول؟ هذا إذا ما أخذنا الجانب العسكري وحيّدنا ضرب المنشآت المدنية، والتي سيقوم بضربها بالتأكيد عندما سيجنّ، وهو سيجنّ على الأرجح!