عندما يغدو الجسد السلاح الأخير

ما زالت معركة الأمعاء الخاوية ترهب الاحتلال، لأنه يدرك ما سيحل بصورته "الديمقراطية" الوهمية.

  • عندما يغدو الجسد يعاني الأسير الفسفوس من إرهاق وهزال وآلام في جميع أنحاء جسدهالأخير
    عندما يغدو الجسد يعاني الأسير الفسفوس من إرهاق وهزال وآلام في جميع أنحاء جسدهالأخير

يتساءل العديد من الأشخاص المناصرين للمقاومة والمعادين لـ"إسرائيل" عن جدوى إضراب الأسرى الفلسطينيين (وخصوصاً أسرى الاعتقال الإداري) عن الطعام لمئات الأيام، ويطّلعون على أخبارهم، ويتابعون حالتهم الصحية بأسى شديد، والبعض الآخر يتابع مستغرباً القدرة التي يظهرها الأسرى في تحديهم السّجان الإسرائيلي الغاصب.

في كل الأحوال، إن سياسة الاعتقال الإداري تشكل إحدى أبرز السياسات الممنهجة التي يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي بحق المعتقلين الفلسطينيين. بلا تهمة، وبلا محاكمة، يصدر "الشاباك" الإسرائيلي (مخابرات الاحتلال) أمراً بالاعتقال من دون سبب، تحت مسمى "الملف السري"، وتتراوح مدة الاعتقال بين شهر و6 أشهر قابلة للتجديد.

ويقبع أكثر من 600 معتقل فلسطيني في السجون الإسرائيلية، وبشكل مخالف للقوانين الدولية وحقوق الإنسان، من دون تهمة، بذرائع الاحتلال الواهية بأنّ المعتقلين الإداريين لديهم ملفات سرّية لا يمكن الكشف عنها مُطلقاً، فلماذا يلجأ هؤلاء الأسرى إلى الإضراب عن الطعام؟ ومتى يقررون ذلك؟

من نافلة القول إنَّ الأوضاع في السجون الإسرائيلية - إن كان على مستوى التحصين أو على مستوى ظروف المعيشية غير الإنسانية - بلغت ذروتها في ممارسة الانتهاكات بحق الأسرى، وباعتراف الإسرائيليين أنفسهم، ضمن تقارير يعدونها في مكاتب "المحامين" في وزارة القضاء الإسرائيلية، ويعترفون فيها بوجود انتهاكات للقانون الإسرائيلي ذاته بحق السجناء الفلسطينيين، كالإهانات اليومية، والنوم على الأرض بسبب الازدحام، وتكبيل الأسرى وأيديهم فوق رؤوسهم كإجراء عقابي، والعزل الانفرادي، ومنع الزيارات، والتفتيش العاري من دون سبب، والكثير من الضرب والتعذيب والشتائم.

وللتذكير، إن هذه السجون مزودة بأبراج مراقبة تعمل على مدار الساعة، وبكلاب حراسة ومجسّات وأجهزة استشعار ومنظومات مراقبة حديثة، وكميات هائلة من الإسمنت المسلح في أرضية السجن، إضافةً إلى العدّ الصباحي والمسائي، أي إحصاء أسرى السجن والتأكد من وجودهم جميعاً. كل ذلك يجعل من السجن قبراً حقيقياً للأسرى.

في هذه الحالة، هل يكون لدى الأسير خيار؟ فضلاً عن أن الأسير سُجن – حتماً - ظلماً، فهو سجن أيضاً بلا تهمة، وبالتالي، فإن حال الأسير المعتقل إدارياً ليس كحال الأسير الذي يدرك مثلاً أنه في السحن لأنه أطلق النار على مستوطنين أو نفَّذ عملية طعن ضدّ الشرطة الإسرائيلية... تهمته بكل بساطة هي "لا تهمة"!

وإن تعددت تسميات الأسرى الفلسطينيين (ان كان إدارياً أو سياسياً أو على خلفية تنفيذ عملية)، فإنهم في نهاية الأمر وقعوا في أسر هذا السجّان، وهذه هي الظروف التي ستواجههم. لذا سيكون أمامهم رفض سياسات الاحتلال، ورفضها فعلياً فقط. وقد يتجلّى ذلك في إحدى هذه الخطوات أو في جميعها:

1.    قد يبدأ التعبير عن الرفض ببروز سلوكيات غاضبة للأسرى، من خلال الكتابة على الجدران وتخريب المرافق، ويمكن أن يصل الأمر إلى إضرام النار احتجاجاً على الانتهاكات الإسرائيلية.

2.    قد يعمد الأسرى إلى سياسة تهريب السجائر والطعام، وحتى الكتب، في تحدٍ شجاع لإرادة السجان الإسرائيلي.

3.    قد يقدمون البرهان - الواضح كعين الشمس - على أن السلطات الإسرائيلية ليست الطرف الذي يتخذ قراراً بالحياة والموت. هذا البرهان هو "النطف المهربة"، وهو السياسة التي تقهر المحتل حد الجنون، إذ يولد الأطفال الفلسطينيون بعد تهريب نطف من آبائهم داخل السجون وزراعتها في أرحام أمهاتهم. 

4.    قد يحاولون الهرب من السجن، رغم التحصينات التي قد يخال البعض أن نسبة تخطيها تكاد تكون صفراً، والنموذج الأبرز على ذلك هو تمكّن الأسرى الستة مؤخراً من الفرار من سجن جلبوع؛ أحد أكثر السجون الإسرائيلية تعقيداً وتحصيناً؟

هذه هي المقاومة، وهذا هو رفض الخنوع للاحتلال، وتحدّي السجان ومنظومته الجاحدة، وهذه هي المعجزات التي يصنعها الأسرى في السجون، لكنَّ حالهم كحال الّذي استثمر كلّ أدواته وسبله وكلّ أسلحته. وبعد القمع الشديد والإجراءات الانتقامية، يغدو جسد الأسير سلاحه الأخير، ويبقى له أن يتوقف عن تناول الطعام، باستثناء القليل من المياه والملح، احتجاجاً على اعتقاله وظروف احتجازه.

وتبدأ مفاعيل الإضراب عن الطعام بالتأثير في سمعة "إسرائيل"، إذ تأتي وفود من اللجنة الدولية للصليب الأحمر لمراقبة حالة المضربين. وفي ظل التعنت الإسرائيلي المستمر وعدم الاستجابة، يمكن أن تتدهور حالة الأسير الصحية، حتى يصل - لا سمح الله - إلى شفا الموت، إذ لا يقضي بعض الأسرى عشرات الأيام فقط في الإضراب، بل المئات منها، كما حدث مؤخراً مع الأسير ماهر الأخرس (104 أيام من الإضراب)، وكانت النتيجة أنه انتزع حريّته من المحتلين بسلاح الجسد، وكما يحدث الآن مع 5 معتقلين إداريين هم: كايد الفسفوس، وعلاء الأعرج، وهشام أبو هواش، وعياد الهريمي، ولؤي الأشقر، والذين تخطى بعضهم 110 أيام في الإضراب عن الطعام.

بعد كلّ ما يواجهه الأسير، وبعد عرض كل الانتهاكات الإسرائيلية بحقّه، فإنَّ سياسة الإضراب عن الطعام تلفت الانتباه إلى الظلم والجور الذي يلحق بالأسرى وحقيقة عذاباتهم بكلّ ما للكلمة من معنى، فنشاهد - كما ذكرنا في بداية المقال - صورهم التي تحاكي وضعهم الصحي وجسدهم الهزيل وتعبهم الكبير. كل ذلك في سبيل الحرية، وفي سبيل فضح السياسات الإسرائيلية.

الآن، يعاني الأسير الفسفوس من إرهاق وهزال وآلام في جميع أنحاء جسده. أما الأسير الأعرج، فلا يستطيع الوقوف على قدميه، ويعاني من آلام في البطن والصدر، وحالة الأسير أبو هواش متراجعة، إذ شملت الأوجاع قلبه وكبده. ورغم كلّ ذلك، بقوا متمسكين بعدم تناول الطعام رغم الضغط الإسرائيلي.

ما زالت معركة الأمعاء الخاوية ترهب الاحتلال، لأنه يدرك ما سيحل بصورته "الديمقراطية" الوهمية، حتى يظهر أمام الرأي العام العالمي على حقيقته الفاشية والعنصرية. هكذا تُحرَج وتُحاصَر "إسرائيل"، وتجد نفسها مجبرة على الخضوع لمطالب الأسرى، ولو بعد حين.

نضال مستمر لسنوات ما يلبث أن يخبو أو يهدأ قليلاً إلا وتشعله ممارسات سلطات الاحتلال الإسرائيلية بحق أسرى هم بالأساس مناضلون من أجل الحرية والتحرر.. اليوم معركة جديدة-قديمة لانتزاع الحقوق، معركة الأمعاء الخاوية..