"قسد" تواكب العاصفة الإقليمية: مبادرة من مقعد "الأمر الواقع"

أدركت القيادات الكردية أن المساعي الروسية والإيرانية على خط دمشق - أنقرة بلغت موقعاً متقدماً، وأن أي تسوية سورية – تركية محتملة لا بد من أن تكون "قسد" هي الخاسر الأول والأكبر فيها.

  • "قسد" تواكب العاصفة الإقليمية: مبادرة من مقعد "الأمر الواقع"

لم يكن متوقعاً أن تجلس "قسد" في موقع المتفرج والمراقب، فيما تشهد المنطقة حراكاً كالسيل المنهمر من كل جانب ليصب في أنهار دمشق، فما جرى في الآونة الأخيرة، وخصوصاً منذ زلزال شباط/فبراير الماضي مباشرةً وحتى اللحظة، جاء أبعد من كل التوقعات الكردية.

لقد كرت سبحة انفتاح الأنظمة والحكومات العربية والإقليمية على الدولة السورية، حتى بدا الأمر كسباق عربي وإقليمي للوصول إلى عاصمة الأمويين التي قاتلت بضراوةٍ وصمدت أكثر من 10 أعوام، وواجهت ما يشبه الحرب العالمية الحقيقية التي شاركت فيها جل تلك الأطراف ذاتها، حتى قيل إن سقوطها كان قاب شهرين أو ثلاثة لا أكثر.

ليس هذا "التدفق" العربي الرسمي باتجاه دمشق وحده ما جعل مياه "قسد" تتماوج في مكانها باحثةً عن سبيلٍ للجريان أيضاً، بل إن الصمت الأميركي الرسمي حيال هذا النشاط العربي المستجد الذي أدركت قيادات "قسد" العسكرية والسياسية أنه مجرد صمت شكلي، وأن خلف الأكمة همسات أميركية رسمية كانت واضحة بشكل جيد لسامعيها العرب، أكد أن الولايات المتحدة الأميركية لا تمانع حدوث خطوات معينة من الانفتاح على دمشق.

يعود ذلك إلى أسباب لا تتعلق بتغير الموقف الأميركي من الدولة السورية وشعبها وقيادتها السياسية بكل تأكيد، بل بالصراع مع موسكو ومحاولة قطع الطريق على نصرٍ تحققه الأخيرة على المسار التركي السوري، وبالصراع مع طهران أيضاً، والسعي لإحداث خرق في علاقتها بدمشق، من خلال إيجاد "خيارات" سياسية واقتصادية تعتقد واشنطن أن الدولة السورية في أمس الحاجة لها الآن في ظل هذا الحصار الأميركي والغربي الذي بلغت آثاره المدمرة كل بيت سوري.

من جهة أخرى، أدركت القيادات الكردية أن المساعي الروسية والإيرانية على خط دمشق - أنقرة بلغت موقعاً متقدماً، وأن أي تسوية سورية – تركية محتملة لا بد من أن تكون "قسد" هي الخاسر الأول والأكبر فيها، خصوصاً أن معظم البنود التي يحملها المفاوضون الأتراك إلى اجتماعاتها الخاصة بهذا المسار تبدأ وتنتهي عند "قسد" وعند ما تسميه أنقرة "الإرهاب الكردي"، وهذا وحده كفيل بإحداث قلق كبيرٍ لدى الجالسين خلف مكاتب "الإدارة الذاتية" في الشرق السوري، الذين يتوقعون أن "يتفرغ" لهم الجميع معاً، لا فرادى، في وقتٍ لاحق.

من هنا، كانت "المبادرة" التي أطلقتها "قسد" في الآونة الأخيرة متوقعة في توقيتها وشكلها، وإن كانت مضامينها قد أتت بما هو جديد. كذلك هو الأمر بالنسبة إلى التصريحات الجديدة التي أطلقها عدد من القيادات الكردية، وإن كان بعضها يعاني تناقضاً واضحاً أو تخبطاً تفرضه سرعة الأحداث الجارية في سوريا والمنطقة.

في مؤتمرٍ صحافي عقدته قيادات بارزة في "الإدارة الذاتية" في مدينة الرقة شرقي سوريا، يوم الثلاثاء 18 نيسان/أبريل الفائت، أعلنت القيادة السياسية الكردية عن مبادرتها الجديدة للوصول إلى حل سلمي للأزمة في سوريا، والتي تألفت من 9 نقاط رئيسية، بدأت بتأكيد "وحدة الأراضي السورية"، ثم ضرورة الاعتراف "بالحقوق المشروعة لكل المكونات الإثنية والدينية التي تشكل المجتمع السوري" وحماية الحقوق الجماعية لهذه المكونات، و"تطوير القيم والآليات الديمقراطية" و"تأسيس نظام إداري سياسي تعددي لا مركزي يحفظ حقوق الجميع"، ووجوب توزيع ثروات البلاد بشكل عادل بين جميع المناطق السورية.

والجديد هنا أنّ "الإدارة الذاتية" ضمّنت مبادرتها تلك استعدادها للمشاركة في حل مسألة اللاجئين السوريين، من خلال استقبال أعداد كبيرة منهم في المحافظات الثلاث التي تسيطر عليها أو على أجزاء كبيرة منها، وهي الرقة والحسكة ودير الزور.

الملاحظ بدايةً أن "الإدارة الذاتية"، ومن خلال البند الأول الذي طرحته في هذه المبادرة، والذي يتحدث عن "وحدة الأراضي السورية"، أرادت أن تنفي وجود أي نيات انفصالية لدى قياداتها. 

أما الملحوظة الأساسية واللافتة التي تتعارض بشكل واضح مع العنوان العام في البند الأول، فهي انطلاق تلك "الإدارة" في مبادرتها تلك من موقع "النموذج" الذي بات أمراً واقعاً لا يمكن تخطيه، ناهيك بحذفه، والذي بمقدوره، في رأيهم بالطبع، أن يتحوّل إلى مثالٍ يحتذى في الإدارة والسيطرة، وباستطاعته أن يكون قوة قادرة حتى على عرض "استقبال لاجئين" قد يفوق عددهم المليون وعلى توطينهم ورعاية شؤونهم كأي دولة قائمة. 

مسألة "توزيع الثروة بشكل عادل" بين جميع المناطق السورية، التي تشير إلى سيطرة "الإدارة الذاتية" على القسط الأكبر من ثروات سوريا النفطية والزراعية، واستعدادها لتقاسمها مع السوريين الآخرين شرط إدارتها (اللا مركزية الإدارية المشار إليها في المبادرة)، لا تلغي ذاك المنطلق "الذاتي" الذي بدا واضحاً في لغة البيان. 

كذلك هو أمر "مكافحة الإرهاب" الذي أكدت تلك القيادات أنها ماضية فيه، وهذه النقطة تحديداً تعيدنا إلى الموقع والمنطلق ذاته، لجهة أن المسؤوليات التي اضطلعت بها "الإدارة الذاتية" وذراعها العسكرية "قسد"، والتي وضعت الولايات المتحدة عناوينها العريضة واعتبرتها "شريكاً" أساسياً في هذه المهمة الدولية المدعاة أميركياً وغربياً، تجعل من الإدارة الذاتية قوة "شرعية" شريكة لقوى عظمى على مستوى دولي وعالمي، لا على مستوى محلي أو إقليمي فحسب. وهنا أيضاً، وبالتحديد، ندرك أنّ المبادرة أتت بموافقة أميركية أكيدة، ولأسبابٍ أميركية بحتة أيضاً.

تحاول الولايات المتحدة الأميركية، التي فشلت في إسقاط الدولة السورية ونظامها السياسي الحاكم، وتخلفت بشكل كبير عن الخطوات الروسية والإيرانية المتقدمة في سوريا والمنطقة، أن تواجه من جديد، ولكن هذه المرة بالأسلوب الروسي الإيراني نفسه الذي تلا الانتصار على الجبهات العسكرية، أي أن تدخل "بازار" التسويات التي لا تهدف إلا إلى "ضرب التسويات" التي يقودها خصومها وأعداؤها في المنطقة. 

الإيذان الأميركي بانفتاح عربي على الدولة السورية (أين اختفت التهديدات الأميركية بفرض عقوبات على كل دولة أو جهة تتعاطى مع الدولة السورية؟)، والذي لا بدّ من أن واشنطن وضعت له حدوداً وهوامش قد تظهر لاحقاً، هو لمواجهة موسكو وطهران ونشاطهما القوي على مسار التسوية التركية – السورية التي قد تحدث زلزالاً على مستوى الأزمة السورية، وعلى ضفة الاحتلال الأميركي وأدواته في الشرق السوري بشكل أساسي، لو جرت بشروط دمشق (وهو المرجّح، بل لا خيار في نظر دمشق غير ذلك).

والمبادرة الكردية (الأميركية) الجديدة هي لتقديم "الإدارة الذاتية" كشريك أساسي على طاولات المفاوضات في الداخل والمنطقة، وليس كهدفٍ خاسر أو طرف سيبقى وحيداً بعد وصول التسويات الإقليمية والمصالحات الداخلية إلى نتائجها المرجوة، وسيشار إليه، بل ويجري التعاطي معه، كعقبةٍ رئيسية باقية أمام الحل النهائي الذي يعيد سوريا إلى وضعها الطبيعي.

هذا ما أدركته قيادات "الإدارة الذاتية" بالفعل، بعيداً من أهداف واشنطن من كل هذه المناورات، وهذا تحديداً ما يشرح ويترجم التصريحات الكردية اللافتة التي صدرت عن قياداتٍ في "الإدارة الذاتية" و"قسد" في الأسابيع الأخيرة، فالقائد العام لـ"قوات سوريا الديمقراطية"، مظلوم عبدي، استبق المبادرة الكردية بتصريحات جديدة لتلفزيون "المشرق" المصري، عبّر فيها عن أمله في انضمام قواته مستقبلاً إلى الجيش السوري. 

لقد رأى عبدي أن "قسد" هي قوات سورية و"جزء من منظومة الدفاع عن الأراضي السورية"، لكنه رأى من ناحية أخرى أن أي حل لا يأخذ "قسد" وقوتها ومسؤولياتها الآن ومستقبلاً في الدفاع عن المناطق الكردية و"محاربة الإرهاب" بعين الاعتبار هو حل مرفوض كردياً.

وهنا نعود إلى المنطلق ذاته الذي تتحرك منه "الإدارة الذاتية"، باعتبار نفسها "أمراً واقعاً" يجب أن يبقى "واقعاً" في أي تسوية مقبلة أو حل ممكن، بل في أي مفاوضات لأجل تسوية أو حل في سوريا. 

من جهة أخرى، رأى عبدي أن أي مفاوضات أو تسوية سورية - تركية لا ينتج منها خروج القوات التركية المحتلة من الأراضي السورية ووقف اعتداءاتها على الأراضي السورية (أي على مواقع الأحزاب الكردية) هي تسوية موجهة ضد "قسد"، في رأيه، بل إن العلاقات بين الجانبين في تلك الحالة ستكون موجهة ضد الكرد الذين سيقاومون ذلك "ويواجهون تلك المخططات" بكل قوة.

تدرك القيادات الكردية أنّ "قسد" ما زالت مهمة جداً بالنسبة إلى الأميركيين، وأن واشنطن ليست في وارد الانسحاب السريع والتام من الشرق السوري حالياً، ما يجعلهم ينطلقون من ذاك الموقع القوي في مفاوضاتهم ومبادراتهم ومطالبهم.

 ويدرك هؤلاء أيضاً أن الولايات المتحدة الأميركية، والغرب عموماً، لم يعد ليدهم ما يقدمونه أكثر من هذا الوجود الاحتلالي الناهب، ومحاولات عرقلة التسويات التي تصب في مصلحة الدولة والشعب في سوريا، وإفلات قطعان الإرهابيين من معاقلها الأميركية في الشرق السوري لإحداث الفوضى و"شرعنة" الوجود، وأن السوريين وحلفاءهم، بعدما ينتهون من الملفات السياسية التي تتقدم بسرعة مع دول المنطقة، لن يسكتوا على هذا الاحتلال الأميركي أو يتفرجوا من بعيد على مخططاته وسرقاته، وأن نتائج المسار التركي – السوري، كما المسارات السورية مع الدول العربية التي تتصدر موسكو وطهران نشاطاتها جميعاً، لن تكون في مصلحة الوضع الكردي في الشرق السوري في المستقبل القريب أبداً.

لذلك، من المنتَظر أن تتقدم القيادات الكردية، وبلغة أخرى ومنطلقات مغايرة، بما هو أبعد وأكثر من تلك "المبادرة" في الأيام المقبلة. وفي حال لم تستقبل مكاتب دمشق وموسكو ضيوفاً من القامشلي في الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة، فهذا يعني أن الكرد فشلوا في قراءة السياسة ومجرياتها من جديد.