عبير نعمة في ساحة العباسيين.. ليلة كما أردنا

الفنانة عبير نعمة أوفت بوعدها لجمهور سوري لم يستطع حضور حفلها في أيلول/سبتمبر الماضي في دار الأسد للثقافة والفنون في دمشق.

  • عبير نعمة في ساحة العباسيين.. ليلة كما أردنا
    عبير نعمة في ساحة العباسيين.. ليلة كما أردنا

 

قبل الحرب، كانت ساحة العباسيين تعتبر موقعاً حيوياً لسكان العاصمة دمشق، كونها تشكل نقطة التقاء لسبعة شوارع تصلها بأماكن مختلفة، أولها شارع فارس خوري الآتي من كراجات تجمّع مسافرين من مختلف المحافظات، والقصاع بسوقه المعروف وكنائسه مُتعدّدة الطوائف، والتجارة والزبلطاني وبغداد والقصور، وشارعاً يصل إلى جوبر وبلدات ريف الغوطة الشرقية، كما ارتبط إسمها بملعب العباسيين الذي احتضن معظم مباريات الفِرَق المحلية.

لكن مع السنة الثانية للحرب اختلف الأمر كلياً، فتحوَّلت الساحة إلى طريق لمَن ليس لديه خيار آخر، وإلا فالبُعد عنها أفضل، كونها باتت هدفاً لقذائف وصواريخ مسلّحي جوبر وعين ترما ومناطق قريبة أخرى غزاها سواد الإرهاب، ليرتبط اسمها بالرّعب والموت، موت أبرياء حملتهم صدفة سوداء إلى مكان سقوط قذيفة عشوائية.

وفي آذار/ مارس عام 2018، عندما أعلن الجيش السوري جوبر وعين ترما وزملكا مناطق آمِنة، تنفسّت ساحة العباسيين والسكان من حولها الصُعداء، وبدأت تستعيد حركتها وحيويّتها تدريجاً، وتمحو آثار الموت ووحشته، لترسم بعد أقلّ من عامين، وفي ليلة العشرين من كانون الأول/ ديسمبر تحديداً؛ مشهداً مختلفاً كلياً، مشهد حياة وسلام ورجاء، مشهداً كاد يفقد سكان دمشق وريفها القريب الأمل بحدوثه، بعدما أرخت الحرب قسوتها على تفاصيل حياتهم اليومية.

ففي ليلة الجمعة الماضية، كانت ساحة العباسيين على موعد مع سهرة ميلادية، نظّمها فريق سابرو التطوّعي من بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس، فاحتشد المئات من مختلف ألوان المجتمع السوري، احتفالاً بالسلام والبقاء والأمل والنصر.

ومع الفرقة السمفونية العسكرية بدأت الأمسية، وتواصلت بإضاءة شجرة ميلادية بطول 20 متراً، وألعاب نارية، وافتتاح مغارة بشخوص حقيقية، لتطلّ بعدها المطربة اللبنانية عبير نعمة، وباللغة السريانية والأرمنية والعربية؛ احتفلت مع جمهورها بميلاد السلام والحياة، وعلى مسرح صغير اختطفت مساحة جديدة لها بقلوب السوريين، فهي التي اختارت أن تأتي إليهم ببساطة وودَاعة وحب.

وبعيداً عن تكلّف حفلات الفنادق، والسهرات الخاصة الباذِخة التي فضّلها آخرون، غنّت نعمة من نبض الشارع لبلد أرهقتها حرب تستكمل عامها العاشر، وشدّت تراتيل تشبه أهلها، فمن "ليلة الميلاد" و"روح زورهن ببيتهن"، إلى "بيتي أنا بيتك" و"دقّ بوابن بهاللليلة"، وختمت الأمسية  بأغنيتين لها استجابة لطلبهم.

غنَّت نعمة آمال السوريين بأمسية مُقدّسة، ليزورهم العيد ويلوّن سواد ثيابهم، ليفرح صغارهم، غنَّت للمُتعَبين والمَنسيين، والفقراء، ندهت معهم من حزنهم علَّ المدى يتّسع، وتصل صلواتهم إلى صاحب العيد، غنَت لمَن فقد روحاً في حرب لم ترحم أحداً فرنَمت:

"يللي صاروا عندك ربي بشعر بروحن ع دربي، بحسهن من حولي ملاك، عيَدهن الليلة بسماك"، لتكون ليلة ميلادية كما أرادها منظمّوها، ليلة ينبت فيها الحب، ويُمحى البغض، ويُسقى عطشان جرعة أمل.

عبير نعمة التي أوفت بوعدها لجمهور لم يستطع حضورها في أيلول/ سبتمبر الماضي في دار الأسد للثقافة والفنون في دمشق، بسبب نفاد البطاقات بوقت قصير جداً لم يتجاوز الساعات، كانت أول مطربة عربية تغنّي في مدينة الحسكة منذ بداية الحرب، حيث أحيت قبل يومين أمسية موسيقية في كاتدرائية مار جرجس للسريان الأرثوذكس، أرادها منظمّوها رسالة صمود ممّن تشبَّث بالأرض ولم يغادرها.

وفي المقلب الآخر، لم يكن مشهد ليلة الجمعة وردياً بنظر الجميع، فقد سبقه حملات عبَّر ناشطون فيها عن امتعاضهم للمُبالغة بالزينة والأضواء، في وقت تعيش فيه أحياء أخرى من المدينة ظلاماً لساعاتٍ طويلة، فرضته ساعات التقنين الكهربائي، وانزعاجهم من الأجواء الاحتفالية فيما لا تزال مناطق تئّن تحت نيران الحرب، في مشهد يوحي أن البلاد انقسمت بين حياة وموت. 

وفيما تبدو هذه الحملات منطقية، تبقى الآمال أن تحمل ليلة الميلاد التي ألبست ساحة الخوف ثوباً جديداً، سلاماً لسوريا بشمالها وجنوبها وشرقها وغربها، ورجاء يملأ قلوباً أتعبها الإنتظار، فالحرب لم تستثنِ أحداً، كمقولة أليف شافاق في رواية قواعد العشق الأربعون "لم أفقد أحداً من أحبّائي أو أخسر بيتي، لكنني فقدت شيئاً مهماً، وهو بهجتي".