مدارات الصراع في ليبيا ومخاطره

جميع العائلات السعيدة تتشابه، وكل عائلة تعيسة، تعيسةٌ على طريقتها.. (ليو تولستوي).

  • مدارات الصراع في ليبيا ومخاطره
    في الصراع الليبي لا توجد حدود واضحة ولا خطوط حمر بيّنة

ونحن نستهل العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، تبدو مقولة الروائي الروسي الشهير مُطابقة إلى حدٍ كبيرٍ لوضعية العالم العربي، حيث لازالت دوله تعيش أزماتها المزمِنة: دول الملح النفطية إزدادت تبعيّتها المباشرة للعم سام، والدول القومية أصبحت جيوشاً من دون مشروعيات سياسية واضحة، وفيما تقدّمت دول ككوبا وزيمبابوي في تقرير سلم الدول الهشّة لعام 2019، تدهورت الوضعية في الكثير من بلدان شمال إفريقيا والشرق العربي.

أنتجت أوضاع عدم الإستقرار الداخلي والصراعات الدولية الاقتصادية العسكرية والسياسية وضعاً غير مسبوق من انعدام الأمن والفوضى السياسية. لقد تحوَّل الكثير من بؤَر التوتّر إلى مناطق صراع نفوذ إقليمي ودولي بأحجامٍ وحدودٍ مختلفة. في هذا المقال سنحاول التركيز على المخاطر والتهديدات الخاصة بالنموذج الليبي الذي يبدو مختلفاً في كثيرٍ من ملامحه ونتائجه المحتملة عن جيرانه في اليمن والعراق والسودان.

  • الفاعلون الكبار (الصراع الاستراتيجي)

في مقابل الساحة السورية التي تميّز الصراع فيها على حّدته بوجود أشكالٍ مُتعدّدةٍ من مساحات الحذر الاستراتيجي بين أطراف الصِراع، بوجود تخوّفات الولايات المتحدة الحقيقية من مخاطر الصراع على مشارف الجولان وفلسطين المحتلة، وعلى مرمى البصر من خزّان العالم الغربي النفطي، يبدو الوضع الليبي مُفتقداً للكثير من هذه المحذورات.

تنشأ خطورة الوضع في ليبيا استراتيجياً من خلال عاملين أساسيين:

- في الصراع الليبي لا توجد حدود واضحة ولا خطوط حمر بيّنة، بمقابل الصراع في سوريا والذي ارتبط بتاريخٍ طويلٍ من الصراع الذي تقوده إيران ضد "إسرائيل" والولايات المتحدة، كما أن تموقع روسيا والصين في المنطقة مُنسجم مع طابع التوازن الذي يحتاجه الصراع الاستراتجي لمشروع يواجه شرطي العالم.

-  في ليبيا لا توجد مواقف ثابتة للقوى الكبرى، فالصين بسبب مصالحها المتضاربِة وقَّعت اتفاقيات اقتصادية مهمة مع حكومة السراج التي يعترف بها الغرب، في نفس الوقت الذي تۡتهم فيه ببيع الأسلحة لحفتر ومسانديه.

روسيا أيضاً تبدو أقرب إلى خليفة حفتر الذي تسانده الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية إضافة إلى بعض دول الخليج، لكن في نفس الوقت تبدو حكومة السراج أقرب إلى الشرعية الدولية التي اعترفت بها الأمم المتحدة.

هذا الوضع المتذبذب لأشكال التحالفات وطبيعتها ينذر بأخطارٍ كبرى تهدّد المنطقة، خصوصاً مع التغيرات الإستراتجية التي أصبح يتحوّل نحوها الصراع في ظلّ تردّد القوى الكبرى وتصاعُد الصراع بين الأطراف الإقليمية التي تحاول ملء الفراغ.

الفاعلون الإقليميون ( الصراع التكتيكي)

فيما يبتعد الإيرانيون عن ساحة الصراع الليبية، يرى الأتراك في المنطقة مجالاً جديداً للصراع على النفوذ ضد دُعاة الشرعية العسكرية المدعومة خليجياً. حكومة السراج تنسجم إيديولوجياً واستراتيجياً مع مشروع تركيا الداعمة لوحدة الإسلاميين تحت قيادتها في مواجهة دول الخليج التي أصبحت تسخّر جيوش الدول الهشّة لتحقيق أهداف الرعاة الكبار.

من جهةٍ أخرى  يمهّد الاتفاق مع السراج الباب أمام إردوغان لخوض معركة فكّ أغلال اتفاقية لوزان التي تراها اليوم تركيا جائِرة تجاهها، والذي سيوفّر لجمهورية إردوغان دعامة مهمة في نزاعها البحري مع قبرص واليونان.

على جبهةٍ أخرى من الصراع، تبحث تركيا من وجودها في ليبيا عن الدفاع عن مصالحها الاقتصادية المتضرِّرة من  مشروع أنبوب الغاز إيست ميد بين إيطاليا واليونان وقبرص و"إسرائيل" والذي غابت عنه تركيا، التي تراهِن على أنبوب الغاز مع  الشريك الروسي كمشروعٍ واعدٍ في منطقة البلقان.

  • وسائل الصراع وخططه

تبدو حركة المتغيّر الجزائري منسجمة إلى حدٍ كبيرٍ مع طابع التهديد الذي أصبحت تنبئ به أوضاع ليبيا الحالية، فالوضع العربي الجديد الذي خلّفه الربيع العربي لم يعد يسمح بوجود دبلوماسيات صامتة أو محايدة بسبب طابع التقاطب الشديد الذي تمارسه القوى الإقليمية الصاعِدة الراغبة في ملء الفراغ الذي تتركه القوى الكبرى.

أفضى الصراع المستميت بين الإخوان المسلمين والعسكر في مصر إلى عدم ثقة واضحة في الخطاب السياسي وتمييعه وزيادة نسبة الشعبوية التي كرّسها وعمّقها الإعلام الذي خلّفه الوضع المصري. في ظل هذه الظروف لم تجد المؤسَّسات العسكرية المدعومة خليجياً سوى التيارات السلفية المحايدة سياسياً (المداخلة والجامية) لتدعمها بمقابل الإخوان المسلمين الذين سُرعان ما تحالفوا مع دول اللجوء (تركيا- قطر) وغيّروا بشكلٍ فجائي خطابهم ووسائل التأثير والفعل السياسي.

يفتح هذا الوضع المتأجِّج الصِراع في ليبيا على مدارات مُتعدِّدة:

  • هذا النمط من الصراع قد يشعل فتيل صراع ديني عسكري من نوعٍ جديدٍ بمقابل الصراع الطائفي الذي تأجّج في الشرق. قاد المقاتلون السلفيون المدخليون حملات مناهضة الشرك التي انتهت بانخراطهم الكبير في المؤسّسات الأمنية والعسكرية لجيش حفتر، بمقابل ذلك تحاول تركيا ترميم أضرحة العثمانيين في ليبيا، بل تعتبر المساس بها مساساً بالأمّة التركية.
  • إنتقال ثقل التنافُس الدولي إلى المنطقة بعد الحسم النسبي لخارطة المنتصرين والمنهزمين في سوريا قد يجعل الأطراف أكثر شراسة في الدفاع عن مصالحهم خصوصاً في غياب أيّ دور حقيقي وفعّال للمجتمع الدولي وللأمم المتحدة.
  • الشعور المبالَغ فيه من مخاطر صعود حكومة السراج لدى الجارة المصرية قد يؤدّي إلى انخراط أكبر لنظام السيسي في "اللعبة الليبية" التي أصبحت تتحوّل شيئاً فشيئاً إلى مجال صراع مباشر بين إردوغان والسيسي.
  • تنامي خطر عدم الاستقرار الذي قد تسبّبه الحرب الليبية على الجزائر وتونس والمغرب بسبب الوضع الاستراتجي للحدود الممتدة.