سابقة في عالمنا العربي.. كيف نقرأ موقف حسّان دياب؟

هي سابقة محفوفة بالمخاطر والتحدّيات والتهديدات من قوى داخلية وخارجية ستعمل على إجهاضها وعرقلتها.

  • سابقة في عالمنا العربي.. كيف نقرأ موقف حسّان دياب؟
    رئيس الكومة اللبناني حسان دياب (أ ف ب - أرشيف)

جاءت كلمة رئيس الوزراء اللبناني حسان دياب، التي توجَّه بها مساء السبت 7 آذار/مارس 2020 على خلفية استحقاق "اليوروبوند"، لتعلن بالصَّوت العالي خروج لبنان عن مسار صندوق النقد الدوليّ، والتحرّر من قبضة المؤسَّسات المالية الدولية التي لطالما استغلَّت ضعف الحكومات وابتعادها عن شعبها، لاختراق السيادة الوطنية وتفكيك الدّولة.

لقد كان أمام رئيس الحكومة المكلَّف الذي تسلَّم مهامه يوم الخميس 19 كانون الأول/ديسمبر 2019، بتكليف من الرئيس اللبناني ميشال عون، خياران لا ثالث لهما للخروج من الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية التي غرق فيها لبنان، وخرج الشّعب اللبناني يوم 17 تشرين الثاني/أكتوبر 2019 صارخاً بصوت واحد للاحتجاج على الطبقة السياسية وعلى الفساد الَّذي تحوَّل إلى عقيدةٍ وفلسفة حكم.

الخيار الأوَّل عملت المؤسَّسات المالية الدولية على تكريسه وتقديمه كبديل أوحد لا مفرَّ منه منذ سبعينيات القرن الماضي، وهو يتمثَّل في إقرار إصلاحات هيكليّة تقوم على:

- سياسة التقشّف والضّغط على عجز ميزانية الدولة عبر خفض كتلة الأجور، ورفع الدَّعم عن المواد الأساسيَّة والمحروقات، والترفيع في الضغط الجبائي، وتفويت الدولة مساهماتها في المؤسَّسات العموميّة، وتخلّيها عن دعم المرفق العمومي والخدمات العمومية من صحّة وتعليم ونقل.

- سياسة الانفتاح على الاستثمار الأجنبي على خلفية ضمان الاندماج في السّوق العالميّة على حساب الاستثمار الوطني، وفتح الحدود ورفع القيود الجمركية والتنظيمية أمام التوريد على حساب منظومة الإنتاج الوطني.

هذا الخيار قدَّمته بعثة صندوق النقد الدولي التي حلَّت في لبنان في منتصف شهر شباط/فبراير الماضي، بدعوة من الحكومة اللبنانية، لتقديم المشورة الفنية لكيفية الخروج من الأزمة المالية، وهي الوصفة التقليدية التي تقبَّلتها الحكومات اللبنانية السابقة وحكومات العديد من البلدان النامية، على غرار تونس، مقابل الحصول على قروض لم تنجح في تمويل الاقتصاد وإنقاذه، والذي تحوَّل إلى اقتصاد ريعي في لوبيات داخليّة وخارجيّة على حساب استحقاقات الشّعوب وكرامتها.

وثمة خيار ثانٍ تجنَّبته الحكومات في أغلب البلدان النامية، خوفاً من إعلان إفلاسها عبر عجزها عن تسديد ديونها وتخلّي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي عن الوقوف إلى جانبها على حساب شعوبها.

رئيس الحكومة اللبناني، وباتخاذه قرار إعادة هيكلة الدّين بالعملات الأجنبيّة، والإعلان عن عجز لبنان عن السّداد، على الرغم من الأسلاك التي طوّقت بها هذه المؤسَّسات المالية الدّوليّة مثل هذا الخيار للمزيد من تركيع الشّعوب وإفقارها، يكون قد عبَّد الطّريق نحو استرجاع لبنان سيادة قراره الوطنيّ.

هذه الطّريق كانت ملامحها واضحة لدى رئيس الحكومة عندما توجّه إلى الشَّعب اللبنانيّ في كلمته بالقول: "أراهن اليوم على قدرتكم على خوض معركة استقلال جديدة"، وذلك على خلفية أنّ قبول خطَّة إنقاذ صندوق النقد الدولي هو تفريط في القرار الوطني وخيانة لشعبٍ يرفض الرضوخ ويتوق إلى الحرية وإلى استقلاليَّة قراره الوطني.

لقد كسر رئيس الحكومة اللبناني بذلك صنم التّبعية لرأس المال العالميّ، وفكّك نمط اقتصاد يقوم على الدين الخارجيّ وعلى حماية مصالح لوبيات الخارج وممثّليها في الداخل، في سابقة هي الأولى من نوعها في عالمنا العربي بعد الحرب العالمية الأولى.

هي سابقة محفوفة بالمخاطر والتحدّيات والتهديدات من قوى داخلية وخارجية ستعمل على إجهاضها وعرقلتها، باعتبارها تؤسِّس لمنوال تنمية جديد قائم على احترام كرامة المواطن العربيّ، وتعوّل على قدراته الذاتيَّة، الفكرية والبشرية والمالية، التي عملت سياسات التقشّف والانفتاح على طمسها وسحقها عبر إضعاف الدّولة الوطنيّة وضرب ثقة المواطن بها.