نهب أفريقيا.. فخّ الاتفاقيات المنمّقة لسرقة الشعوب

أكّدت الدراسات أنّ اتفاقية التبادل الحر القارية الأفريقية ستفسح المجال أمام توسّع رقعة انسياب سلع الشركات الأوروبية إلى جانب الشركات العابرة للقارات التي تقف وراء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنظّمة العالمية للتجارة.

  • نهب أفريقيا.. فخّ الاتفاقيات المنمّقة لسرقة الشعوب
    جاءت هذه الاتفاقية القارية الأفريقية برعاية مفوضية الاتحاد الأفريقي

رفض مجلس نواب الشعب التونسي خلال جلسة عامة عقدها ظهر الخميس 5 آذار/مارس 2020، المصادقة على مشروع قانون أساسي يتعلق بالاتفاق المؤسس لمنطقة التجارة الحرّة القارّية الأفريقية، بعد أن فشل المشروع في الحصول على عدد الأصوات المطلوبة.

وقد قوبل هذا الرفض الذي جاء على أساس حسابات سياسوية ضيقة بعيدة عن حقيقة التهديدات للاقتصاد التونسي، بانتقادات شديدة اللهجة من قبل لوبيات نافذة في البلاد، وظفت "ماكينة" الإعلام بشقيه العمومي والخاص للتنديد بهذا الرفض الذي اعتبرته جريمة بحق المؤسسات الاقتصادية التونسية.

وتأتي منطقة التبادل الحر القارية الأفريقية بناء على قرار القمة الـ18 لرؤساء دول الاتحاد الأفريقي وحكوماتها بشأن "تعزيز التجارة البينية الأفريقية"، والمنعقدة في العام 2012، و"الأجندا 2063"، التي تعتبر إطاراً استراتيجياً لما يسمى التحول الاقتصادي والاجتماعي للقارة الأفريقية للسنوات الـ50 القادمة، والتي تم وضعها في العام 2013.

انطلق التفاوض على مستوى البلدان الأفريقية في العام 2016، من أجل إبرام هذه الاتفاقية، وليس من أجل وضع بنودها وأحكامها على أساس خصوصية تحديات القارة الأفريقية التي تزخر بالثروات، وفي الوقت نفسه تعاني أغلب بلدانها الفقر والمجاعة والأمية والبطالة وارتفاع نسبة المديونية الخارجية. 

جاءت هذه الاتفاقية القارية الأفريقية برعاية مفوضية الاتحاد الأفريقي، وتحت إشراف اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة، وبالتعاون الفني مع الاتحاد الأوروبي، والوكالة الألمانية للتعاون الدولي، والوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وإدارة التنمية الدولية التابع للحكومة البريطانية، ودولة السويد.

وقد أشرف مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "الأونكتاد" على تكوين المفاوضين للبلدان الأعضاء في هذا التكتل الاقتصادي الأكبر في العالم منذ إنشاء المنظمة العالمية للتجارة في العام 1994 في مراكش، والذي يضم 1.2 مليار نسمة، بناتج إجمالي يقدر بـ2500 مليار دولار.

وجاء في وثيقة شرح الأسباب التي قدمتها وزارة التجارة للجنة الفلاحة والأمن الغذائي والتجارة والخدمات ذات الصلة بمجلس نواب الشعب، أن منطقة التبادل الحرّ القارية الأفريقية دخلت حيز التنفيذ على المستوى الأفريقي في 30 أيار/مايو 2019. 

وقد تولت حكومة يوسف الشاهد التوقيع على الاتفاق المتعلق بهذه المنطقة في 21 آذار/مارس 2018 في مدينة كيغالي (روندا)، مضيفة أن مصادقة مجلس نواب الشعب على مشروع القانون الأساسي تندرج في إطار استكمال الانضمام وتثبيت بنود الاتفاق.

ما يلفت الانتباه أن هذه المفاوضات انطلقت بعيداً من إشراك المنظمات المهنية والنقابية والمجتمع المدني في البلاد، ليتم عرض القانون الأساسي المتعلق بالاتفاق المؤسس لمنطقة التجارة الحرّة القارّية الأفريقية، في ظرف استثنائي تسلمت فيه حكومة إلياس الفخفاخ مهامها يوم الخميس 27 شباط/فبراير 2020، بعد مخاض عسير وأشهر من الخلافات السياسية. 

ففي وثيقة شرح الأسباب، يهدف هذا المشروع إلى وضع إطار شامل ومتبادل المنفعة للعلاقات التجارية بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأفريقي، ويرمي إلى تعزيز القدرة التنافسية للمؤسسات التونسية، من خلال تخفيف تكاليف المعاملات التجارية، وتعزيز التحوّل الاقتصادي والاجتماعي، لتحقيق النمو الشامل والتصنيع والتنمية المستدامة، تماشياً مع "الأجندا 2063" للاتحاد الأفريقي.

إن تقديم وزارة التجارة لمشروع القانون، ونقصد هنا الإدارة، وليس الوزير الجديد، لم يخرج عن سياق التعويم والاستخفاف بنواب الشعب، إذ جاء بأسلوب إنشائي ضعيف لا يكشف عن وجود مخاطر وتداعيات سلبية محتملة لانضمام تونس إلى هذا التكتل الأفريقي الذي لطالما انتظرناه، ولكن بشروط البلدان الأفريقية الأعضاء في الاتحاد الأفريقي، وعلى أساس دراسات علمية وموضوعية تأخذ بعين الاعتبار درجات النمو في البلدان الأعضاء، وطبيعة التحديات التي تواجهها، والتي يمكن أن تشكل تهديداً لجدوى هذه المنطقة التجارية الحرة، التي يتطلب نجاحها شروطاً اعترفت بها وأقرتها أحكام اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة التي تخضع لها مناطق التجارة الحرة.

ولعل ما يلفت الانتباه في تسويق وزارة التجارة لهذه الاتفاقية الإقليمية عدم التنصيص أو الاستئناس بالدراسات التي أعدت في هذا السياق من قبل الجهات الإقليمية المعنية، وهي عديدة، وخصوصاً تلك التي أنجزتها اللجنة الاقتصادية لأفريقيا، والتي تتناول فيها تحاليل موضوعية تقر فيها بإيجابيات وتهديدات رفع الحواجز الجمركية والتنظيمية أمام انسياب السلع والبضائع على الاقتصاديات الأفريقية، وتقديم هذه الدراسات للسادة النواب لاعتمادها والاستئناس بها لاتخاذ قرار المصادقة أو الرفض أو التأجيل لمزيد النظر والتعمق. 

إن ما يفرض المزيد من التعمق في اتجاه المراجعة وإعادة النظر في بنود اتفاقية منطقة التبادل الحر القارية الأفريقية التي وقعتها حكومة الشاهد، هو وضعية 14 دولة أفريقية تنتمي إلى منطقة الفرنك الأفريقي التي تضم مجموعتين نقديتين، هما الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا (البنين وبوركينا فاسو والكوت ديفوار وغينيا بيساو ومالي والنيجر والسنغال والتوغو)، والمجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط أفريقيا (الكاميرون وجمهورية أفريقيا الوسطى والكونغو والغابون وغينيا الاستوائية والتشاد).

ففي الوقت الذي أعلنت المجموعة الأولى، على لسان رئيس الكوت ديفوار حسن واتارا، بتاريخ 21 كانون الأول/ديسمبر 2019، بحضور الرئيس الفرنسي ماكرون، عن القيام بإصلاح واسع للفرنك الأفريقي الذي أصبح اسمه "الايكو" في كانون الثاني/يناير 2020 على مستويات ثلاثة، تتمثل في تغيير الاسم، والكفّ عن إيداع 50 % من الاحتياطي النقدي لدى الخزينة الفرنسية، وانسحاب فرنسا من المؤسسات الحاكمة التابعة للدول الأعضاء بصفتها عضواً قاراً، لا زالت بلدان المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط أفريقيا خاضعة لشروط منطقة الفرنك الأفريقي الذي أبصر النور يوم 26 كانون الثاني/ديسمبر 1945، وهو اليوم الذي صادقت فيه فرنسا على اتفاقيات بريتون وودز، إذ تم آنذاك إعلان التكافؤ في صندوق النقد الدولي تحت اسم "فرنك المستعمرات الأفريقية الفرنسية".

 ومن بين هذه الشروط التزام هذه البلدان بإيداع 50 % من مداخيل صادراتها لدى الخزينة الفرنسية، وقبول وجود ممثلين عن فرنسا في مجلس إدارة البنكين المركزيين لمنطقة الفرنك الأفريقي.

هذه التبعية بين الفرنك الأفريقي واليورو، في ظل الوصاية الفرنسية، كبحت معدلات النمو للدول الأعضاء في المنطقة، وتسببت في تسجيل هذه البلدان خسائر بعشرات المليارات من اليورو سنوياً توظّفها فرنسا في سد عجز ميزانيتها المزمن.

 كما تقف هذه الوضعية وراء سلب هذه البلدان سيادتها النقدية، باعتبار وجود ممثلين عن فرنسا في البنكين المركزيين، بما يحول دون اتخاذ إجراءات تخدم مصلحة البلدان الأفريقية وتتضارب مع مصالح فرنسا في المنطقة.

لقد كشفت العديد من الدراسات حول تداعيات منطقة التبادل الحر القارية الأفريقية أنَّ نسبة الفقراء بعنوان الدخل الحقيقيّ سترتفع في نصف البلدان الأفريقية الأعضاء، كما سيتعمَّق عجز الميزانيات في العديد البلدان، نظراً إلى إلغاء المعاليم الديوانية التي كانت توظّف على التوريد، وتشكل مصدراً مهماً في موارد ميزانياتها.

وفي السياق نفسه، أكّدت الدراسات أنّ هذه الاتفاقية القارية الأفريقية ستفسح المجال أمام توسّع رقعة انسياب البضائع والسلع وخدمات الشركات الأوروبية، وخصوصاً الفرنسية، التي تستحوذ على تجارة الألماس والمعادن والمنتجات الفلاحية، كالكاكاو وغيره، إلى جانب الشركات العابرة للقارات التي تقف وراء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنظّمة العالمية للتجارة.