كورونا يفضح اتفاقية حقوق الملكية الفكرية المُتّصلة بالتجارة

الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي وقوى عُظمى أخرى حرصت على الرفع من مستوى حماية حقوق المِلكية الفكرية لتهميش البلدان النامية.

  • كورونا يفضح اتفاقية حقوق الملكية الفكرية المُتّصلة بالتجارة
    توفير الأدوية للمرضى بأسعارٍ معقولةٍ في أية دولة يتوقّف على قوانين المِلكية الفكرية

اتهمت الحكومة الألمانية مساء الأحد 17 آذار/ مارس 2020 الرئيس الأميريكي دونالد ترامب بمحاولة السطو على مشروع لقاح ضد فيروس كورونا المُستجد يعمل على تطويره مختبر ألماني. 

وبقطع النظر عن مدى صحّة هذا الخبر الذي نفاه المختبر الألماني، فيما التزم البيت الأبيض الصمت في ظل أخبار تشير إلى أن ترامب أراد الحصول على اللقاح حصرياً لتوزيعه في الولايات المتحدة الأميركية، يرى عديد الأطراف أن هذه المحاولة لم تخرج عن عقلية الهيمنة التي تحرّك جميع رؤساء الولايات المتحدة الأميريكية.

ولئن ترى بعض الأطراف أن هذه المحاولة شرعية بمنطق السوق والعرض والطلب، ولا تتضارب  مع نصّ القَسَم الرئاسي بالدستور الأميركي الذي التزم به الرئيس الأميركي يوم تسلّمه لمهامه، والذي تعهّد بمُقتضاه بصون وحماية والدفاع عن دستور الولايات المتحدة الأميركية، وبالتالي حماية المواطن الأميركي والأمن القومي الأميركي الشامل بما في ذلك الأمن الصحّي، نعتقد أن هذه المحاولة، التي عرَّضت الرئيس الأميركي لانتقاداتٍ شديدةٍ وصلت درجة "الاستهزاء" به، تدخل في باب  التمرّد والالتفاف على اتفاقية جوانب حقوق المِلكية الفكرية المُتّصلة بالتجارة التي دعمت حقوق المِلكية الفكرية، ورفعت من مستوى حماية الصناعات الدوائية إلى أكثر من 20 سنة.

فتوفير الأدوية للمرضى بأسعارٍ معقولةٍ في أية دولة يتوقّف على قوانين المِلكية الفكرية ومستوى الحماية التي تقرّها أحكام اتفاقية جوانب حقوق المِلكية الفكرية المُتّصلة بالتجارة للمنظمة العالمية للتجارة،  والتي تمنح حقوقاً استئثارية لأصحاب الابتكارات والاختراعات في جميع المجالات، بما في ذلك قطاع صناعة الأدوية الذي تسيطر عليه الشركات العالمية  التي تسعى بصفةٍ مستمرةٍ إلى تعزيز حماية ابتكاراتها واختراعاتها عن طريق المطالبة برفع مستويات حماية حقوق المِلكية الفكرية،  الذي يتجسّد في وضعِ قيودٍ إضافيةٍ صارِمةٍ أمام البلدان النامية لإنتاج الأدوية الجنيسة، أو لإنتاج الأدوية الأصلية في إطار الترخيص الإجباري المسموح به حسب شروط اتفاقية "التربس". 

ولئن حظيت حقوق المِلكية الفكرية بصفةٍ عامةٍ باهتمام الدول الصناعية منذ بداية القرن التاسع عشر على المستوى الدولي، ليتم إبرام أول اتفاقية دولية في سنة 1883 وهي اتفاقية باريس لحماية المِلكية الصناعية من خلال حماية براءات الاختراع، فقد أخذ مجال حماية حقوق المِلكية الفكرية منحى خطيراً بعد إقرار اتفاقية حقوق المِلكية الفكرية المُتّصلة بالتجارة للمنظمة العالمية للتجارة في سنة 1994 التي استندت إلى اتفاقية باريس واتفاقيات ومعاهدات دولية أخرى في مجال المِلكية الفكرية، حيث تتمثل هذه الخطورة في وضع قيود إضافية صارِمة تحول دون نفاذ البلدان النامية إلى التكنولوجيا والابتكارات والاختراعات في جميع المجالات، بما في ذلك مجال الأدوية والصحة العامة لتتحوّل أحكام اتفاقية حقوق الملكية الفكرية المُتّصلة بالتجارة إلى  تهديدٍ حقيقي  لشعوب البلدان النامية والفقيرة بسبب رفع مستوى الحماية والتمديد في مدة الحماية من 20 سنة بالنسبة لحماية براءة الاختراع، وفي ما بين 5 و20 سنة إضافية بعنوان حماية المعلومات السرّية مما أغلق كل الأبواب أمام إمكانية توفير البلدان النامية لأدويةٍ بأسعارٍ مقبولة.

ففي تونس مثلاً شهد قطاع صناعة الأدوية تطوّراً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، مكَّن من تغطية 70 بالمائة من حاجيات السوق المحلية. إلا أن هذا القطاع سيحكم عليه بالاندثار في صورة التوقيع على مشروع اتفاقية التبادُل الحر الشامل والمُعمّق "الأليكا" مع الاتحاد الأوروبي التي تخضع إلى أحكام اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة، بما في ذلك اتفاقية حقوق المِلكية الفكرية المُتّصلة بالتجارة والتي تفرض قيوداً إضافية على حماية حقوق المِلكية الفكرية من خلال تطبيق المادة 39 التي وضعت نظاماً لحماية المعلومات السرّية بالنسبة إلى قطاع صناعة الأدوية والصناعات الكيميائية الزراعية من دون غيرها من الصناعات والمجالات التكنولوجية، إلى جانب المادة 27 المتعلّقة ببراءة الاختراع والمادة 33 المتعلّقة بمدة الحماية بعشرين سنة.

ويعتبر نظام "حماية المعلومات السرية" الذي جاء باتفاقية "التربس" من أكثر أصناف حماية الملكية الفكرية خطورة على البلدان النامية على غرار تونس، حيث منع الاتحاد الأوروبي في إطار المفاوضات حول قطاع صناعة الأدوية شركات الأدوية في تونس لفترةٍ تُناهز 20 سنة من استخدام البيانات التي توفّرها الشركات التي تمتلك براءات اختراع الأدوية للحصول على تراخيص، وهو ما يعني تدمير التجربة التونسية في مجال صناعة الأدوية وتهديد الصحّة العامة باعتبار تداعيات ذلك على أسعار الأدوية والأمن الصحي الوطني وارتفاع نفقات الصحة.

ترامب، ومن خلال محاولته السطو على اللقاح، أراد تجاوز القيود التي وضعتها بلاده، ووراءها شركات الأدوية العالمية، في اتفاقية جوانب حقوق المِلكية الفكرية المُتَّصلة بالتجارة "التربس" في إطارالهيمنة على العالم وإحكام قبضتها على قطاع صناعة الأدوية. فالولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي وقوى عُظمى أخرى حرصت على الرفع من مستوى حماية حقوق المِلكية الفكرية لتهميش البلدان النامية وتركيع شعوبها وتفقيرها بما يُعزِّز نفوذها ويفتح أمامها مجالات نَهْب ثرواتها.

واليوم وكأن هذه اللحظة التاريخية بإمضاء فيروس كورونا أرادت أن ترفع الستار عن حقيقة اتفاقية حقوق المِلكية الفكرية المُتّصلة بالتجارة وحقيقة اتفاقيات التبادُل الحر بين الاتحاد الأوروبي وعدد من البلدان النامية على غرار تونس، من خلال محاولة ترامب الهروب من الوقوع في فخّ ما أطلق عليه "حماية حقوق المِلكية الفكرية" بمحاولته الاستيلاء على اللقاح حتى لا تقع بلاده تحت رحمة ألمانيا ومخابرها بخصوص لقاح فيروس كورونا لمدة 40 سنة.

ما يُلفت الانتباه في هذا المستوى صمت المنظمة العالمية للصحة ومنظمة الأمم المتحدة على بشاعة اتفاقية "التربس"، وما وضعته الشركات العالمية في اتفاقية حقوق المِلكية الفكرية المُتّصلة بالتجارة من قيودٍ على مقاسها، أمام نفاذ البلدان النامية إلى التكنولوجيا وقطاع الأدوية تحديداً في ظلّ تدهور الوضع الصحي في هذه البلدان. ويبدو أن هذه المنظمات ستتحرّك في الأيام القادمة تحت مظلّة مواجهة هذا الوباء في اتجاه رفع القيود والبحث عن استثناءات تفتح المجال أمام الشركات الأميركية للحصول على حق التصنيع والتسويق.

وفي الوقت الذي حاول فيه ترامب السطو على اللقاح على خلفيّة خدمة مصالح بلاده، تهرول الحكومة التونسية للتوقيع على مشروع اتفاقية التبادُل الحر الشامل والمُعمَّق رغم رفض القوى الوطنية لما تمثله من تهديدٍ للسيادة الوطنية وتدمير لقطاع صناعة الأدوية، والحال أنها اقسمت عند تسلّمها لمهامها على الإخلاص والولاء للوطن. 

أعلنت منظمة الصحة العالمية في 31 كانون الأول/ديسمبر 2019 تسجيل إصابات بمرض الالتهاب الرئوي (كورونا) في مدينة ووهان الصينية، ولاحقاً بدأ الفيروس باجتياح البلاد مع تسجيل حالات عدة في دول أخرى حول العالم.