ساحل فرنسا هو فيتنام أميركا

منطقة الساحل قد تكون السّاحة الأمامية لمشهد الخروج الفرنسي من القارة الأفريقية خطوةً خطوةً.

  • قوات فرنسية في مالي (صورة أرشيفية).
    قوات فرنسية في مالي (صورة أرشيفية).

بعد ما يزيد على 7 سنوات من التواجد العسكري في منطقة الساحل الأفريقي، إذ تتناسل الجماعات الجهادية المسلّحة، وتزداد راديكالية بفعل التدخل الخارجي، تجد فرنسا نفسها غارقة حتى الذقن في الوحل، من دون أن تكون قادرة على تنفيذ وعدها بقطع دابر الجماعات المسلحة، وهو الوعد الذي قطعته للبلدان الأفريقية في العام 2013، حين قررت إنشاء قوة عسكرية محلية تحت اسم "سيرفال"، تحوّلت إلى اسم "بارخان" في العام التالي، بمشاركة البلدان الخمسة في المنطقة الأكثر تعرضاً لهجوم الجماعات الجهادية، وهي تشاد والنيجر وبوركينا فاسو ومالي وموريتانيا.

ولكنَّ فرنسا منيت بإخفاق ذريع في مخططها الرامي إلى الحد من نفوذ الجماعات المسلحة في مالي ومنطقة الساحل بوجه عام، إذ خسرت ما يزيد على 50 جندياً من جنودها العاملين في عملية بارخان، علاوةً على العتاد والأسلحة، ما جعل منطقة الساحل النقطة الأشد سواداً في جميع نقاط التواجد العسكري الفرنسي في العالم.

وقد أدّى ذلك إلى تراجع نسبة مؤيّدي التدخّل العسكري في الساحل وسط الرأي العام الفرنسي، إذ تراجعت النسبة من 73% في العام 2013 إلى 49% قبل أسابيع، وبات إيمانويل ماكرون - الذي كان يمنّي الفرنسيين بتمدّد اقتصادي وأمني أكبر في القارة الأفريقية - يواجه مصير الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون في حرب فيتنام في النصف الثاني من القرن الماضي. وفي مواجهة الهزائم التي نزلت بالجنود الأميركيين، أرسل نيكسون المزيد من الجنود إلى فيتنام لتعزيز الوجود العسكري الفرنسي والأميركي، ما عجّل في الهزيمة، وهو الأمر نفسه الذي قام به ماكرون، الذي تعهَّد بتعزيز قوات بلاده في الساحل، من خلال رفع عدد الجنود من 5300 إلى 5900.

ولكنَّ حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر، إذ يبدو أنَّ فرنسا تنظر في الجانب العسكري اللوجستي، ولا تهتمّ بالجانب المتعلق بالمزاج الثقافي للأفارقة الذين يزدادون نفوراً من التدخل الأجنبي، وخصوصاً الفرنسي، الَّذي يذكّرهم بماضٍ عريق من تجارة العبيد والاستعمار لم يولّ تماماً، بل يرون أنه يرجع راكضاً.

وبعد 8 سنوات على تدخّلها في مالي لطرد المسلّحين الذين كانوا يتقدمون نحو العاصمة باماكو، في أخطر هجوم تنفذه الجماعات الجهادية في الساحل الأفريقي، تحاول فرنسا أن تراجع استراتيجيتها العسكرية والإعلامية بقصد ضمان الرأي العام في البلدان الخمسة إلى جانبها، في مهمة تبدو مستحيلة، ولعلَّها في ذلك تحاول تقليد الولايات المتحدة الأميركية التي عملت قبل بضع سنوات على وضع استراتيجية تهدف إلى "تحسين صورتها" في بؤر التوتر التي تتواجد فيها، كالعراق وأفغانستان، ضمن خطة أطلقت عليها اسم "معركة كسب العقول"، إلا أنَّ الحظ السيئ يلاحق حكومة ماكرون الذي يحاول تقليد الخاسر بعد أن يخسر، لا قبل ذلك.

وفي كانون الثاني/يناير الماضي، لقي نحو مائة شخص حتفهم، بينهم أطفال ونساء، عندما كانوا في حفل زفاف في بلدة وسط مالي، في قصف نفذته قوات بارخان، ما أدى إلى خروج الآلاف من المواطنين احتجاجاً على الوجود العسكري الفرنسي، متهمين باريس بتنفيذ إبادة جماعية في البلاد. وقد اعتذرت باريس متعلّلة بأن قواتها استهدفت جماعة من الإرهابيين، لا مدنيين، لكن ذلك لم يقنع الماليين الذين أصبحوا ينظرون إلى فرنسا نظرة أجدادهم الأولين.

ولم يعد سراً أنَّ فرنسا تدرك اليوم أنّها فقدت زمام المبادرة في بلدان الساحل، وأنَّ ذلك حصل بشكل عملي عقب العملية الانقلابية ضد حكم إبراهيم أبو بكر كيتا في شهر آب/أغسطس الماضي، ذلك أنَّ باريس فوجئت بالانقلاب، ولم تكن تتحسَّب له، بخلاف ما كان يحصل في الماضي في تاريخ الانقلابات الأفريقية.

وكان واضحاً أن الانقلاب كان يحمل، من جملة الرسائل التي حملها، نوعاً من التبرم من الوجود الفرنسي، لكون الرئيس الّذي أطيح به كان محسوباً كلياً على باريس، بل تم انتخابه بشكل متزامن مع إنشاء قوة "سيرفال" في مالي في العام 2013. وأكثر من ذلك، إنَّ برنامجه الانتخابي كان يدور حول محور واحد: اجتثاث العنف واسترجاع الأمن، ولم يتحقق أي منهما.

 هذه الوقائع التي يشدّ بعضها بأعناق بعض دفعت باريس إلى إحداث نوع من الانحرافات الخجولة عن استراتيجيتها الأولى، فبدلاً من التوغل كان التراجع، وبدلاً من قرار رفع عدد جنود قوة "بارخان" كان الحد منه، إذ بات الرأي العام الفرنسي أكثر ميلاً إلى الانسحاب الفرنسي من الساحل الأفريقي، ما دفع ماكرون إلى أن يفتح الباب أمام تقليص التواجد العسكري الفرنسي في المنطقة بشكل تدريجي خلال قمة "بريست" في الأسبوع الثالث من شهر كانون الثاني/يناير الماضي، معولاً على إلقاء مسؤولية مواجهة الجماعات المسلحة على كاهل البلدان الخمسة التي تجتمع في "مجموعة الخمسة".

مهما كان الأمر، ومهما سيحصل في المراحل المقبلة، فإنَّ الأمر المؤكّد هو أنَّ منطقة الساحل قد تكون السّاحة الأمامية لمشهد الخروج الفرنسي من القارة الأفريقية خطوةً خطوةً، إذ يذهب الكثير من المراقبين في فرنسا وبلدان غرب أفريقيا إلى القول إنَّ باريس لم تعد بذلك النفوذ الكلاسيكي في القارة السّمراء أمام انبثاق وعي جماعي بنزعة الأَفْرَقَة من جانب، وتقدم قوى دولية أخرى لأخذ موطئ قدم لها في القارة من جانب آخر.