بين خطاب الكراهية وحرية التعبير: وسائل التواصل الاجتماعي تجني المليارات؟

في الوقت الذي تروّج فيه مواقع التواصل لنفسها كمنابر للديمقراطية وحرية التعبير، غير أنها لا تتوانى كذلك عن الترويج والبيع لبرمجيات تساعد على اختراق الخصوصية وسرقة معلومات المستخدمين. فبدلاً من إمعان الدول العربية في سياستها المفضّلة القائمة على قمع حرية التعبير وحجب المواقع المعارضة أو المتطرّفة، و ما أكثرها، أو التجسّس على روّادها، قد يكون أقل كلفة وأكثر فعالية القيام بمبادرات جدية لتثقيف العامة، خصوصاً الشباب، وتحصينهم ضد مخاطر تكنولوجيا يكاد يكون من المستحيل الاستغناء عنها.

تحوّلت شركات التواصل الاجتماعي إلى محطّات إجبارية لصناعة الرأي العام

تمتلك شركات التكنولوجيا عموماً ومواقع التواصل الاجتماعي خصوصاً القدرة على الاستفادة من تعليقات وآراء وتوجّهات مستخدميها لجني أرباح خيالية. فابتداء من الضغط على زر الإعجاب بموضوعٍ ما مروراً بالخوض في تداعيات الأزمتين السورية أو اليمنية وانتهاء بالنقاشات المشحونة عاطفياً والمتعلقة بالخلافات الفقهية وسواء كان روّاد مواقع التواصل من مؤيّدي الحكومة السورية أو المعارضة، مع السعودية، إيران أو قطر فكل ما يكتبه هؤلاء أو ما يقومون به على مواقع التواصل الاجتماعي يمكن أن يُستفاد منه بشكلٍ كبير لجني المكاسب المادية.

فمع ارتفاع شعبية مواقع التواصل إلى مستويات قياسية في الشرق الأوسط بوصفها المكان الأكثر شعبية والملاذ شبه الآمن للتعبير عن الرأي، من الضروري التأكيد على أن هذه المؤسّسات هي شركات ربحية تُعنى بالدراجة الأولى بزيادة عدد روّادها وبالتالي أرباحها. و من هنا، لا تُعنى هذه الشركات بنشر الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، إلا بقدر ما يُحقّق الترويج لهكذا قِيَم سامية من أرباحٍ مادية. من هنا، يتوجّب النظر بعين الحذر والقلق لحجم التجاهل الكبير الذي تُبديه هكذا مواقع تجاه الانتشار المقلق لخطاب الكراهية الإقصائي والتحريض الديني والعِرقي الذي تغصّ به مواقع التواصل الاجتماعي الناطقة بالعربية تحت ذريعة تشجيع حرية الرأي والتعبير.

باختصار، تحوّلت شركات التواصل الاجتماعي "الأميركية" كفيس بوك وتويتر ويوتيوب، إلى محطّات إجبارية لصناعة الرأي العام والتأثير به في العالمين العربي والغربي، حيث استُخدِمت أهداف إنسانية وقِيَم الديمقراطية كأدواتٍ للدفع باتجاه أجندات سياسية وتحقيق أهدافٍ تجارية بآن معاً، ولكن كيف؟ خلافاً للرأي السائد بأن الولايات المتحدة الأميركية تشجّع سياسات الانفتاح الإقتصادي والتجاري على العالم، غير أنها كثيراً ما تلجأ إلى تطبيق سياسات إقصائية لحماية تفوّق الشركات الأميركية وأن يكون بشكلٍ غير مباشر. حيث تحوّلت المادة 301 من قانون التجارة الأميركي العام 1974 المعدّل عام 2018، و التي تجيز للرئيس الأميركي اتخاذ ما يراه مناسباً من إجراءات ضد الشركات أو الدول التي تتبع سياسات اقتصادية تضرُ بالاقتصاد الأميركي، إلى أداة ابتزاز بيد الشركات الأميركية ضد خصومها في كندا، الصين والهند وغيرها من الدول. وإذا كان تأثير الشركات الأميركية التجارية على توجّهات الحكومة الأميركية أمراً معروفاً وموثّقاً، غير أن سيطرة هذه الشركات على آليات صنع القرار بلغت مستوى غير مسبوق. ويمكن فهم مبرّرات هذا التأثير إذا علمنا أن الشركات الأميركية العاملة في مجال التكنولوجيا تساهم بأكثر من 11 مليون فرصة عمل فى السوق المحلي وفقاً لتصريحات ممثل مكتب التجارة الأميركي الصادرة مؤخراً.

أما العامل الثاني الذي ساهم في تطوّر ونمو هذه الشركات فهو الحماية القانونية شبه المطلقة التي توليها التشريعات الأميركية، خصوصاً قانون الاتصالات 230 لعام 1996 (Communication Decency Act)، للشركات المحلية. حيث يمنح هذا القانون شركات التواصل الاجتماعي حصانة قانونية شبه تامة حيث لا تُعتبر هذا الشركات مسؤولة، إلا في ظروف مُقيّدة جداً، عما ينشره روّادها على الشبكة العنكبوتية، حتى وإن كانت هكذا منشورات تحرِّض على الكراهية والعنف. شجّع هذا المناخ غير المسبوق من الحرية واحترام الخصوصية ملايين الأشخاص عبر الإنترنت على زيارة هذه المواقع والتعبير عن آرائهم بحرية عبر منصّاتها. فعلى سبيل المثال، يزور فيس بوك أكثر من 1.3 مليار زائر يومياً. أما تطبيق تيلغرام الداعم للخصوصية والذي طُوّر من قِبَل الأخوين نيكولاي وبافيل دوروف عام 2013 فقد بلغ عدد مُستخدميه في 2018 أكثر من 200 مليون شهرياً.

وفي الوقت الذي ساهمت فيه مواقع التواصل بالفعل في توسيع نطاق الحريات المتاحة للمستخدمين، خصوصاً في الدول العربية، إلا أنها خلقت تحديات كبيرة أيضاً حيث تغصّ شبكات التواصل الناطقة بالعربية بالآف الصفحات المزوّرة والحسابات التي تروّج لمختلف الأفكار العنيفة والمتطرّفة. وكالعادة، كانت ردود الأفعال في الدول العربية تتراوح بين إصدار تشريعات صادِمة وتعسفية للحد من هامش الحريات الذي أتاحته هذه المواقع عن طريق وضع غرامات مالية قاسية وأحكام تصل للسجن بحق المخالفين، كما هي الحال في السعودية ومصر. أما التوجّه الثاني فيتلخّص بشراء برمجيات تجسّس وحجب معلومات ومواقع ذي طبيعة سياسية حيث باعت شركة BAE برامج تجسّس لعددٍ كبيرٍ من الدول العربية من بينها قطر والإمارات وسلطنة عُمان والسعودية. حيث تتيح هذه البرامج ليس فقط التجسّس على نشاطات أفراد معيّنين على الإنترنت بل تتيح التجسّس على نشاطات شعوب دول بأكملها. 

بكلمةٍ أخيرة، في الوقت الذي تروّج فيه مواقع التواصل لنفسها كمنابر للديمقراطية وحرية التعبير، غير أنها لا تتوانى كذلك عن الترويج والبيع لبرمجيات تساعد على اختراق الخصوصية وسرقة معلومات المستخدمين. فبدلاً من إمعان الدول العربية في سياستها المفضّلة القائمة على قمع حرية التعبير وحجب المواقع المعارضة أو المتطرّفة، و ما أكثرها، أو التجسّس على روّادها، قد يكون أقل كلفة وأكثر فعالية القيام بمبادرات جدية لتثقيف العامة، خصوصاً الشباب، وتحصينهم ضد مخاطر تكنولوجيا يكاد يكون من المستحيل الاستغناء عنها.