الأردن: برلمان استباقيّ للتحالف الإخوانيّ الليبرالي

المساحة المتبقية للمناورة أمام الأردن الرسمي هي مساحة ضيقة، بالنظر إلى الشوط الكبير الذي قطعته مسيرة تفكيك الدولة وضرب قواعدها الاجتماعية.

  • الأردن: برلمان استباقيّ للتحالف الإخوانيّ الليبرالي
    الدولة العميقة والبيروقراط في الأردن تحصن نفسها عبر مجلس نواب من لونها.

لعلّ الخوف المسبق من نجاح جو بايدن دفع بقايا الدولة العميقة والبيروقراط في الأردن إلى تحصين نفسها عبر مجلس نواب من لونها، خالٍ من أي دسم إخواني وإسلامي، بالنظر إلى الخيارات الإسلامية، كبديل للحرس البيروقراطي في أجندة الحزب الديموقراطي الأميركيّ.

وكانت إدارة أوباما والمخابرات المركزية قد كلّفت وزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلينتون، بهذا الملفّ الإسلامي، بما في ذلك الطلب من قيادة الجيش المصري آنذاك تسهيل وصول محمد مرسي إلى السلطة بدلاً من شفيق (لعبة الصناديق الأخيرة، كما بات معروفاً)، بل إنّ كلينتون اتهمت بالتواطؤ مع الإسلاميين في ليبيا بعد مقتل السفير الأميركي فيها، في ظل تغييب أي تقرير حول العلاقة مع الفريق الإسلامي (الأميركي) الذي يحكم طرابلس الآن بدعم أميركي - تركي مشترك.

أما في ما يخصّ الأردن، فثمة قلق لدى بقايا البيروقراط من نجاح بايدن وضغوطه المتوقّعة لصالح الإسلاميين الذين يتقاطعون مع اعتبارات ديموغرافية في المخيمات وغيرها، وأخرى سياسية ناجمة عن البراغماتية المفرطة لدى الإسلاميين، الذين قدّم أقرانهم في فلسطين اقتراحات مبكرة لتجاوز مشكلة الاعتراف المباشر بـ"إسرائيل"، وذلك عبر صيغة مثل صلح الرملة الذي وقعه صلاح الدين مع الحملات الصليبية، وتنازل فيه عن كامل ساحل سوريا الطبيعية، وهو ما يساعدنا على الاستنتاج بأن التيار الإقليمي والدولي الآخر في الجوار وواشنطن ربما حذر الأردن الرسمي مبكراً ونصحه بترتيب داخلي ما، وهو ما يعني في الحالة الأردنية إعادة الاعتبار إلى القوى التقليدية التي تمّ تكسيرها عبر عقدين، عن طريق خصخصة الدولة وإعادة هيكلتها، ومن هذه القوى ما تبقى من بيروقراط وتشكيلات "قبلية"، وخصوصاً في مناطق مثل البلقاء والبادية ومعان.

وقد لا يكون بعيداً من ذلك تشكيلة مجلس الأعيان، والحكومة نفسها، والمناخات العامة للانتخابات البرلمانية الأخيرة التي لم يكن الإصرار عليها في ظل كورونا إصراراً بعيداً من هذه الحسبة (مجلس محسوب بدقة لعدة سنوات) طيلة عهد وضغوط الحزب الديموقراطي الأميركي وشريك نتنياهو الذي يستعدّ لاستلام الحكومة.

 وفي كلّ الأحوال، فإنّ المساحة المتبقية للمناورة أمام الأردن الرسمي هي مساحة ضيقة، بالنظر إلى الشوط الكبير الذي قطعته مسيرة تفكيك الدولة وضرب قواعدها الاجتماعية، وبالنظر إلى أن مجمل التيارات النافذة، داخلياً وإقليمياً ودولياً، تتحرك ضمن المسار نفسه لأسلو ووادي عربة وما تؤدي إليه عملياً (المركز الإسرائيلي والمحيط العربي التابع)، والذي راح يتوسع بحسب "صفقة القرن" إلى الخليج ونفطه وأسواقه، وهو ما يعني أن المتنافسين جميعاً يهرولون في المضمار نفسه، ويتنافسون على القليل القليل مما تبقى لهم من قطعة جبن سرقت منهم وتحولت إلى سباق للمسافات القصيرة بينهم، أي أن الأمر أسوأ بكثير من "سباق المسافات الطويلة" في رواية عبد الرحمن منيف التي قاربت الخراب على مساحة زمنية ومكانية أوسع من تداعيات الفساد والنفط مقارنة بالاستشراق الجديد الذي لا يرى الشرق جديراً بأكثر من مشاركات مزيفة.

إلى ذلك، وقبل قراءة نتائج الانتخابات نفسها، وبالتمعّن في الخارطة الانتخابية للبرلمان الأردني القادم، نلحظ ما يلي، مع الاستدراك بأنّ استخدام مفردات الأحزاب، البرلمان، البيروقراط، اليسار، اليمين، الليبراليين، القوميين، المحافظين، والإسلاميين، هو استخدام مجازي لغايات الكتابة، فهي مفردات وتعابير تنقصها الدقة العلمية في البلدان الّتي لم تنجز ثورتها القومية الديموقراطية (الانتقال من الإقطاع إلى الحداثة، ومن المجاميع الطائفية والعشائرية والجهوية قبل الرأسمالية إلى المجتمعات المدنية)، سواء عبر الثورة الصناعية أو عبر الاشتراكية في بلدان أخرى:

1- إضافةً إلى أكثرية ساحقة من قائمات بلا تجربة وبرامج، ولا تهتم بالتمييز بين الخدمات البلدية والدور التشريعي والرقابي، وغالباً ما تكون مؤيدة أو مقبولة من السلطة (200 قائمة تقريباً)، كانت المنافسة على بقية المقاعد محصورة بين القوى التقليدية من الإخوان وبقايا البيروقراط، وضمن محاصصات ديموغرافية وجغرافية معروفة.

وإذا كانت قائمات الإخوان ومن يحملونهم معهم واضحة للعيان (13 قائمة)، بحوالى 80 مرشحاً بعد سحب مرشحي الكوتات المسيحية والشركسية، بطلب جهات نافذة، فقد كانت قائمات ما تبقى من أجنحة بيروقراطية في الدولة ضمن قائمات موازية من حيث العدد والحجم:

- قائمات باسم النشامى والعهد، والتي يذكّر اسمها بتكتل بيروقراطي ظهر قبل 20 عاماً تقريباً، وجرى الالتفاف عليه ودفعه إلى التآكل التدريجي.

وقد توزعت القائمات المذكورة على كوتا البادية في الشمال والوسط والجنوب، وعلى إربد (3 قائمات) والبلقاء والطفيلة والزرقاء والعقبة، إضافة إلى مشاركات في قائمات أخرى.

- قائمات باسم الكرامة في الكرك والبلقاء ومعان والمفرق. وقد تكون ذات صلة بحظوظ الرئيس القادم للبرلمان.

- إلى جانب القائمات السابقة، هناك الوسط الإسلامي ضمن أكثر من قائمة، وهناك القوى المصنّفة ضمن لجنة تنسيق القوى اليسارية والقومية التي قررت "تجربة حظها"، على الرغم من موقفها التنافسي المتواضع المشتت بين ما تسميه "الاستحقاق" الديموقراطي واعتبارات أخرى أدّت موضوعياً إلى التغطية على هذا العرس الديموقراطي.

واللافت هنا أنَّها لم تنجح في تشكيل قائمات موحّدة في كلّ المناطق، بل إنّ "القوى اليسارية نفسها" توزّعت على أكثر من قائمة (موطني، التقدمية، التضامن، وطن)، وعبر حوالى 8 لوائح و50 مرشحاً، ومثلها أوساط قومية قدمت مرشحين في مخيم إربد ومدينة الزرقاء.

أما الأوساط الليبرالية التي تدعو إلى الربط بين الحريات السياسية وسيادة القطاع الخاص الطفيلي التابع (برنامج البنك وصندوق النقد الدوليين)، فهي محدودة، وأبرز من يمثلها قائمة "معاً" في عمان.

2- من الملاحظات الأخرى:

- مرشّحون من خارج الكوتا (بدو، مسيحيون، شركس)، ولكن بمكونات شبيهة، مثل الدروز والأرمن (فنانة معروفة).

- مرشحون محسوبون على دحلان في أكثر من قائمة.

- قائمات نسائية بالكامل، بصرف النظر عن الفرص الحقيقية لها، وهي قائمات النشميات في حوران (إربد) والبلقاء والكرك، وقائمة في عمان (النهضة) وفي الزرقاء.

- قائمات محلية جداً، أبرزها قائمة "أبناء الغور"، ما يذكر بمحاولة تأسيس حزب سابق رفض في حينه بذريعة العنصرية.

- قائمة خاصّة بعمال البلدية في عمان (عمال وطن).

- إضافة إلى استخدام اسم القدس والأقصى في أكثر من قائمة، تكرر اسم النشامى والنشميات في أكثر من قائمة، وهو عنوان مشتق أيضاً من "القلق الديموغرافي والبيروقراطي الذي يرافق إعادة هيكلة الدولة".

ومن اللافت للانتباه، أسماء قائمات مثل "الأسد المتأهب"، وهو شبيه باسم المناورات العسكرية المشتركة السنوية مع قوات أميركية، فماذا كانت النتيجة؟

في إطار استدراج الأحزاب السياسية كافة للتغطية على التكتيك الذكي لبقايا الدولة العميقة والبيروقراط، والذي نجح في إضافة مجلس النواب إلى مجلس الأعيان والحكومة، كصمّام أمان له أمام أية محاولات أميركية في زمن بايدن، لإجبار السلطة على مشاركة الإسلاميين والليبراليين، كانت النتائج كما يلي:

1- فشل ذريع للحركة الحزبية أو بقاياها بكل تياراتها، الإسلامية الإخوانية والليبرالية والملونة والوطنية، فلم تنجح أية قائمة إخوانية، ونجح أفراد قلائل من بعض هذه القائمات لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين.

2- ما هو مفاجئ كان نجاح 4 مرشحين محسوبين على إسلام مقرب من الدولة، هو الوسط الإسلامي، ترشحوا ضمن قائمات متعددة في إربد والزرقاء والبلقاء.

3- فشل ذريع لليبراليين والملونين جميعاً، وخصوصاً قائمة "معاً"، وبعض المحسوبين عليها في دوائر أخرى.

4- أما القوى الوطنية (لجنة تنسيق القوى اليسارية والقومية) بكل قائماتها ومرشحيها، فلم ينجح منها أحد، وهو الأمر الذي لم يحدث من قبل منذ تأسيس المملكة.

5- فشل كل النساء المرشحات خارج الكوتا، الأمر الذي ينسجم مع موجة اليمين التي تنتشر في المنطقة عموماً.

أخيراً، إن المهتمّين بثلاثاء الانتخابات ويسارهم الاجتماعي وتطلّعهم إلى الدولة المدنية والمواطنة والعقد الاجتماعي، بوسعهم العودة إلى ما كتبه المفكّر المغاربي عبد الله العروي حول الفوات الحضاري التاريخي للعرب، الناجم عن عدم إنجازهم الثورة الصناعية البرجوازية وتعبيرها السياسي الثورة القومية الديموقراطية، فلا تطور مدنياً خارج التحرر القومي، لأن المواطنة والحرية والدولة المدنية ليست مفردات حقوقية يمكن استيرادها عبر وكلاء البنك الدولي أو نشطاء الثورات الملونة، بل تعبيرات وتمثلات لشرط موضوعي هو شرط الثورة القومية الديموقراطية المؤهلة وحدها لإقامة علاقات إنتاج متطورة، قادرة على إنتاج علاقات اجتماعية جديدة تحول البشر من أفراد في طوائف وعشائر إلى مواطنين في طبقات، وهو ما يستدعي في حالة الدول القطرية العربية الآفلة المتفسّخة، بسبب التبعية والتجزئة والفساد والسمسرة على هوية الأمة ومصالحها، العمل من أجل جمعيات تأسيسية في إطار مفهوم قومي لدولة الحق والحق العام وللحرية كوعي للضرورة التاريخية القومية التقدمية، وليس تغذية الأوهام حول تطوير كيانات منتهية الصلاحية، مثل كيانات "سايكس بيكو" وبرلماناتها الشكلية المصممة لتشريع أخطر الأجندة الخارجية، وبغطاء متنوع، من اليمين إلى اليسار الاجتماعي وجماعات البنك الدولي والثورات الملونة.

بعد 4 سنوات من ولاية الرئيس دونالد ترامب يخوض الأخير انتخابات جديدة للفوز بولاية ثانية، فيما يخوض الديمقراطيون معركة العودة إلى الرئاسة مستفيدين من أخطاء ترامب والمشاكل التي أغرق فيها أميركا.