الهولوكست العربي وصناعة سرديات "اللاجئ اليهودي التونسي"

لايبدو أنّ حكومة يوسف الشاهد قادرة على استقراء مجرّد المؤشرات المتصلة بصفقة القرن أو هي جاهزة على تجنيب تونس ويلات الانخراط في منظومة التطبيع الناعم أو المباشر. ولا يبدو أيضا أنّ في الحكومة اليوم, من وزراء ومستشارين ومتابعين من باستطاعته أن يكشف للفاعل الرسمي التونسي خطورة ما يُحاك ضدّ تونس باسم "التطبيع السياحيّ" و"الزيارات المتتالية" لنفر من الإسرائيليين من ذوي الاصول التونسية باسم حجّ الغريبة في جزيرة جربة.

حتّى يكون الحديث في العمق والمقالة في الصميم, تجدر الإشارة والتاكيد بأنّ السياحة الدينية والثقافية والفكرية والحضارية مكسب لتونس لابد من تطويره واستحثاث سبل تحسينه, ولكن دون أن تستحيل حصان طروادة للتقرب من إسرائيل أو من فتح أبواب خلفية للتطبيع السريّ مع تل أبيب من خلال اختلاق ملفات مشتركة بين تونس والكيان الصهيونيّ.
التقرير الإعلامي الذي بثته القناة الثانية عشر الإسرائيلية حول موسم حجّ اليهودي إلى جزيرة جربة, وما اتصل بالزيارة من جولات ميدانية قامت بها الوفود الإسرائيلية تحت حراسة الأمن التونسي إلى تونس العاصمة وزيارة بيت "خليل الوزير" أبو جهاد, إضافة إلى الإطلالات على البيوت القديمة لليهود مؤشر جدّ خطير لابدّ من النظر إليه بالعمق اللازم.
القضية, لم ولن تكون, مسألة حنين إلى "الحارة القديمة", وإلى الفضاء المعيش الذي احتضن التنوع الثقافي والدينيّ التونسي منذ سنوات قديمة وعهود تليدة, والمسألة في جوهرها ايضا ليست إعادة إحياء العلاقات الوشائجية بين الإنسان والمكان والزمان, فالذي يقبل أن يقطن في كيان استئصالي عنصري استيطاني قام على احتلال المكان واجتثاث الإنسان الأصيل, لا يُمكن أن يفهم كينونة "علاقة الذات بالأرض" فالقضية في صميمها اختلاق سردية وهمية متصلة باللجوء اليهودي من الوطن العربيّ,
صحيح, انّه كان على الدولة التونسية أن تفرض سيادتها الوطنية والتاريخية والامنية, بشكل يحظر تماما أيّ دخول إلى أراضيها بجواز السفر الإسرائيليّ, فالكيان الذي استهدف المصالح التونسية وأغار على أرضها مرتين على الأقلّ, وقتل خيرة أبنائها, يُعدّ في العرف الديبلوماسيّ والتعارف التاريخي والعرفانية الإدراكية "عدوّ" ورعاياه ذوات غير مرحب بهم على أرض تونس.
ولكنّ الصحيح أيضا, انّ الحكومات المتعاقبة على سدّة السلطة التونسية, كانت اقل من أن تجابه الموضوع الإسرائيلي والمسألة التطبيعية بالحزم المطلوب, فأغضمت اعينا على التطبيع السياحي من تل أبيب إلى جربة, ومن تونس إلى القدس المحتلة, وتلعثمت كلما وضعتها القوى الوطنية العروبية واليسارية والتقدمية, امام استحقاق دستورة أو تقنين رفض التطبيع مع الكيان الصهيونيّ.
والحقيقة السياسية والفكرية والتاريخية, انّ الغالبية النيابية- ولا نستثني أحدا من النهضة والنداء بكافة شقوقه- تعاملت مع القضية الفلسطينية ومسألة التطبيع كعنوان وقميص عثمان يُرفع فقط من أجل استثارة المشاعر الوطنية والإسلامية وقصد ذر الرماد على العيون دون تأصيل لثقافة المُقاومة ومقاومة ثقافة التطبيع مع الأسرلة.
اليوم, القضية لم تعد مسألة تطبيع سياحي أو ملفّ حسّاس يثير غضب واشنطن, بل إنّ الأمر صار صناعة إسرائيلية لليهودي العربي اللاجئ من ارضه والهارب إلى فضاء اللجوء ممثلا في إسرائيل.
على مدى أكثر من عقد, وإسرائيل تشتغل على اجتراح واختلاق "سردية" اللاجئ اليهودي من أرض العرب عقب حرب نكسة 1967, وتصوير الاحداث المعزولة التي حصلت ضد بعض اليهود, على انها حرب إبادة ضدّهم دفعتهم إلى هجرة أرضهم وبلادهم الأصلية, وبالتالي استدرار صورة "هولوكست عربيّ ضدّ اليهود".
مُعاينة بيوت اليهود في تونس والمغرب ومصر والعراق, ينصب في عمق ماكينة إعلامية وسياسية وعسكرية واستراتيجية إسرائيلية تعمل على تحويل الإسرائيلي ذوي الاصول العربية من "مستوطن" لأرض فلسطين إلى "لاجئ فيها", ومن مهاجر لها بفعل إرادته الحرة إلى "مهجّر" إليها.
هكذا تتقاطع الزيارات المشبوهة التي تقوم بها وكالات اسفار إسرائيلية إلى تونس, مع سعي إسرائيل طلب التعويض من 7 دول عربية إضافة إلى إيران بدفع تعويضات تقدر ب250 مليار دولار عن الممتلكات التي تركها تلكم اليهود في أراضيهم قبل سفرهم إلى "إسرائيل".
حيث يؤكد الكابينت الإسرائيليّ أنّ نصيب تونس من هذه التعويضات لا يقل عن 35 مليار دولار , وهو ما يعادل تقريبا ميزانية الدولة التونسية.
ولن نجانب الصواب, إن قُلنا بأنّ الهدف الأساسي من الترويج لسردية "الهولوكست العربي", كامن في توجيه الضربة القاصمة إلى حق اللاجئين الفلسطينيين عبر الادعاء بوجود لاجئ يهودي, وبالتالي ضرب حق اللاجئين الفلسطينيين الأصلي ب"اختلاق لصورة اللاجئ اليهودي".
بمٌقتضى هذا الأمر, تصير سردية اللجوء لليهودي العربي, ورقة ضغط ومقايضة لكل نظام عربي ينتصر لحق اللجوء الفلسطيني, وبالتالي تصيير اللجوء الفلسطيني من حمولة رمزية عليها إلى ثقل مادي على العرب.
تُقلق صورة المشيب والشاب الفلسطيني الماسك لمفتاح بيته في الجليل وتل الربيع وحيفا, " مقولة النقاء الإسرائيلي", ويعيد ترتيب الأمور وتأثيثها, بأنّ القضية الفسطينية ليست وليدة حرب 1967, بل هي رحيق حالة عنصرية استيطانية بشرية ومادية, بدات منذ سايكس بيكو إلى يوم الناس هذا على الأقلّ.
تصيير القضية الفلسطينية إلى قضية مادية بامتياز, حيث تحل ثنائية "الازدهار مقابل السلم", محلّ الأرض مقابل السلام, بعد أن يتمّ خنق واتسهداف كل الحقوق الرمزية والتاريخية للإنسان الجمعي الفلسطيني, وعزلها عن صلب القضية, بهذا العُمق لابد أن تنظر تونس إلى التطبيع السياحي وإلى الحنين الذي يبثه بعض الإسرائيليين إلى بيوتهم في تونس والعالم العربيّ...
الذي يريد العودة منهم, فتونس مفتوحة لكل أبنائها, ولكن أن يسعى البعض إلى التجميع بين تونس وإسرائيل, أو بعبارة أدق وطن الاستقلال مع وطن الاستيطان, فهذا يستحيل شكلا ومضمونا...