التصعيد من أجل التصويب بين الصين وأميركا

تشهد العلاقات الصينيّة الأميركيّة مزيداً من التأزم والاحتدام، ويعتقد الكثير من المتابعين أنَّ طبول الحرب ستُقرع بين القوتين الجبارتين المتنافستين على مختلف الصعد.

  • تشهد العلاقات الصينيّة الأميركيّة مزيداً من التأزم والاحتدام
    تشهد العلاقات الصينيّة الأميركيّة مزيداً من التأزم والاحتدام

قرَّرت الولايات المتّحدة مقاطعة دورة الألعاب الأولمبية الشتوية 2022 في بكين دبلوماسياً، مبررةً ذلك بوجود انتهاكات لحقوق الإنسان في الصين، لكنَّ القرار لن يمنع الرياضيين الأميركيين من المشاركة في المسابقات. وأوضحت الناطقة باسم البيت الأبيض جين ساكي أنَّ "إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لن ترسل أي تمثيل دبلوماسي أو رسمي إلى دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين في 2022 والدورة البارالمبية، نظراً إلى مواصلة الصين الشعبيَّة الإبادة ضد الإنسانية في شينغيانغ والانتهاكات الأخرى لحقوق الإنسان".

في المقابل، أكَّدت الصين، يوم الثلاثاء 11 كانون الأول/ديسمبر 2021، أن الولايات المتحدة الأميركية "ستدفع ثمن" قرار مقاطعتها الدبلوماسية لدورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين، على خلفية انتقادات لسجلّها في مجال حقوق الإنسان. 

تشهد العلاقات الصينيّة الأميركيّة مزيداً من التأزم والاحتدام، ويعتقد الكثير من المتابعين أنَّ طبول الحرب ستُقرع بين القوتين الجبارتين المتنافستين على مختلف الصعد، حتى الرياضية. ترتفع وتيرة التصعيد على جزيرة تايوان الضائعة الهوية، بين الغرب الذي يعتبرها مستقلةً، ولها حقّ الانضمام إلى الأمم المتحدة، والتأكيد الصيني بأنَّها "لا تملك الحقّ بذلك"، بعدما أجّجت الولايات المتحدة التوترات بدعوة الجزيرة الديمقراطية إلى مشاركة أكبر في المنظمة الدولية.

تقارير كثيرة تحدثت عن خطورة الوضع بين البلدين. وما نشرته صحيفة "وول ستريت"، نقلاً عن تقارير استخباراتية أميركية سرية، كان مثالاً واضحاً، إذ ذكرت أنَّ "الصين تعتزم إقامة قاعدة عسكرية دائمة لها على المحيط الأطلسي في دولة غينيا الاستوائية وسط أفريقيا، ما يشكّل التهديد الأكبر للأمن القومي الأميركي، ويفتح المجال لمختلف السيناريوهات الأميركية لحماية الأمن الداخلي الأميركي". 

صحيح أنَّ جميع المؤشرات لا تُطَمئن، وأنَّ خيار اللجوء إلى عمل عسكري بات مرتفعاً، إلا أنّ الواقع التحليلي يؤكّد أن الصدامات بعيدة المنال، وأن هدف التهويلات والتصعيد الكلامي هو تصويب الأمور بينهما؛ فسياسة الصين في التسلح لا تهدف إلى قلب النظام العالمي، وهي التي توسّطت لدى إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن في العام 2001، لإدخالها في منظمة التجارة العالمية؛ هذه الحظوة التي فتحت الاقتصاد الصيني على اقتصادات العالم، وجعلت شركاتها المتعددة الجنسيات تنافس الشركات العملاقة الغربية.

بنت الصين إمبراطوريتها الاقتصادية على أركان النظام العالمي القائم. لهذا، لا تسعى لإحداث تغيير في هذا النظام أو السيطرة عليه، لأنّها تعتبر أنّ نمو اقتصادها مرتبط بنمو الاقتصادات العالمية، وتحديداً الأميركية. لقد باعت الصين في العام 2004 الولاياتِ المتحدةَ بضائع تزيد قيمتها على 162 بليون دولار عما اشترته منها. ولعلَّ أحد الأسباب الرئيسية لنمو الصين هو أن العالم يغذّي رأسمالها باستمرار.

وأفاد معهد أبحاث اليابان للاقتصاد والتجارة والصناعة بأنَّ ثلث إنتاج الصين الصناعي تحقَّق بفضل نصف تريليون دولار من المال الأجنبي الذي يدفع للبلاد منذ العام 1978. وقد استثمر الأجانب في تجارة البناء في العام 2003 أكثر مما أنفقوه في أيِّ مكان آخر في العالم. 

صحيح أنَّ التصعيد هو سيد الموقف، والعلاقة بين البلدين إلى المزيد من التأزم، إلا أنّ المؤكد أنّ "الحرب لن تقع"، فالعالم اليوم يتحول إلى نظام متعدد الأقطاب، ما يسمح للصعود الصيني بأن يكون قطباً أساسياً، تماماً كما هو حال اللاعب الروسي، الذي كرّس أمراً واقعاً في أكثر من ساحة عالمية، مثل سوريا. 

هذا ما يؤكّد أنَّ النظام العالمي يتّسع للجميع، وأنَّ الهيمنة الأميركية لم تعد مطلوبة للحقبة المقبلة، فالانفلاش الأميركي في العالم بات يؤرق الميزانية العسكرية الأميركية. لهذا، هي بحاجة إلى الجميع كي لا تقع في محظور هيمنة أحادية، ففي الأزمة الأميركية مع مجموعة "أوبك بلاس" حول طلب بايدن من الدول المستخرجة للنفط زيادة عدد البراميل، بهدف خفض السعر العالمي المرتفع الذي أرهق المستهلك الأميركي، لم تستجب المنظّمة لطلبها، بعكس الصين التي كانت من المستجيبين للطلب الأميركي، مستخدمة جزءاً من الاحتياط لديها. 

لا يستطيع أحد إنكار النموّ السّريع للصّين على مختلف الأصعدة، ولكن هذا لا يدفعها إلى أن تضع استراتيجية للهيمنة على العالم أو تجعل خططها استعمارية لتحلّ محلّ الولايات المتحدة في القيادة الدولية، فالقدرة الاقتصادية والعسكرية ليست كافية وحدها لفعل ذلك، إذ إنّها تحتاج أيضاً إلى قدرة إعلامية وهيمنة على وسائل التواصل الاجتماعي كي تستطيع فرض لغتها وثقافتها بدلاً من اللغة الأميركية وثقافة "راعي الأبقار". 

كما أنَّ مطالبة دول "شنغهاي" باستعمال اليوان الصيني بدلاً من الدولار كعملة للتبادل التجاري معها، لا يعطيها أولوية كي تفرض عقوبات اقتصادية على العالم، كما هو الحال مع الدولار الأميركيّ.

قد تحلم الصين ببناء إمبراطوريّتها، ولكن بالطّبع لن يكون هذا هدفاً لها، لأنّها تدرك أنَّ الوقت لم يحن لإزاحة الأميركي والغربي من السّاحة الدولية، إضافةً إلى ارتيابها من صعود القوة العسكرية الروسية الجبارة، رغم الحلف بينهما. إنَّ مشكلة الحدود بين روسيا والصين تبقى جرحاً ينزف بين الحين والآخر، ولو تمّ الاتفاق بينهما، إذ إنّ تاريخية هذا الصّراع قد تفتح صراعاً جديداً.

أخيراً، تدرك القيادة الصينيّة أنّ الحرب مع الولايات المتحدة ستكون عبثيّة، ولو انتصرت فيها، لأنّ ذلك سينعكس سلباً على مسار التطوّر لديها، ولا سيّما أنَّ الغرب يمثّل الفكر الإبداعي للإنتاج الصّيني الّذي يعتمد على السّلع المنسوخة عما يقدّمه الغرب من سلع وخدمات.