انتخابات لبنان: الكل ربح والكل خسر

فشلت القوات اللبنانية في تكوين تكتل عابر للطوائف كما كانت تشتهي، وخصوصاً بضم نواب من الطائفة السنيّة إليها.

  • قلعة القوات اللبنانية بشرّي المحكمة الإغلاق سقطت بضربة قاضية بخسارتها أحد مقعديها.
    قلعة القوات اللبنانية بشرّي المحكمة الإغلاق سقطت بضربة قاضية بخسارتها أحد مقعديها.

بعد أن أعلنت النتائج الرسمية لانتخابات برلمان لبنان 2022، وسكتت ماكينات الأحزاب والقوى المشاركة عن إصدار أرقام ونتائج اختلط فيها الدقيق والمتوقع والرغبات، باتت الصورة واضحة، والأرقام التي حصدها كل فريق جلية، للبدء بقراءة النتائج على حقيقتها.

من ربح ومن خسر هذا ما يهم الناس، بعد منازلة غير مسبوقة منذ أول انتخابات ما بعد الطائف في العام 1992، منازلة أُغدقت فيها الأموال مع أعلى خطاب تجييشي وتحريضي بدأ قبل قرابة عامين ونصف عام مع اندلاع ما سُمّي "ثورة" ١٧ تشرين الأول 2019 المنظمة والمموّلة، ضد "المنظومة" الحاكمة ومن خلفها القوى الحليفة للمقاومة، عبر تحميلها كل ما آلت إليه الأوضاع في لبنان من أزمات.

ولأن أقوى الحملات التحريضية التي تصدّرت الشعارات والخطابات استهدفت المقاومة وسلاحها، فلتكن البداية منها، والسؤال عمّا إذا كانت قد ربحت أو خسرت. 

لقد شُنّت على المقاومة أعنف الهجومات، حيث لامست في شراستها حرباً توازي حرب تموز 2006 ثانية، بتمويل مليوني عربي ودولي تجلّى إعلامياً ودعائياً، وعبر شراء أصوات ناهز سعر الصوت الواحد منها مئات الدولارات في بعض الدوائر، في استغلال معيب وإذلاليّ لحاجة الناس في أقسى ظرف اقتصادي واجتماعي. ورغم كل ذلك، خرجت المقاومة منتصرة بحصدها أعلى نسبة أصوات، خصوصاً في دوائر الجنوب والبقاع الشمالي، وحلّ رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد أوّل في كل لبنان.

صحيح أنها خسرت بعض الشخصيات الحليفة كالأمير طلال أرسلان والوزيرين السابقين وئام وهاب وفيصل كرامي، غير أن هؤلاء حصدوا أرقاماً من الأصوات تفوق بالآلاف ما حصلوا عليه في دورة انتخابات العام 2018، وأدّى ذلك في الشوف وعاليه إلى فوز أربعة مقاعد للحليف المسيحي الأول للمقاومة التيار الوطني الحر، رغم كل الاستنفار "الاشتراكي" وتجييش رجال الدين ضد وهاب، وتصوير إمكانية اختراقه المقعد الدرزي الثاني في الشوف بمنزلة حرب جبل ثانية.

إضافة إلى أن المقاومة نجحت في صون مقاعدها ومقاعد حركة أمل الشيعية الـ27 من دون أي اختراق رغم الاستماتة من قبل خصومها لتسجيل ولو خرق يتيم.

كما المقاومة، كذلك التيار الوطني الحر الذي جرت شيطنته على مدى السنوات الثلاث الأخيرة. ورغم خسارته مقاعد جزين الثلاثة بسبب صراع داخلي بين أعضاء اللائحة نفسها وضعف الحليفين السنيّين في صيدا، فقد حصد مقاعد صافية له زادت على مقاعده لدورة 2018 بـ 4 مقاعد، مكتسحاً أربعة مقاعد في عكار التي أقفل قبل أسابيع خصومه الطريق أمام رئيس التيار جبران باسيل لمنعه من إقامة مهرجان انتخابي فيها، كما حصد ثلاثة مقاعد في قلب قلعة المسيحيين جبيل - كسروان، رغم كل الحملات على تحالفه مع حزب الله، فيما فاز باسيل نفسه بمقعده في البترون منتصراً في أقوى المنازلات، حيث كان عنوان خصومه الأول، خصوصاً تحالف الكتائب اللبنانية وزعامتي بطرس حرب وميشال الدويهي والقوات اللبنانية، هو إسقاط جبران باسيل. بذلك حافظ التيار الوطني الحر على أكبر كتلة مسيحية وأكبر تكتل نيابي في البرلمان اللبناني.

قلعة القوات اللبنانية بشرّي المحكمة الإغلاق سقطت بضربة قاضية بخسارتها أحد مقعديها هناك، سدّدها زعيم تيار المردة سليمان فرنجية، وهذا بذاته يوازي كل التقدم الذي حققته القوات، وانتشت بنصره عشيّة الانتخابات، مدعومة بأكبر مضخّة تمويل سعودي سخّرتها لأكبر حملة دعائية على امتداد مساحة لبنان، ومع كبريات الماكينات الانتخابية وإغداق مالي على شراء أصوات ومنح مدرسية وتوزيع محروقات يمنة ويسرة وسواها. فالقوات التي حصدت مقاعد حزبية مسيحية إضافية عن الدورة السابقة، فشلت في تكوين تكتل عابر للطوائف كما كانت تشتهي، وخصوصاً بضمّ نواب من الطائفة السنيّة إليها، بعدما جهد رئيسها سمير جعجع ليظهر بمظهر الزعيم الوطني الذي يطمئن الأطياف كافة.

جنبلاطياً، خاض زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط معركة "وجود"، مستخدماً كل أدوات الحرب ضد وئام وهاب وحزب الله الذي اتّهمه بأنه يسعى لمحاصرته. ورغم نجاحه في إبعاد وهاب، مضحّياً بنائب مسيحي هو نعمة طعمة ليثبّت أسوار المختارة، اهتزّت هذه الأسوار بالأصوات المرتفعة التي حقّقها وهاب، وبدخول موجة التغيير إلى قلب عرينه الدرزي عبر استقطاب قسم كبير من الجيل الشاب الذي أدّى إلى خرق في الحصن الدرزي الذي يعتبر جنبلاط نفسه أنه ضمانته، تمثّل في فوز المرشح مارك ضو في عاليه، والمرشح فراس حمدان في دائرة حاصبيا - مرجعيون على حساب خسارة المصرفي مروان خير الدين الذي نال مباركة ثلاثية من قبل جنبلاط وأرسلان ورئيس مجلس النواب نبيه بري.

قومياً، تجلّى صراع جناحي الحزب السوري القومي الاجتماعي في تشتّت أصواته، فسقط جميع مرشحيه من دون "منّة" من أحد، وأطاح أحد رموزه النائب أسعد حردان، الذي يعتبر من حلفاء القيادة السورية البارزين.

حزب الكتائب الذي عاش همروجة المعارضة واكتسح الشاشات التلفزيونية، والشوارع، ببانويات هوليودية، وسجّل تصريحات وبيانات ودعايات تفوق الأصوات التي حصل عليها، فإن حصة الحزب التاريخي قد زادت مقعداً واحداً فقط، لتصبح أربعة مقاعد بدلاً من ثلاثة، مسجّلاً نسبة تقل عن ربع عدد نواب الحزب الذي خرج من رحمه، القوات اللبنانية، وبالنسبة نفسها أمام أرقام كتلة التيار الوطني الحر الذي حمّلته الكتائب مسؤولية كل المآسي التي حلّت باللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً.

في الساحة السنية، غياب رئيس تيار المستقبل سعد الحريري ترك زلزالاً لا ندوباً فقط، وترجم فوضى في التحالفات واللوائح وانتكاسات، وغياباً لأي إطار ينضوي تحت رايته أكثر من مرشح أو اثنين؛ فمن ترشّحوا من المستقبليين السابقين هُزموا هزيمة نكراء، يتقدّمهم أوّل المهزومين فؤاد السنيورة الذي لم يستطع إيصال نائب سنّي على الأقل، يليه نائب رئيس التيار مصطفى علوش الذي سقط في مسقط رأسه طرابلس. حتى من قدّم نفسه الزعيم السنّي البديل الذي نفش ريشه وماله مترئّساً لائحة "بيروت بدّا قلب"، لم يفز إلا بمقعده اليتيم، ولربما كانت بيروت تحتاج إلى عقل أكثر من حاجتها إلى قلب كقلبه وجيبه.

ربما وحده سعد الحريري هو الكاسب الأكبر في ما أفرزته الساحة، حيث ثبت أن تأثيره لدى طائفته ما زال الأقوى بين ما هو متوافر فيها. وحين تتكوّن له مع المقبل من الأيام كتلة صغيرة يستجمع لها بضعة نواب، يكون قد حصد ما حصد بعيداً عن الضجيج والتمويل.  

يبقى المجتمع المدني، الذي شغل العالم الخارجي والداخلي؛ صحيح أنه اخترق "المنظومة" بأربعة عشر مقعداً، غير أن فوزه لم يكن منسّقاً، وجاء على قاعدة من كل وادٍ عصا، ومن غير الواضح إذا ما كانوا سينتظمون في كتلة واحدة، أو سيتفرّقون شراذم، خصوصاً أن بعضهم لا يصطف في خانة أعداء المقاومة، وفي مقدمهم الدكتور "الآدمي" الياس جرادي، كما يعرّفونه في القرى المتاخمة للحدود مع فلسطين. 

ورغم دعم المجتمع الدولي لقوى المجتمع المدني، ويأس اللبنانيين من الوضع المزري على كل المستويات، وتوقهم الجارف إلى التغيير، لم يكن الفوز الذي تحقق على هذا المستوى على قدر الآمال التي علّقها الغرب عليهم، ولا سيّما أن عدد المرشحين الذين تقدّموا تحت راية "التغييريين" ناهز خمسمئة، فتخيّلوا لو انتظم مرشّحو هذه المجموعة في لوائح متماسكة وفق برنامج واضح، كيف كان يمكن للنتيجة أن تكون؟ 

صحيح أن العدد الذي حققته المقاومة وحلفاؤها، وهو 62 نائباً إذا ما انضم اليه بعض قريبي الهوى السياسي، يحتسب في خانة خسارتها للأكثرية، وهذا ما يستدعي قراءة متأنية من قبلها وحلفائها لمكامن الخطأ ومعالجته، غير أن ما تحقق، خصوصاً حين تحتسب الأصوات التي نالتها مقارنةً مع ما كانت عليه في دورة 2018 وأمام خصومها في الدورة الحالية، لا تُعدّ هزيمة وسط بحر الأموال التي أنفقت لِلَيِّ ذراعها، وأن لا تكتفي بما قاله ديفيد شينكر ناصحاً به أتباعه: لا تستمعوا إلى تلفزيون المنار وقناة الميادين...

في المحصلة الكل خسر والكل نجح...

المهم أن قطوع الانتخابات مرّ على لبنان بسلام، عسى أن تترجم أقوال القوى الفائزة تعاوناً لا تناحراً، ليكون هذا الاستحقاق باباً يفتح على الانفراج، لا الانفجار.

 

انتخابات تشريعية مصيرية يشهدها لبنان، بعد ما يزيد على العامين من أزمة اقتصادية سياسية غير مسبوقة، تشابك فيها المحلي مع الإقليمي والدولي، فكيف سيكون وجه لبنان بعد هذه الانتخابات؟