بعد بيان جدة: هل يسقط خطاب الكراهية بين السوريين؟

بعد كلِّ هذه الأعوام الملأى بالخسائر على مختلف المستويات الاجتماعية والاقتصادية والاصطفاف السياسي الذي وصل إلى درجة الكراهية بين بعض السوريين، يجب ألا نعتقد أن الحل سيكون سهلاً.

  • بعد بيان جدة: هل يسقط خطاب الكراهية بين السوريين؟
    بعد بيان جدة: هل يسقط خطاب الكراهية بين السوريين؟

لن يكون تنفيذ بيان مؤتمر جدة سهلاً كما يتمنى السوريون ويأملون، فهو سوف يستغرق وقتاً ليس قليلاً، نظراً إلى ضخامة احتياجات تنفيذ معظم بنوده، كضمان عودة اللاجئين وبسط سيطرة مؤسسات الدولة على كامل أراضي البلاد. ومن جهة ثانية، هناك حاجة للدخول في تفاصيل شديدة التعقيد فشلت 12 عاماً من الحرب في اختراق تصلب المواقف المحلية والإقليمية والدولية حيالها.

ولكن الأثر الأساسي الذي يمكن أن تتبلور ملامحه خلال الفترة القليلة المقبلة يتمثل بخفض منسوب خطاب الكراهية بين فئة من السوريين، وكسر الحواجز النفسية والاجتماعية والاقتصادية بين عموم مواطني البلاد، المتشكلة بفعل تعدد قوى السيطرة والأمر الواقع على مدار أعوام الأزمة، وتباين المواقف والطموحات السياسية، والأهم هو العوامل الخارجية المساعدة.

بأشكال كثيرة

إلى جانب حالة الاحتقان والكراهية التي أسهمت في نشرها شبكات التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام، فإن الموقف السياسي للدول العربية من الأزمة السورية وأطرافها وفاعليها المؤثرين منذ العام 2011، والتعبير عن ذلك الموقف إعلامياً على نطاق واسع، أسهما في بث الكثير من مشاعر الكراهية بين السوريين، التي وصلت أحياناً إلى محاولة إشعال الكره الطائفي والإثني بينهم تحقيقاً لمكاسب ومصالح سياسية. 

وإلى جانب الموقف من الحكومة، هناك دول تؤيد التنظيمات المسلحة وتدعمها بالمال والسلاح، وأخرى تعارض فكرها وحضورها على خريطة الأزمة السورية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الفصائل المدعومة تركياً. يمكن تلمس ملامح هذا الأمر من خلال النقاط التالية:

- محاولة ربط المسؤولية عن المظلومية التي تعرَّضت لها فئات اجتماعية على مدار العقود السابقة بطائفة أو قومية، وليس بأداء مؤسساتي وسياسات داخلية، كما حدث ويحدث في دول عربية ونامية أخرى كثيرة. 

هذا يتطلب مساءلة مؤسساتية، لا مساءلة طائفية ومذهبية وقومية. مثلاً، إهمال تنمية المنطقة الشرقية لم يكن سببه طائفياً أو قومياً، كما ورد في كثير من الخطابات السياسية السورية والعربية المعارضة للحكومة، وإلا لما كان معلمو المدارس في تلك المنطقة قبل الأزمة ينتمون إلى جميع الطوائف والقوميات والمحافظات، إنما المسؤولية تتحملها سياسات وإجراءات حكومية منذ عدة عقود. كذلك الأمر بالنسبة إلى حالة التصحّر السياسي التي تعيشها البلاد منذ ستينيات القرن الماضي وزيادة معدلات الفقر وما إلى ذلك.

- تصوير جميع من بقي في البلاد، وتحديداً في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، على أنهم موالون لـ"النظام" وخارجون على القانون، وتالياً تصنيفهم في عقول شريحة من السوريين في الداخل والخارج على أنهم "أعداء" لمطالبهم وحقوقهم ومواقفهم السياسية. 

أما الواقع الفعلي، فهو يشير إلى وجود كثير من المعارضين والموالين غير المؤيدين لسياسات "النظام" في هذا الملف أو ذاك. مثلاً، قبل أسابيع قليلة نظمت ندوة في قلب دمشق، وفي مركز ثقافي حكومي، انتقد فيها بعض المشاركين والحضور أداء السلطة السياسية في إدارتها الأزمة وعدم إطلاقها الحوار مع القوى السياسية الوطنية المعارضة، واتهموا فيها أيضاً حزب البعث بتصحير الحياة السياسية منذ انقلابه عام 1963، فيما اتهموا الحكومة بنشر الفقر والفساد. لا أقول إنَّ جميع السوريين المقيمين في الداخل قادرون على ممارسة هذا الانتقاد، لكن هناك من يفعل ذلك علانية.

- الترويج لطروحات تقسيمة وانفصالية غذَّت لسنوات مشاعر الكراهية بين بعض السوريين، سواء الخائفون على وحدة أراضي البلاد أو المنتمون إلى قومية أو طائفة، الذين جرى تصويرهم جميعاً مؤيدين لهذا الطرح أو ذاك، فالسواد الأعظم من الكرد مثلاً ليسوا راغبين في الانفصال، وإن كانت هناك شخصيات وتنظيمات سياسية تؤيد هذا الطموح بالخفاء. كما أن تصوير جميع المقيمين في الشمال السوري على أنهم متشددون ومؤيدون فكراً وممارسة للتنظيمات المسلحة والفصائل الموجودة هناك ليس صحيحاً.

كل هذا كان كفيلاً بخلق حواجز نفسية بين فئة من السوريين المنتشرين على امتداد الجغرافيا الوطنية، وزاد تالياً فرص ترسيخ الأمر الواقع. يمكن ملاحظة هذا الشيء مع وقوع الزلزال، فهناك من تعاطف مع المتضررين منه تبعاً لموقفه السياسي، وليس الوطني والإنساني. صحيح أن هؤلاء كانوا قلة، إنما للأسف هم موجودون.

- إضفاء نوع من المشروعية على جرائم القتل التي استهدفت على مدار سنوات موظفين وعاملين في مؤسسات الدولة وتقديمها على أنها عمليات قصاص وانتقام من مؤيدين لـ"النظام"، في حين أن معظمها عملياً كان محاولات لتصفية حسابات شخصية ومناطقية وإشاعة الخوف وتكريس سلطة هذا الفصيل المسلح أو ذاك. 

وجاءت التدابير والإجراءات التي اتخذتها بعض الدول، والتي تتشدد في منح السوريين المقيمين في الداخل موافقات الدخول والإقامة في أراضي تلك الدول، لتضيف سبباً آخر إلى تصاعد مشاعر الكراهية. هذا أيضاً ينطبق على الموقف من بعض الشخصيات المعارضة ذات التاريخ الطويل من العمل والمواقف، التي وجدت نفسها في كفة واحدة مع الشخصيات التي نقلت خلال فترة الأزمة البندقية من كتف إلى كتف.

توحيد السوريين

نتيجة لأسباب عدة، منها تغير أولويات بعض الحكومات العربية في مقاربتها للأزمة السورية، وتراجع الاهتمام بها تحت وطأة المتغيرات الدولية، فقد شهدت السنوات القليلة الماضية تراجعاً ملحوظاً في بث الكراهية وتنميتها بين السوريين.

وتالياً، فإن ما تضمنه بيان مؤتمر جدة يفترض أن تنعكس آثاره قريباً من خلال استبدال الخطاب القائم على صناعة الكراهية بين السوريين بخطاب آخر مختلف تماماً يجمع السوريين مجدداً ويوحّدهم، وذلك من خلال:

- تركيز وسائل الإعلام العربية على ما يجمع السوريين لا على ما يفرقهم. هذا الأمر يمكن أن يحدث ببساطة من خلال الحيادية في عرض الشأن السوري وتناوله بعيداً من أي اصطفاف سياسي متطرف، وأن يكون عملها قائماً على ما يهم الجغرافيا السورية ويوحدها، بعيداً من أيّ بعد مناطقي مستند إلى موقف سياسي. 

نذكر من الأمثلة على ذلك كارثة الزلزال الأخيرة التي تعاملت معها بعض الدول العربية إغاثياً وإعلامياً باصطفاف سياسي، فهناك دول أرسلت مساعدات إغاثية فقط إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الفصائل المسلحة وغطَّتها إعلامياً، وأخرى فعلت ذلك فقط للمناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة.

- استخدام بعض الدول العربية نفوذها وعلاقاتها الإقليمية لإسقاط الحواجز النفسية والاجتماعية والاقتصادية المتشكلة بين جميع المناطق السورية، وبما ينعكس على حياة السوريين في جميع المناطق، بحيث تعاود جميع المناطق الدخول تدريجياً في الحالة التكاملية الاقتصادية والاجتماعية التي تتطلبها وحدة التراب السوري. 

هذا الأمر يمكن أن يتحقق من خلال رعاية تلك الدول وتمويلها مشروعات تنموية محلية تربط المناطق المحاذية لبعضها في التقسيمات الإدارية التي فرضتها ظروف الحرب، وفي الضغط على القوى المسيطرة لتسهيل عملية انتقال البضائع والأفراد واستثمار الثروات بما يعود بالنفع على جميع السوريين بلا استثناء.

- تنظيم ورعاية بعض الدول العربية مؤتمرات وورش عمل تشجع على الحوار واللقاء بين النخب السياسية والاجتماعية السورية الفاعلة في جميع المناطق، فمثل هذا النمط من الأنشطة لا يزال حكراً على دول أوروبية ومنظمات أممية. 

هذه المؤتمرات وورش العمل، على أهمية ما تتداوله من أفكار وطروحات تصبّ في خدمة قضايا محلية كثيرة، لها إسهامات عديدة في كسر حالة الجليد التي صنعتها سنوات الحرب وتفعيل قنوات التواصل بين المشاركين وتعزيز ثقافة السلم الأهلي والمواطنة.

- منح قضية اللاجئين ما تستحقّ من اهتمام حقيقي وفعلي، وذلك بالعمل على تحسين ظروف معيشتهم ومشاركتهم في الحياة العامة لحين عودتهم إلى بلادهم، والعمل كذلك مع الحكومة السورية وجميع القوى لتوفير الظروف الملائمة لعودتهم وتحقيق عملية استقرارهم واندماجهم في المجتمع من جديد. وبقدر ما تكون هناك نتائج سريعة على الأرض، تتم معالجة سبب آخر مهم لبثّ الكراهية والاحتقان.

العمل مع المجتمع

بعد كلِّ هذه الأعوام الملأى بالخسائر على مختلف المستويات الاجتماعية والاقتصادية والاصطفاف السياسي الذي وصل إلى درجة الكراهية بين بعض السوريين، يجب ألا نعتقد أن الحل سيكون سهلاً بمجرد توافق جميع الأطراف السياسية الوطنية، فالمجتمع السوري بحاجة إلى كثير من العمل على مختلف المستويات المحلية والمجتمعية، وإلى نشر السلام المحلّي المستند إلى توافق على الرؤى والمصالح المجتمعية. والأمل مشروع جداً بتحقيق نتائج مهمة خلال فترة زمنية قصيرة، فإن كان البعض قد تأثّر بالكراهية المصدرة إليه، فإنَّ الأغلبية قلبها لا يزال على البلد بجميع أبنائه.