في وداع محمَّد جواد ظريف

لا شكّ في أنَّ إيران سوف تفتقد شخصيّة بحضور محمد جواد ظريف وخبرته. ولو كان الوزير الجديد القادم للخارجية الإيرانية منتمياً إلى تيار مختلف سياسياً عنه، فإن ظلّ ظريف سيبقى ملازماً له، ولو إلى حين!

  • في وداع محمَّد جواد ظريف
    وزير الخارجية الإيراني محمَّد جواد ظريف

 أجواء من الترقّب تسود في إيران والمنطقة، انتظاراً لمعرفة الشخص الذي سيختاره الرئيس إبراهيم رئيسي وزيراً للخارجية في إدارته الجديدة. ومما يزيد شدة الترقب أن القادم الجديد سوف يخلف وزيراً مهماً ومؤثراً ترك بصمة في تاريخ الجمهورية الإسلامية الإيرانية، هو محمد جواد ظريف، ولا شكَّ في أنه سيُقارن به، فمن هو ظريف؟

وُلد في طهران في العام 1960 لأسرة متدينة ميسورة الحال ولها نشاط تجاري. عاش في فترة صباه وشبابه المبكر في سبعينيات القرن الماضي مرحلة النهوض الشعبي في إيران ضد نظام الشاه، وتأثر بكتابات علي شريعتي وأفكاره عن الإسلام التقدمي الثوري المعارض للاستبداد والتبعيّة، وانتمى في حينه إلى الجمعيات الإسلامية الطلابية الناشطة.

ولعل خشية عائلته من تعرضه للاعتقال على يد مخابرات الشاه دفعتها إلى إرساله في سن مبكرة - 17 عاماً - إلى الولايات المتحدة للدراسة. وفي أميركا، أمضى محمد جواد ظريف 11 عاماً، حصل خلالها على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية والقانون الدولي، وتخرج من جامعتي دنفر وسان فرانسيسكو. ورغم أن الولايات المتحدة كانت تعجّ بالمعارضين الإيرانيين وبقايا نظام الشاه، فإنَّ ظريف بقي مخلصاً وموالياً للنظام الإسلامي الثوري الجديد الذي نشأ في إيران بزعامة آية الله الخميني.

عاد ظريف إلى إيران في العام 1988، ليضع نفسه في خدمة نظام الجمهورية الإسلامية. وبالفعل، فإن كفاءته ومؤهلاته لاقت تقديراً كبيراً من المسؤولين في النظام، الذين ضمّوه إلى كادر وزارة الخارجية، وقرروا الاستفادة من خلفيته كخبير في الشؤون الأميركية، بحكم دراسته ومعيشته الطويلة في الولايات المتحدة الأميركية.

تصاعد نجم الشاب محمد جواد ظريف في وزارة الخارجية، إلى أن تم تعيينه في العام 2002 في عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي كمندوب دائم لإيران في الأمم المتحدة، وبقي في المنصب لغاية العام 2007، حين استبدلته حكومة الرئيس المتشدد أحمدي نجاد، وعيَّنت السفير محمد خزاعي بدلاً منه.

مع مجيء الرئيس الإصلاحي حسن روحاني في العام 2013، بلغت مكانة محمد جواد ظريف الذّروة حين عيّنه وزيراً للخارجية وقرّر الاعتماد عليه في مهمة صعبة حساسة واستراتيجية بالنسبة إلى إيران، هي محاولة التوصل إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي مع أميركا والقوى الغربية. بدأ ظريف العمل الشاقّ من حيث انتهى الرئيس خاتمي، بعد أن كان نجاد وصديقه سعيد جليلي ووزير خارجيته منوشهر متقي قد جمّدوا فعلياً المفاوضات مع أميركا، وأوقفوا أي تقدم فيها في السنوات الأخيرة.

ورغم أن جهات نافذة في التيار الأصولي والمحافظ داخل إيران كانت تنظر بتحفظ شديد إلى "اندفاعة" روحاني - ظريف باتجاه اتفاق مع أميركا، فإنَّ ظريف أثبت جدارته، وأظهر صلابة في المفاوضات المعقدة جداً والصعبة، ونجح في التمسك بالثوابت الإيرانية وفرضها على الأطراف الأخرى، وأهمها الفصل بين الملف النووي والقدرات الصاروخية لإيران ونشاطاتها في الإقليم، وكانت النتيجة التوصل إلى اتفاق يلائم المصالح الإيرانية بشكل كبير جداً، وخصوصاً رفع العقوبات الاقتصادية، ما فتح الباب أمام بدء انتعاش اقتصادي في البلد. وكانت ابتسامة ظريف الشهيرة على شرفة الفندق بعد الإعلان عن الاتفاق بمثابة لحظة الانتصار في مسيرته السياسية والدبلوماسية الطويلة.

ولكنّ الأمور لم تسرِ كما يشتهي ظريف ويتمنى. إنَّ الاتفاق مع أميركا كان فيه نقطة ضعف استغلَّها ترامب ليفسد كل ما بناه ظريف وجون كيري، ويلقي باتفاقهما في حاوية القمامة بجرة قلم منه، فقد قبِلَ ظريف أن تكون نتيجة التفاوض "اتفاقية" مع حكومة أميركا، وليس "معاهدة" ملزمة يصدّق عليها الكونغرس. ومن المؤكد أن ذلك الفارق بين "اتفاقية" و"معاهدة" لم يكن غائباً عن ذهن ظريف وفريقه المفاوض العالي التأهيل وذي الخبرة الطويلة، ولكنه أدرك أن الحصول على "معاهدة" من أميركا كان أمراً شبه مستحيل في تلك الظروف، في ظل معارضة خصوم أوباما وهيمنتهم في الكونغرس، وبالتالي اكتفى بالاتفاق الذي أنجزه، مع الحرص على توثيقه في الأمم المتحدة، وعلى مستوى الدول الكبرى في العالم، فذلك أقصى ما كان ممكناً من ناحية واقعية.

العلاقة مع مؤسسة المرشد ومع حرس الثورة كانت تحدياً دائماً أمام محمد جواد ظريف (وأي وزير خارجية في إيران)، فبحكم ظروف نشأة نظام الجمهورية الإسلامية والمؤامرات الكثيرة التي تعرَّضت لها الثورة الإيرانية في بداياتها، كان هناك توجّس دائم وشكوك تجاه دول الغرب عموماً، وأميركا على وجه الخصوص، فالثقة معدومة، والعداء راسخ الجذور.

ولذلك، إنَّ مهمة الدبلوماسي الإيراني عادةً ما تكون شاقة في إقناع السلطة العليا في إيران بجدوى ونجاح التعامل مع الأعداء التاريخيين للثورة والنظام. وكثيراً ما اشتكى الدبلوماسيون من تدخّلاتٍ تحبط شغلهم أو من نقص المعلومات الميدانية عن نشاطات حرس الثورة في المنطقة (وهو ما ظهر في تسجيلات ظريف ذاته للأرشيف الإيراني، والتي تم تسريبها)، ولكن ظريف نجح إلى حد كبير في كسب ثقة المرشد وقيادة حرس الثورة، وجعلهم يدركون أهمية ما يقوم به على الصعيد الدبلوماسي لمصلحة نظام الجمهورية الإسلامية، فأطلقوا يده، وخوّلوه صلاحيات واسعة في صياغة علاقات إيران الدولية. وقد كان بدوره يدرك حدوده ومكانته داخل النظام، ويتصرَّف بقدر عالٍ من الثقة بالنفس.

تعدّ الحادثة التي وقعت في العام 2019 مشهورة للغاية، وذلك عندما قدّم ظريف استقالته علناً، احتجاجاً على بروتوكول زيارة الرئيس السوري بشار الأسد لإيران ولقائه المرشد السيد علي خامنئي، بحضور الفريق قاسم سليماني، من دون حضوره كوزير خارجية أو علمه بالزيارة. يومها، قام المرحوم قاسم سليماني بزيارته في مكتبه في وزارة الخارجية، واعتذر إليه وأرضاه حتى عدل عن استقالته.

على المستوى الشخصي، إن محمد جواد ظريف مسلمٌ مؤمن بولاية الفقيه، ويؤدي فرائضه الدينية بانتظام، وزوجته ملتزمة بالزي الشرعي، وهو لطيفٌ وأنيقٌ وصاحب ابتسامة دائمة تجعل التعامل معه سلساً ومحبباً من قبل نظرائه وزراء خارجية الدول الأخرى، رغم تمسكه بثوابت نظام الجمهورية الإسلامية وصعوبة انتزاع تنازلاتٍ منه، وهو أيضاً متحدث بارع لوسائل الإعلام وقادر على مواجهة أعتى الصحافيين وأصعب الأسئلة بهدوء ومهارة. وقد أُلّف كتاب عن سيرة حياته حمل عنوان "سعادة السفير"، ولاقى رواجاً كبيراً في إيران.

لا شكّ في أنَّ إيران سوف تفتقد شخصيّة بحضور محمد جواد ظريف وخبرته وشهرته. ولو كان الوزير الجديد القادم للخارجية الإيرانية منتمياً إلى تيار مختلف سياسياً عنه، وبغض النظر عن مؤهلاته وكفاءاته، فإن ظلّ محمد جواد ظريف سيبقى ملازماً له، ولو إلى حين.