الجادر يسرد حكايات التراث الغنائي الفراتي

الباحث الموسيقي السوري يوسف الجادر يسرد بعض حكايات التراث الشعبي الغنائي في سوريا متخذاً من شمال الفرات وشرقه نموذجاً.

انطلاقاً من أن "الأغنية الشعبية تدخل في إطار الإبداع الجماعي الذي يعبّر عن الواقع بأبعاده المختلفة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ومن أنها مجهولة التاريخ. إذ قالها أحدهم في لحظة ما وانتقلت بين الناس كالنار في الهشيم، لأنها تعبّر بشكل واضح عن مشاعرهم وأحاسيسهم تجاه قضايا وجودية وفلسفية بلغة بسيطة غير منمقة"، بدأ الباحث الموسيقي السوري يوسف الجادر بسرد بعض حكايات التراث الشعبي الغنائي، متخذاً من شمال الفرات وشرقه نموذجاً، وذلك في "المركز الثقافي العربي" في أبي رمانة ضمن فعاليات "دار مدى الثقافي" بإدارة ريم الشعار.

أولى تلك الحكايات تمحورت حول أهزوجة أمّ الغيث المنتمية إلى الثقافة البدوية والتي كان لها حضوراً كبيراً في طقوس الخصب عند أجدادنا القدماء. تقول الأهزوجة: "أم الغيث بلّي.. بشيت راعينا/راعينا حسن أقرع.. لُو سنتين ما يزرع/ والحنطة بعلو الكاب.. والشعير مالو حساب/ أم الغيث زعلانه.. تجيب المطر من عانه/أم الغيث يا رَيَّه.. عَبِّي الحوايا ميّه".

ويشير الجادر إلى أن هذه الأغنية تشكل رمزاً من رموز الخصوبة، إذ تحمل أجمل الفتيات دمية تُسمى "عاجة" وتسير وراءها فتيات الحي وصغاره، وتلك العاجة هي أمّ الغيث وهي آلهة الخصب عشتار في أحد وجوهها، وفحوى الأهزوجة استغاثة وتضرع للسماء من أجل هطول المطر بعد الجفاف الكبير الذي جعل القمح لا ينمو والزراعة عموماً مستعصية.

يقول الجادر: "أعتقد أن الأغنيات الشعبية في جرابلس تدخل في إطار الإبداع الفردي ضمن الجماعة الواحدة، بحيث يبدعها شخص ثم تنتشر انتشاراً كبيراً وتذوب في التراث الشعبي للمجتمع، وقد تُعاد صياغتها وهيكلتها ضمن اللحن الواحد"، مستشهداً بأغنية "بين جريبيس وجريبيس (جرابلس بلهجة أهل المنطقة).. كلّ الحجر لَمّيتو/ لمَّنْ قالولي انخطبت.. سنّ الذَّهب رَمِيْتُو"، وعلى القالب الموسيقي ذاته نسمع "غربي جريبيس الجوّا.. طالع جما (الكمأة) يا طيبو/ عبد الحميد موصّي.. كُلْ مِنْ ياخُدْ حبيبو".

ويبقى الإيقاع هو المرتكز أو الثيمة الأساسية في تكوين الأغنية الشعبية، بسبب اندغامه مع مشاعر الناس خلال أعمالهم المختلفة من الحصاد والسقي وتقليب التربة. وأكبر مثال على ذلك، بحسب الجادر، هو حكاية "دَقّ البرغل" التي تتصف بإيقاعها المعقد رغم ما يبدو عليه من انسجام وبساطة، إذ إن إنجازه يتطلّب تركيزاً وانتباهاً في كل حركة.

ويضيف: "دَقّ البرغل من أعقد الحركات، إذ يشارك فيه 4 أشخاص (ضارِبَيْن ورادِدَيْن)، الضاربَيْن هم من الفتيان والفتيات أقوياء البنية يحملون أداة خشبية تشبه المطرقة اسمها "الميجنة"، والراددين هم من النساء كبيرات السن حيث يُقدِّرن نتيجة خبرتهن الطويلة متى يمكن أن يرجعن القمح الخارج من الجرن جراء الضرب القوي من دون أن يلحق بهن أذى من الضاربين. وبين الدُّمّ التي تُصدِرها الميجنة والإس (الصمت) الناجم عن ضرب الميجنة على حافة جرن الطَّحن، ثم التَّكّ التي تُصدرها حركة الرَّادِدَين ويتزامن معها صوت زفرة شديدة تخرجه النساء الكبيرات يتشكَّل إيقاع مميز.

  • يوسف الجادر
    يوسف الجادر

وتترافق تلك الحركات مع الغناء الذي يوضح الإيقاع أكثر ويعزز الحالة الدرامية له، إذ يقول الضارب الأول وغالباً ما يكون فتاة: "حول تغدَّى سَمِنْ.. وبعدين اشرب شاي/ يابو بريمن عكس.. بالله التفت ليجاي"، ليرد الضارب الثاني الشاب: "والله ما التفت.. يلعن أبو ساسج/ ريتج بحية الهوى.. وتلخج براسج"، وتتابع الفتاة غزلها رغم صدّ الشاب: "موليش حية الهوى.. موليش يا عيوني/ أنت هلي وعمامي.. وتطرد عفوني"، هنا يلومها الشاب معلناً سبب صدوده: "أني هلج وعمامج.. يا خاينة عرفناج/ أمس العصر منو.. اللي وقّف وياج"، لترد عليه: "والله محَّدْ وقف.. خطّار ومعدّين/ يلعن ذاك السَّعد.. منكم يا ظنَّانين".

ويستمر هذا الحوار الغنائي الجميل بحسب الباحث وفيه يستخدم الشاب كل قوته العضلية لمجاراة الفتاة التي تضرب معه بقليل من العزم، حتى ينتهي بهما المطاف بأن يستسلم الشاب ويعطي غيره من الشباب المنتظرين دورهم للغناء والعمل، وكثيراً ما تنشأ علاقات حب من خلال هذا الطقس.

ينتقل الجادر بعدها للحديث عن حكاية "المولية" كأحد أهم أشكال الأداء الغنائي في منطقة الفرات الأوسط، مع البحث في دلالتها الجمالية ومكوناتها ومتغيراتها اللحنية التي تختلف من مكان لآخر. يقول: "ما زالت المولية حتى وقتنا الراهن محافظة على جملها الشعرية واللحنية، وهناك شعراء ومغنين شعبيين اشتهروا في أدائها مثل حسين الحسن وأبناؤه وأحفاده، إذ ورثوا هذا الشكل من الغناء عن أسلافهم مع تغيير بسيط في المفردات أحياناً وفي اللحن أحياناً أخرى".

ويفنِّد الباحث الموسيقي السوري أنواعاً عدة من الموليّة منها: "موليّة بني عصيد" التي تؤدّى بين عين عيسى شمالاً إلى تل أبيض، مع لحنها على مقام الصبا ومن كلماتها "سود الليالي كضن بينا ولاحنا.. عامين مرَّنْ ولا المحبوب لاحنا.. صبغ الغاوي القوي يا خوي لو حنّة.. لولا البريسم على المتنين مرمية".

وهناك "موليّة الرقة"، وتغنّى على مقام البيات أو النهاوند واشتهرت في أغاني الأفراح وفيها سلاسة في الجمل الشعرية واللحنية، ومنها: "يُمَّة تعاليلي يمّة تعاليلي.. اني بجمر القظا وأنت بتعاليلي.. عندما يغيب القُمَرْ سَمْرة تعاليلي.. تشوف مين يدحمج وأنا اجرى ع الميّة".   

ويوضح الجادر أنه ثمة "موليّة دير الزور" التي تمتاز بتركيبتها اللحنية على مقام الصبا، وتتكرر فيها اللازمة الغنائية أثناء الانتقال من مولية لأخرى كي يتسنى للمغني الشاعر أن ينقل أحاسيسه بأداء المولية الجديدة والتي تعبر عن مسار مختلف عن المولية السابقة، ودائماً تبدأ باستهلال ثابت، ومن أمثلتها "قلبي على أبو الزلف عيني يا مولية.. بيني وبينك بحر شي وصلّن ليّة.. خشيت لدياركم عرقان تاتهوى.. واطلعت من داركم بالنار اتجوى.. هالبنية العندكم هالقاعدة جوى.. هالقاعدة ع الطبق تفتل شعيرية".

أما حكاية "السويحلي" فمختلفة، ويوضح الجادر أنها نوع من الغناء منتشر على ضفاف الفرات من أعلاه وحتى أدناه، ويعبِّر بشكل صريح ومباشر عن مشاعر المغني وعلاقته بالمكان، ودليل ذلك السويحلي المشهور في جرابلس أعلى الفرات الذي يقول "يزهي بلا مي.. قلبي شجرة زيتون/ بس الورق حي.. وجوّى القلب عطبان". فالزيتون منتشر في جرابلس على عكس جنوب الفرات.

ويضيف الجادر أن "الذاكرة الشعبية وما تحمل بين طياتها من قصص وحكايات تجعل الإيمان بقدرة الإنسان من جعل البسيط أكثر عمقاً واقعاً، وذلك عبر صوت المغني وحده من دون مرافقة ناي أو شبابة أو ربابة أو أية آلة إيقاعية، إذ للسويحلي شهقته التي تضبط إيقاع اللحن، فيترك المغني كامل قدراته الصوتية لتنتشر في الوديان وتخلق أصداء يستمتع بها. هناك سويحلي اليابين ومن أمثلته "لا جابل الموح (مكان زراعة القطن.. وانطر درب شوقي.. وما بطِّل النوح.. ما زالهم غياب" وأيضاً "الدنيا تزرع قطن.. وأنا ازرع هدومي/ تسعين ناقة وجمل.. ما شَالِن همومي".