اسبر ملحم: تجربة تصوير تبدع "التصوير التجريدي"

الغرابة في ما يعرضه ملحم هو على الأرجح خَلْقُ نوعٍ جديد من الفنون، يرى مُلِمّون بالفن والثقافة إنه قد يفرض بنفسه على أكبر الأكاديميات لمتابعة هذا الفن الذي يمكن وصفه بالتصوير التجريدي، لكن بمعانٍ وأبعاد إنسانية. 

مَن لا يعرف اسبر ملحم! هو مصوّر طرابلسي مخضرم من مواليد عام 1952. صورة نمطية لرجل وكاميرا: صنوان لا يفترقان.

وإذ ينتشر إعلان لمعرض أوّل له، فليس من غرابة، فالرجل قديم في المهنة، ومن البداهة أن يقيم معرضاً له، فيتصوّر المرء أنّه سيكون أمام مجموعة كبيرة من الصور المُرَجَّح أنها توثيقيّة لما مرّ عليه من أحداث، وما اختبره من تطورات في عمله التصويري، خصوصاً الصحفيّ، المتراوح بين الحروب والثقافة والفنون.

لكنّ الغرابة في ما يعرضه ملحم هو على الأرجح خَلْقُ نوعٍ جديد من الفنون، يرى مُلِمّون بالفن والثقافة إنه قد يفرض بنفسه على أكبر الأكاديميات لمتابعة هذا الفن الذي يمكن وصفه بالتصوير التجريدي، لكن بمعانٍ وأبعاد إنسانية. 

المعرض يتكوّن من 25 لوحة، وُيقام في مركز "الصفدي الثقافي" بطرابلس، بدعوة من "نادي الليونز"، و"مؤسسة سابا زريق الثقافية”، عنوانه "دَمْعٌ ورجاء".

التقطت اللّوحات بتقنية واحدة لا يجرؤ عليها، ولا يمكن أن يفكّر بها، إلّا من يكون جَبْلَة فنّ، عابراً مختلف أصناف الفنون، مُراكِماً تجاربها، ومُخبّئاً إياها في ثنايا المحفظة التي لا تفارق جسده النحيل، بشفافيته، وضحكته الدائمة التي تنمّ عن استهزاء بأي مشهد تراه كلّ العيون ولا تتوقف عنده، لكن عيناً ثاقبة كعينيه وحده تدرك اللحظة المعبّرة لالتقاط الموقف الذي يصفه في حديث مع "الميادين الثقافية": "إنها ثانية من الزمن، وربما أقلّ".

اللّوحات تبدو ولادتها من بعض مواقع مدينته الثرية، خصوصاً بحرها الذي لا يفرغ رصيفه من الروّاد ليلاً نهاراً، وفي الطقس الحارّ كما الماطر، ولكلٍّ حالةٍ سحرٌ لا يدركه إلّا عشّاق قلائل، أو هواة أنواع من جنون البحث عن الجمال في عتمات الليالي الكالحة، وعن السحر في ظل أنواء البحر الحاملة لأمواج المطر من البحر إلى الأرصفة، ومن سطحه إلى السماء.

وإذا كان من طَبْعِ الانسان الوَجَل من الظلام، ومما يخفيه من مجهول، إلا أن عين الفنان الثاقبة ترى فيها جمالات لا يدركها المُتَعقّلون، خصوصاً متى اختبرها الفنان في مجالات أخرى في عمله الفني.

هذه الحال تنطبق على فرادة حالة ملحم الذي يرتاد بحر مدينته دائماً، ولطالما حاصرته العواصف والأنواء في سيارته، بأمطار غزيرة طوفانية، لم يخشَ منها جنوحاً بسبب السيول، أو العواصف، رغم الشعور بالتهديد بذلك. 

في سيارته ليلاً، والعواصف مندلعةٌ بقوة، والمطر ينهمر بغزارة، تتكسّر على قطراته الدافقة أنوار سيارات قادمة من بعيد، أو من الخلف، أو متسرّبة من بيوت أو مقاهٍ قريبة، تلمّس ملحم مشهديّات لا تراها إلا عينه.

أسود، على أصفرٍ، على أحمر، على رمادي، تعزلها عن بعضها البعض طبقات متراكمة من المطر على زجاج سيارته الأمامي الصارخ بأن تتحرك المسّاحات طلباً لرؤية واضحة، لكنّ ملحم لا يلبي نداء واجهة سيارته، ويتتبّع بعينه الفنية الثاقبة المشاهد المُتراتبة، والمُتناوبة، والمُتكرّرة عبر الزجاج ينهمر المطر عليه بلا هوادة، وفي كلّ ثانية مشهد جديد، فيستلّ كاميرته، يعيّر فتحاتٍ وسرعاتٍ فيها متلائمة مع مشهدية لم يسبق لسواه أن أوغل في تصويرها، واستخرج منها أجمل المشاهد، وأغربها.

تجربة عتيقة

لا يجوز القول إن ملحم، أو أي انسان آخر، يصل إلى هذا المستوى من تحسّس رقيّ الموقف الفني بلا  خلفيّات، أو تجارب. فملحم المخضرم سبق له أن اختبر أصناف الفنون منذ يفاعته في المدرسة، حيث كان طالباً في مدرسة الفرير بطرابلس، وكان يتلقى دراسة الخط بريشتين، واحدة مخصّصة للخط العربي، وأخرى للخط الفرنسي. ويوم أراد أحدٌ ما أن يقيم نشاطاً يحتاج لإعلان غرافيكي، كان يلجأ إلى اسبر ملحم الذي برع في هذا الصنف من الفن.

ملحم يروي كيف رافق صعود موجات ال "Beatles"، وال "Hippies"، وال "Woodstock”، من مظاهر وافدة مع الحداثة الغربية، منها تشكيل فرق موسيقية، وإقامة حفلات صاخبة، حيث تشكّلت في مدينته العديد من الفِرَق، منها "Just four"، و "Why Not" وسواها من فِرَق كان جلّ افرادها من أترابه، وزملاء الدراسة.

تفنّن ملحم في استخراج البوسترات لحفلاتها بمهارته اليدوية، مستفيداً مما تعلمه بالخطّ المدرسي، وتعلّم كتابة الحروف المتناسبة مع صرعات الموسم الجديد بحروف كبيرة متراقصة، وملوّنة بصخب، فأدخلها في بوستراته.

عايش في ستينيات القرن الماضي ظاهرة الفنانين العشرة في مدينته، وهم من كبار الفنانين، فكانت الألوان رفيقة دربه مع المجموعة، ومع تطوّر عمله، استعار الألوان الزاهية، والتشكيل المتنوّع من لوحات الفنانين العشرة، وطرائق الحروفيّة التي اتّبعها العديد منهم، كما تابع خطّاطي مدينته المَهَرة، ووظّف مكتسبات رؤاه الثاقبة في بوستراته، فصار مرجعية لهذا النوع من الفنون.

في الصيف، يعمد الأهالي لتشغيل أبنائهم، فيصدف أن يلتحق ملحم بمُحْتَرفَين شهيرين للتصوير الفوتوغرافي في مدينته على ساحة التل، وهما آل ستافرو، فاختبر لديهما فنون التصوير، وبرع بالتقاط المشاهد مستعيراً كاميرات العاملين في المحترف، إلى أن استدانت له أمه 1000 ليرة، فاقتنى كاميرا لأول مرة، وكانت "نيكون أف 1"، وبها انطلق في عالم التصوير.

بعد ذلك، انتقل إلى بيروت يتابع أعمال التصوير عبر الصحافة الفنيّة كمجلة "الموعد"، والسياسيّة في مجلة "كلّ شيء"، والفوتو - رومان بمجلة "نورا"، ومن أبرز محطاته تصوير حفلة "ديميس روسّوس" في جبيل، ويوم انطلقت جريدة "الكفاح العربي"، عمل معها، وتعرّف عبرها على أوساط فنية لبنانية وسورية ومصرية، وعايش في بيروت تصوير السينما مع فنانين عربٍ كبار كالمخرج عاطف سالم، ورشدي أباظة، وجورجينا رزق، وشارك معهم في مشهد صغير.

سنة 1977، وقع في الأسر خلال تغطية أحداث في الجنوب اللبناني، وأمضى مع زملاء صحفيين له 9 أشهر في السجون الاسرائيلية ومعذِّبات عملائها.

في العام 1985 سافر إلى فرنسا لأسباب عائلية، وكان كيفما حلّ وارتحل، يواكب الأعمال الفنية الرائجة، ويتابع تطوراتها الفنية، وعمل في مجلة "المنبر"، إلى أن التحق بمعهد Icart، وركّز فيه على تأثيرات التصوير الفوتوغرافي على فن الإعلان.

عام 1996 عاد إلى مدينته ليزاول فيها الأعمال الفوتوغرافية والتصوير الصحفي وإخراج الكتب وحقولاً فنية متنوعة. 

"دمع ورجاء"

ملحم تجربة فنيّة واسعة ثمرتها "دمعٌ ورجاء" ولأنه التقط اللوحاته الفوتوغرافية على وقع المطر الغزير، لذلك أسمى عمله في عنوان فرعي: "وبنعمة زخّات المطر.. ترقص المخيّلة".

في فترة التقاط صور معرضه، عايش ملحم كسواه من اللبنانيين تداعيات الأزمة، فلم يستطع عزل مؤثراتها عن فنّه، فرأى في كل مشهد، جانباً من المأساة اللبنانية، وعلّق على اللوحات بما توحيه، مثل لوحة وجه امرأة، "رغم هذا الحزن الداكن، ينبثق الجمال، ويملأنا فرحاً".

أو "في كل هذه الدموع (نقاط المطر) يبقى الأمل"، و"ما بين النار والنور دمع المطر"، وعن زوارق متماهية بقطرات المطر، رأى فيها هجرة النازحين من ألم المأساة، وفي لوحة تبدو فيها ورقة خريفية على زجاجه، قال: "في خريف العمر، لا أدري إن كنت معلّقاً على زجاج الذاكرة أم على ذاكرة النسيان".

لوحات لمدينته، يرفدها بتعليقات الحبّ، كمدينة للسلام، والسكينة، وأمام ساحة النور، حيث جرت تحركات رافضة للسلطة، قال: "حرام أن تشعلي النار بالحطب..أشعليها بحكام المال، وحكام الذهب".

ثمّة لوحتان، واحدة تبدو فيها وجوه 4 هي "أضواء السيارات وجوه باسمة تحت زخات المطر"، كما وصفها، والثانية، تبدو فيها مظلّة "إذا أراد أحدهم أن يمطر على أحلامك، إحمل مظلتك، واحلم بظلها".

وآخر اللوحات تتناول الواقع الصحي، وهي صورة الصليب الأخضر، رمز الصيادلة، والصحة، يسمّيها "صيدلية السماء" معلّقاً: "أيها الضوء المقدّس الشافي، إشفِ جروحنا، وطهّر أرواحنا المتعبة".