"الصبية والليل": لا مفرّ من الخطيئة

تقف الصبية مانون، خريجة الليسيه، أمام جثة هامدة تحيل إلى حكاية سابقة جرت في الموقع ذاته في كوت دازور. 

  • رواية
    رواية "الصبية والليل" للروائي الفرنسي غيوم ميسو.

 

ليست الحضارة سوى قشرة رقيقة وهشة فوق أتونٍ من الفوضى. من هذه الفكرة ينطلق الكاتب والروائي الفرنسي غيوم ميسو (1974) بتأسيس أحداث روايته "الصبية والليل" الصادرة عن دار نوفل في بيروت بترجمة ناتالي خوري، ويبحث عن ضالتهِ تحت ركام الوجوه والمدن والألقاب. 

تبدو الشخصيات للوهلة الأولى صلبة ومتماسكة، وقد نراها في بعض المشاهد مثالية أكثر مما يجب لدرجة تجعل منها نماذج يحتذى بها، وفي وقت تبدو الحقيقة أكثر ما يسبب الهلع لأسمائهم اللامعة، وطبقتهم البراقة. لا منفذَ واضحاً للهروب من الخطيئة، ذلك أنها تلاحق الجناة زمناً طويلاً من غير أن ينفع معها التستر أو الهروب، ما يخلق زمناً آخرَ يعيد فتح الأسئلة، ويرصد الجميع على مسرح جريمة حدثت قبل أكثر من خمسة وعشرين عاماً.

يبني الكاتب فضاء روايته في مسقط رأسه، كوت دازور، وتتناوب أحداثها بين الماضي والحاضر، إذ تمتلئ بالتقلبات حتى لحظاتها الأخيرة، وكثيراً ما يدفع بالقارئ إلى أقصى حدود التوقع، والذي لم يكن ضرورياً، فمن الواضح أن غاية الكاتب جرفَ القارئ وإثارته، ولا شك أن بعضاً منه يتحقق لباحثٍ عن المتعة، إلا أن الأحداث تسير بشكل أفقيّ بعيداً عن العمق، وتترسخ على سطح متسعٍ حين يخاطرُ بكشف اسم القاتل من صفحاته الأولى. 

تبدأ القصة بما يشبه الحركات السينمائية وبمشاهد خاطفة وتواريخ تتصل يما سيحدث لاحقاً. إذ نجد الصبية مانون، خريجة الليسيه سانت أكزوبيري، تقف أمام جثة هامدة تحيل إلى حكاية الماضي نفسها، والتي جرت في الموقع ذاته على درب المهربين في كوت دازور. 

يتلقى طلاب الليسيه جميعهم رسائل دعوة للمشاركة في لمّ شمل الطلبة القدامى، وهنا نجد الراوي توماس مرتبكاً بعد تلقيه اتصالاً من صديقه ماكسيم، ذلك أن قلقاً قديماً يطفو ويثير الخوف من إعادة ذكرى جريمتهم السرية. يعرّض التجمعُ في المكان القديم كلاً من توماس وماكسيم للخطر، لتحيل الأحداث إلى مأساتهما، حين ارتكبا مع صديقتهما فاني جريمة قتل الجميلة فينكا، وقام الثلاثة بتطعيم الجثة في صالة ألعاب رياضية يتم تدميرها وفق مخطط لاحق. هكذا من حرم جامعي مرموق، وضمن أجواء شتوية مع ثلاثة أصدقاء مرتبطين بسر مأساوي، تلاحق الخطيئة أصحابها، ويبدو الغياب عن التجمع غير وارد، لتعود من جديد قصة الصبية فينكا روكويل، أجمل فتيات الليسيه وأكثرهن ذكاء وفتنة، الأمر الذي يفسّر اهتمام الجميع بمصيرها، وانتشار الأقاويل عن حادثة هروبها مع أستاذ الفلسفة أليكسس كليمان.

يجتمع الأصدقاء الثلاثة من غير أن يتحدثوا مع بعضهم طوال السنوات الماضية. وهنا يتقن الكاتب موضوعه، ويدفع القارئ إلى طرق ملأى بالمزالق. ينثر الأدلة ليبدو أمرُ التجمع مريباً وغير عادي، مستخدماً حبكاتٍ ملتوية. إذ لا محقق هنا، ولا رجال شرطة، بل مجرد رسائل ترسل إلى المجرمين وتشير إلى طرف رابعٍ يعلم الحقيقة وينوي إعلانها. إذن لدينا هنا محقق بعيد عن الأنظمة والقوانين، وهو حسب ما يظهر يهمه كشف الجريمة ويتقن لعبة تصل إلى استنتاجات منطقية في النهاية.

يظهر الصحافي ستيفان بيانلي؛ أحد الزملاء السابقين في الليسيه،  ويبدو أكثر المهتمين بحضور توماس، نظراً لنشره مقالات قديمة عنونها بالموت والصبية، والتي لا تدعم فكرة هروب فينكا مع أستاذها وتقترح مصيراً آخر، وهو ما زاد من اهتمام الجميع بالقصة آنذاك. لا لقاء جديد في تلك المشاهد، ذلك أن توماس وعمله في كتابة الرواية جعلا ستيفان قريباً ومهتماً بكتابة مقالات عن رواياته وعمل حوارات معه، لكن بيانلي وملاحقاته تثير في توماس الهلع، وتخلق لديه حدساً بقرب حدوث الفضيحة. 

تلتقي الرواية من خلال توماس بعالمي الأدب والجريمة، إذ يبدو ميسو عارفاً بهذين القطبين المتباعدين، لذا يعمد إلى خياله في كسر عوالم الرواية، وتقديم شخصيات جنائية هادئة ومسالمة لا منطق يقنع بخلفيتها الإجرامية. يبدو توماس، الروائي الذي فضّل السفر بعيداً، ممتلئاً بماضٍ ثقيل، كما لو أنه أمضى حياته طاوياً خطيئةً هجسَ بنهايتها المشؤومة. إلا أن تواجده ضمن أجواء ملتبسة، وبين زملاء الدراسة يكشف له تغيّر أحوالهم وتبدل مصائرهم، لكنا وإياه نبقى عالقين بالحدث المؤرق؛ اختفاء فينكا، والذي له أن يُكتشفَ حال تأسيس برج زجاجي مكان صالة الألعاب الرياضية. وما يعدد الروايات اكتشافُ أسرار أخرى تتعلق بحياة توماس وصديقه ماكسيم، فالكشف والتستر يجعلان الترقب والتخبط ثيمة لشخصيات القصة، إذ يستند الصحافي بيانلي إلى آراء جد فينكا  حول اختفاء حفيدته، وإيمانه بمصير انتهى بحادثة خطفٍ منظم، من غير أن يصدق ما اعتمدته التحقيقات من رسائل بين فينكا وأليكسس كليمان، كبرهان على رحيلهما معاً. 

وما يثير الشكوك لجوء الصبية إلى توماس بعد تحميلها أليكسس مسؤولية تأزم حياتها، والتأكد من حملها. هكذا تتخبط الأدلة من جديد، ويزداد السرد زخماً من غير أن تخرج الشخصيات من مساحة الرواية المؤطرة بحدود الليسيه ومبانيه. تعيد رسائل الاتهام المجهولة إلى توماس ذكرى تورطه مع صديقه في الجريمة. ولولا تدخل فرنسيس بيانكارديني ودفنه الجثة داخل صالة الألعاب ما تمكن مع ماكسيم من شق طريقهما في الحياة وإكمالها بصورة عادية، غير متناسين اعتراف فاني بدسها أقراص منوّمة في شاي فينكا لتصير الجريمة قتلاً مضاعفاً، ساهمت فاني في إخفائه عبر تمثيلها دور الفتاة الصهباء ومرورها أمام حارس الليسيه لترويج خبر هروبها. 

"صحيحٌ أن الروايات لم تُشفِني لكنها أراحتني قليلاً من ثقل ذاتي. من ثقل أن أكون أنا. لقد قدمت لي فسحة لأنفّس عن همومي. شكّلت الكتب سداً منيعاً في وجه طوفان الرعب والهلع الذي يهدد بجرفي". هكذا يبوح توماس عن حياة مملوءةٍ بالندم والشعور بالخطيئة، إذ يبدو عمله في كتابة الروايات تحدياً لواقعه، ليس لتصحيحه، بل لمحاربة الحقيقة الآثمة، ولغاية نكرانه أيضاً، وكأنه باللجوء إلى الكتابة يجابه العالم ويخلق عالماً بديلاً، ما يؤسس لانعدام اليقين المطلق بتحكم المرء بالحياة. ومع استمرار بحثهِ وصديقيه في حقيقة المغلفات، يكتشف بأن ريشار ليس والده الحقيقي، إذ لطالما كانت علاقته متأزمة مع والديه، ويعلم أن أباهُ هو فرنسيس والد ماكسيم، وأن علاقة جسدية قديمة جرت بين فينكا وريشار ما يعني أن ماكسيم شقيق له. وهنا يظهر اسم أليكسس دوفيل، العشيقة السرية لفينكا، والمتيمة بها، تلك التي اكتشفت درامية مقتل حبيبتها. ذلك أن الكاتب جعل من تشابه الأسماء فخاً للقراء، وهو ما أوقع أليكسس كليمان ضحية، فالفتاة دوفيل ترفض فكرة هروب عشيقتها، وتفتش عبر ترصد حيوات الزملاء والحراس لتقع على حقيقة الجريمة، وتبدأ بعدها لعبةَ الثأر من المتورطين من خلال جمعها طلاب الليسيه جميعهم بعد أكثر من خمسة وعشرين عاماً. 

يمكن أن تنتصر الرواية لغاية بناء مفارقاتٍ وثنائيات أغنت السرد، والتي ندّت عن أناسٍ عبّروا عن مشاعرهم وغرائزهم بصورة بدائية، على الرغم من سويتهم الثقافية الرفيعة؛ ذلك أن توماس يشتبك مع أليكسس جراء الغيرة، وفينكا تبتز ريشار لأجل المال، بينما يشترك فرنسيس وأنابيل في الجريمة لحماية ولديهما، في وقتٍ يأتي دور أليكسس دوفيل لتثأر لحبيبتها، وليبقى الصحافي بيانلي الطرف المتوازن الوحيد في القصة، إذ يرجح كفة مهنته على عواطفه تجاه رفاقه، من خلال محاولته وضع كتاب يكشف الحقيقة.