المجاز مشكاة الوجود

وعى الشعر ذاته كمنجمٍ للمجاز والصورة الشعرية والتجريد والرمز. ربما تعالا قليلاً وبالتالي لم يعد جماهيرياً، وذلك لأنّه ارتقى من المباشرة المحدودة إلى الخيال الواسع

  • المجاز والصورة الشعرية هما بحقٍّ من أعطيا للّغةِ القدرةَ على التجدد والاستمرار
    المجاز والصورة الشعرية هما بحقٍّ من أعطيا للّغةِ القدرةَ على التجدد والاستمرار

أثار "تأمل أزمة المجاز: هاوية الإنسان الخفية" للكاتب عبد الواحد حدا، العديد من القضايا الجوهرية، التي بوّأت المجاز مكانةً وجوديةً ملحّةً، إن لم نقل إنّه جوهر معنى الوجود الإنساني نفسه. مادام "الشعر هو مسكن الوجود"، حسب هايدغر.

طوّر الإنسان إدراكه لنفسه ومحيطه من خلال اللغة، وكان الشعر أداته الخلّاقة في تطوير بيانه وبلاغته، فجعل من التشبيه أداةً مباشرةً لربط تعبيره بمحيطه الخارجي، إفصاحاً وإيضاحاً، وأخذ الشعر بتطوير ذلك إلى الاستعارة والكناية والمجاز والرمز والصورة الشعرية. كل هذه الأساليب كان لها هدفٌ أساسٌ، هو إعطاء كيمياء حيّة لتركيب مكنونات اللغة، حتّى تكون قادرةً على سبر أغوار النفس والكون والوجود.

وكذلك، فإنَّ جُلَّ التعبيرات السحرية والدينية متحت من معينها، وجعلت منها أداةً لخدمة أغراضها في التأثير والجذب والسيطرة.

إنَّ المجاز والصورة الشعرية هما بحقٍّ من أعطيا للّغةِ القدرةَ على التجدد والاستمرار.

إلّا أنَّ الشعر كان جدلياً دائماً، جعل من أدواته منطلقاً ونتيجة، حاملاً لفكرة، وهو الفكرة ذاتها. محافظاً على الأسلوب ومتجاوزاً له. إذ عَمِلَ على تطوير ماهيته، مما جعل أرسطو يقول إنَّ "الاستعارة آيةُ الشاعر العظيم"، فيما قال الجاحظ إنَّ "الشعر فنٌّ تصويريٌّ، يقوم جانبٌ كبيرٌ من جماله على الصورة الشعرية وحُسن التعبير".  

واجتهد النقاد القدامى والمعاصرون في توضيح تفاصيل علم البيان والبلاغة والبديع.

ما يهمني الآن هو: لماذا هناك أزمة مجاز؟ أين ملعبها الأساس؟ هل هو المجاز ذاته أو المتلقّي أو الوسائط؟

الشعر عبر تاريخه كان يرمي أقواس التجديد في أراضٍ لم يفتحها بعد. إذ طَفَرَ إلى مستوياتٍ متقدِّمةٍ جدّاً في الرمزية والتجريد، من خلال المجاز والصورة الشعرية، وأصبح  أقدر على الإفصاح والتبيين والتوضيح والإعراب عن المعاني التي يريدها الشاعر، بل أصبح أكثرَ قدرةً على التعبير الفلسفي الوجودي، وأكثر إشراقاً في  استشراف القادم. وربما جعله تكسير الأطُر القديمة ينفذ إلى مساحاتٍ أوسعَ داخل الذات وخارجها. أصبحت الصورة الشعرية والمجاز وغيرهما، بقدْرٍ ما، تثير الدهشة والانبهار، تستفزّ التفكير والتساؤل والاستشراف، وتفتح مغاليق وتضيء مفاوز جديدة في الفكر البشري. وأتاحت هذه الأدوات للشعر القدرةَ على نحت الفلسفة كتفكيرٍ مُنْطَلِقٍ لا حدود له، من خلال نحت الصورة الشعرية. 

ازداد تدفّق الصورة الشعرية -كطاقةٍ متجدِّدةٍ لا تنضب- في عروق جميع الفنون الجميلة المعاصرة، والعلوم الحقّة والمجردة والإنسانية.

التساؤل هو: لماذا تقدّم الشعر في فتوحاته المجازية والشعرية، وتراجع المتلقي حتى عن فهم أبسط تشبيه؟!

إذا كان الشعر، قولاً وكتابةً، هو الرفيق الأبدي للإنسان، فإنَّ الشاعر كان يتفنّن في هذه الأساليب لجعل المتلقي قادراً على استيعاب المشاعر والأفكار والتصورات، وكلما كان متمكناً من هذه الأساليب كان أكثر قوةً وتأثيراً وحضوراً. 

ولما كان الشعر فناً سائداً، فإنَّ المتلقي لعب دور الشاعر والناقد والمستمتع في هذا الإبداع. ومن أجل تحقيق أكبرِ قدْرٍ من المتعة والتدبّر، كان لا بُدّ له أن يحوز القدرة على تفكيك شيفرة هذا الشعر، وهي نفسها الأدوات والأساليب التي يستخدمها الشاعر، لتصير أدوات مشتركة للعملية الشعرية، إبداعاً وتلقّياً. لذا اكتسب الناس القدرة على فهم البيان والبلاغة، فصار ذلك خصلة حميدة ورفيعة ومرغوبة، مقابل التسطيح والبلادة كصفة مذمومة، يوصَمُ بها كل من ليست له القدرة على فهم التلميح والإشارة والمجاز.

بل صار الملوك والسلاطين والحكام يُدنون الشعراء منهم، لإضفاء الشرعية، بل إنهم بشكلٍ ضمنيٍّ يرغبون في الخلود من خلال ذكرهم بين ثنايا المجاز، لعلهم يبقون إلى الأبد في صورةٍ شعريةٍ رفيعةٍ. وكأنَّ إكسير الحياة الذي هلك الخيميائيون من دون أن يتوصّلوا إليه، أخذ شكل قصائدَ شعرية. 

وهكذا أصبحت هذا الأساليب حاضرةً بشكلٍ يوميٍّ في خطاب الناس.

يمكن القول أيضاً إنَّ الشعر كان ضمن حياة الناس، كان بينهم، ويعبّر عن أغراضهم المباشرة، العاطفية والاجتماعية والسياسية، ضمن ما يسمّى "أغراض الشعر السائدة". كان لهذا الاتصال وجهٌ إيجابيٌّ في تهذيب ذائقة المتلقّي،  لكنَّه كان يشدّ المجاز والصورة الشعرية إلى الوراء. إذ إنَّ الشعر كان يخدم هذه الأغراض، ويحاول تحريرَ هامشٍ خاصٍّ لنفسه، ليصطدم مع هذا السائد، لكنَّه أخيراً لم يعد خادماً لهذه الأغراض، بل أصبح يتناولها بقدر ما تخدم أهدافه الشعرية، حتى لو تصادم معها. 

إلا أنَّ التطور التقني المعاصر -ابن المجاز-  ألقى بظلاله على مجال الفنون كلها، كما هو حال الحياة اليومية للبشر. 

تصدّرت الفنون البصرية المشهد، ولم يعد المتلقي محتاجاً إلى صورةٍ من كلمات، لأنَّ وميض الصورة المباشرة والسريعة والسهلة يفي بالغرض. 

المشهد السينمائي قادرٌ فعلاً على تحويل هذه الصورة الشعرية إلى أضواء متحركة ومشهدية، لكنَّ السطر الشعري يترك ظلالاً رحبةً وخصبةً للخيال، وكأنّه حين يُصوّر مشاهده يبذر في الذهن القدرة على التلقي الفعّال المبدع. وربما جاءت من هنا نصيحة أحد الشعراء القدامى، حيث قال إنَّ من أراد أن يصبح شاعراً يلزمه حفظ ألفِ بيتٍ من الشعر ثم نسيانه، لتترسّخ في ذهنه الصور الشعرية والمجازات. 

يقوم الفنان التشكيلي أيضاً بإضفاء اللون والشكل والأبعاد على الصورة الشعرية في اللوحة.  الشاعر قد يبدع ذلك كله في سطرٍ مجازيٍّ واحدٍ، إذ تجد في نصٍّ شعريٍّ فريدٍ معرضاً من اللوحات التشكيلية، لكنّها مجانية ولم تُثمّن بأرقامَ خيالية، لأنّها هي الخيال الصافي. 

هنا يجب التنبيه إلى أنَّ القول إن الشعر المعاصر أخذ من السينما المشهدية، ومن التشكيل الصورة والأبعاد، غيرُ دقيقٍ، لأنَّ الشعر عبر تاريخه القديم كان زاخراً بالمشهدية والدراما، التي تصور الطبيعة والملاحم والبطولات، ومليئاً بالأبعاد التشكيلية، التي جعلت من اللون والضوء والأشياء جزءاً من مشاعر وتصورات وعواطف الشاعر. كان البيان إخراجه، والكلمات ريشته.

لعلَّ الصورة أقرب إلى المتلقي من اللغة. 

وكأنَّ التلقي البصري يتيح مسافةً بين الاستمتاع والتفكير، في حين أن الشعر هو متعةٌ وسط زوبعةٍ من التفكير.

أصبح الشعر في مجازه العظيم، وصوره اللامتناهية الكاسحة لكلِّ قيدٍ، والفاتحة مجاهل التفكير وأسئلة الوجود الإنساني، مرجِعاً لكلِّ المعارف والفنون الأخرى، ومشعلها الذي لا ينضب زيت خياله، ينير بمعانيه كل طرق تفكيرها وكل مضامينها، ويكسر كل مألوفٍ وعائقٍ، ويجعلها تطرق أرضاً وسماء لم تطرقها من قبل.

الشعر لجميع المعارف مثل الرياضيات للعلوم الحقة. فالرياضيات مجرّدة لكنّها توجد في كلِّ شيءٍ ملموسٍ، وتحلُّ برمزيتها ومعادلاتها كلَّ ما عسر على الفهم والتفكير. إنَّ الجميع يتلذّذ بثمارها، التى تتحقق عبر العلوم الفيزيائية والطبيعية، لكن لا يفهمها الجميع بالضرورة.

لقد وعى الشعر ذاته كمنجمٍ للمجاز والصورة الشعرية والتجريد والرمز. ربما تعالا قليلاً وبالتالي لم يعد جماهيرياً، وذلك لأنّه ارتقى من المباشرة المحدودة إلى الخيال الواسع، وأصبح أكثرَ عمقاً وخصوبةً، لتلعب الفنون والمعارف وسائط تنقل فيض الخيال الشعري إلى الجمهور. 

إلا أنَّ الوسائط المباشرة المتصلة بالمتلقي (إعلام، فنون، تكنولوجيا، مدرسة، علوم، مؤسسات...) إذا قطعت هذا الحبل السري، وجففت منابعها من المجاز، فإنّها حتماً ستصير بليدةً متهالكةً، تعمم البلادة والتفاهة والتسطيح، بل ستكون خطراً داهماً على الوجود البشري والطبيعي.

أين تكمن المعضلة إذن؟

إنَّ المشكلة تبدو كالغولة أم السبع رؤوس. أحد هذه الرؤوس هو النكران، الذي يعانيه الشعر من طرف الفنون الأخرى التي تمتص من معينه. والنكران هنا هو مقدمة للتخلي عن هذا المنبع المتجدد للإنسان. 

أما التقنية كإحدى بنات المجاز، فلا بد لها من أن تعي أنها ليست إلا جزءاً من هذا الكل الإنساني، فالشعر لا يخوض حرباً ضدها كأداةٍ للنهوض الإنساني، بل يصارع بلا هوادةٍ ضد هذا الغرور التقنوي المدمر والزائد، الذي تحوّل من أوانٍ إلى معانٍ.

يصارع الشعر من أجل أن تبقى التقنية وفيةً لأمها المجازية، في مواجهة رأس الغول الآخر الذي هو الجشع، الذي خرب كل جمالٍ نحتته الإنسانية على مر العصور. وها هو يُعيق مسيرة البشرية إلى مملكة الحرية، يناقض الوجود الذي يسكن الشعر، ويعمل على فصل التقنية قسراً عن أمها.

والرأس الثالث الذي يحتاج إلى من يروّضه، يتجلّى في الوسائط التي جعلت من التفاهة والركاكة أفقاً ومنهجاً لها.

مصداقاً لقول الشاعر بشار بن برد: 

          أعمى يقود بصيراً لا أبا لكم                                                               قد ضل من كانت العميان تهديه

لن ترى البشرية حقيقتها الإنسانية، إلا عندما تتحول الثقافة من رديفٍ ثانويٍّ لتبييض الكوارث السياسية،  وتصعيد المصائب الاقتصادية، إلى قائدٍ يحوّل كلَّ التناقضات إلى هدفٍ واحدٍ هو خدمة الإنسانية، وخدمة الوجود بأكمله. وهي حريةٌ بذلك، لأنها ليس ضيفاً مؤقتاً، بل هي كحلزونٍ يحمل داره -الشعر- أينما حلَّ وارتحل.