رحيل مجيد طوبيا.. القاهرة تحزن على كاتب "التاريخ العميق للحمير"

لم يتزوج من حبيبته خوفاً من فقدانها بعدما فقد أمه وعمته، ووصف حياته بأنها كانت "عبارة عن خيبة كبيرة".. تعالوا نتعرف إلى الأديب الراحل مجيد طوبيا.

غيّب الموت، صباح الخميس 7 نيسان/أبريل 2022، الأديب المصري مجيد طوبيا، بعد صراع مع المرض دام لسنوات، وحياة امتدت قرابة 84 عاماً، وصفها صاحبها بأنها كانت "عبارة عن خيبة كبيرة". 

بدأت أزمته الصحية الأخيرة، التي توفي على أثرها، يوم 15 آذار/مارس الماضي. ذهب الكاتب فتحي سليمان إلى شقته في منطقة مصر الجديدة في وسط القاهرة، فوجده ملقى على الفراش، لا ينطق، ومن ثم، اعتقد أنه توفي، لكنه لما اقترب منه وجده حياً، فاستدعى سيارة الإسعاف، وحملوه إلى المستشفى، حيث أدخل إلى غرفة العناية المركزة، بعد تشخيص إصابته بجلطة دماغية.

فتحي سليمان: مجيد طوبيا كان يستحق "جائزة نوبل"

  • فتحي سليمان
    فتحي سليمان

تعارف مجيد طوبيا وفتحي سليمان قبل 25 عاماً. كان الأخير في الأربعين من عمره يعمل فى السياحة في مدينة شرم الشيخ، واعتاد أن يجلس كل ثلاثاء وخميس فى مقهى "أمفتريون"، وهو المقهى الذي بات يرتاده طوبيا بعد تقاعده وتراجع حالته الصحية. شيئاً فشيئاً، تعمقت علاقة طوبيا وسليمان، وبدآ يتلقيان بشكل شبه يومي، وأصبح سليمان رفيقه الوحيد وكاتم أسراره.

في تلك الأثناء، أصيب مجيد طوبيا بمرض الزهايمر، وبدأت ذاكرته تتأكل، ونسي أصدقاءه ومعارفه وأحداثه اليومية، غير أنه احتفظ في ركن بعيد بمواقفه مع الكبار، أمثال نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وأمل دنقل والفنان أحمد زكي. كما لم ينس قطته "سعدية" الوحيدة التي كان يسأل عنه إذا غابت.

كان الوضع الصحي الجديد خطراً على صاحبه، وشدد الأطباء على حاجته إلى المتابعة الطبية، فحمل سليمان على عاتقه هذه المسؤولية، ولا سيما أنه عرف أن مجيد إسحق طوبيا، المولود في 25 آذار/مارس عام 1938، في محافظة المنيا جنوب مصر، لم يتبق من أسرته أحد يرعاه، فكل ما يعرفه عنه أن "والده كان موظفاً كبيراً في بنك (سالفاجو) اليوناني، ومنزلهم كان في ميدان (ابن خصيب) الشهير في محافظة المنيا"، وقد بحث عن أسرته كثيراً، وتمنى لو وجد فرداً منهم، ليصله بمجيد، لكنه لم يوفق في ذلك.

أما عن والدته، فقد كان لفقدها أثر كبير عليه، امتد إلى رفضه طوبيا الزواج من حبيبته الإيطالية كونشيتا، مخافة أن يتجرع مرارة الفقد ثانية، إذا ما تركته هي الأخرى. وقد أحب مجيد تلك الفتاة محبة شديدة، فعاش معها 14 عاماً، وسافرا إلى إيطاليا معاً أكثر من 36 مرة، ومن أسراره أن حكى لفتحي سليمان، أن له منها ابناً، وجده يطرق بابه ذات يوم، ليخبره أنه ابنه من حبيبته القديمة.

كان لفقدان طوبيا لوالدته أثر كبير فيه امتد إلى رفضه الزواج من حبيبته الإيطالية كونشيتا، مخافة أن يتجرع مرارة الفقد ثانية إذا ما تركته هي أيضاً.

ولما لم يجد الشاب ترحيباً من "والده" طوبيا اختفى. كذلك ابتعد مجيد عن أسرته، حتى انقطعت أواصر المودة بينهم، إلا عمته التي تعلق بها، حتى توفيت هي الأخرى بعد رحيل أمه. يروي سليمان أن طوبيا ارتبط بيمامة تأتيه إلى شقته، لاعتقاده أنها تشبه عمته الراحلة،  أو حسب قوله: "دائماً ما تأتي لتطمئن عليّ وتسامرني، حتى تأتي أنت وتفتح الباب فتطير عمتي".

أسباب كثيرة دفعت فتحي سليمان إلى أن يكون بمنزلة الابن بالنسبة إلى طوبيا، أولها أن بيته يقع على بُعد محطتين فقط من بيت طوبيا، وهو الأمر الذي سهّل مروره اليومي على شقته، حيث يرعى أموره ويرتب بيته، بل ويحممه ويغير له ثيابه.

وكذلك معرفة سليمان بقيمة طوبيا الإبداعية، كواحد من جيل الرواد في الرواية المصرية، وأحد أهم كتّاب القصة القصيرة. كما أنه، وهو الحاصل على درجة بكالوريوس في الرياضة والتربية من كلية المعلمين في القاهرة عام 1960، ودبلوم معهد السيناريو عام 1970، ودبلوم الدراسات العليا بالإخراج السينمائي من معهد السينما بالقاهرة عام 1972، كان له إسهام سينمائي مؤثر، رغم اقتصاره على 3 أفلام أهمها "أبناء الصمت" بطولة الفنان الراحل أحمد زكي، الذي جمعته به صداقة وطيدة.

أسباب كثيرة دفعت فتحي سليمان إلى أن يكون بمثابة الابن بالنسبة لطوبيا، كما كان يرعى أموره ويرتب بيته، بل ويحممه ويغيّر له ثيابه.

ونال طوبيا عن منجزه عدداً من الجوائز والتكريمات، أهمها: وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1979، وجائزة الدولة التشجيعية في الآداب من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية في العام نفسه، إضافة إلى جائزة الدولة التقديرية للآداب في العام 2014. كما أن فتحي سليمان يؤكد في تصريحاته لـ "الميادين الثقافية" أن طوبيا كان يستحق نيل "جائزة نوبل للأدب"، لأنه "لا يقل عظمة عن نجيب محفوظ". 

الوسط الثقافي المصري ينعى مجيد طوبيا: عوالمه متعددة وقضاياه متباينة 

  • حسين حمودة
    حسين حمودة

كان لموت مجيد طوبيا وقع مؤلم على الوسط الثقافي المصري، فقد تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى سرادق عزاء إلكترونية، إذ نعاه الكثير من الكتّاب عبر صفحاتهم، ومن بينهم أشرف العشماوي، الذي أكد أن الراحل "واحد من الكبار الذين تعلمت منهم فن الرواية وروعة القص"، مشيراً إلى استمتاعه بقراءة معظم أعماله. أما الكاتب والسيناريست عبد الرحيم كمال، فرأى أن طوبيا كان "موهبة مصرية خالصة متفردة".

في تصريحاته لـ "الميادين الثقافية"، يعيد الناقد حسين حمودة، أستاذ الأدب العربي الحديث في جامعة القاهرة، أسباب تأثر الكثيرين بوفاة مجيد طوبيا، لكونه أحد كتاب الستينيات المتميزين الذين جمعت بينهم روح المغامرة في كتابة القصة والرواية، وإن تحققت هذه المغامرة عند كل واحد منهم بطريقة خاصة.

تميزت أعمال طوبيا بتعدد عوالمها وتباين قضاياها وطرائق كتابتها، ما جعل كل عمل منها يمضي، تقريباً، في وجهة جديدة، لكنها قادرة على الوصول إلى عموم القراء.

ويؤكد تنوع إنتاج طوبيا وثراءه أنه قدم خلال مسيرته عدداً كبيراً من الأعمال المهمة، مضيفاً: "في القصة القصيرة، أصدر عدداً من المجموعات، منها "خمس جرائد لم تقرأ"، "الوليف"، "الحادثة التي جرت". وفي الرواية، أصدر عدداً من الروايات، من بينها "دوائر عدم الإمكان"، "الهؤلاء"، "أبناء الصمت"، حنان"، "ريم تصبغ شعرها"، "تغريبة بني حتوت".

وأشار إلى أن "ما ميّز هذه الأعمال هو عوالمها المتعددة، وتباين القضايا التي طرحتها، وطرائق كتابتها المختلفة، ما جعل كلاً عمل منها يمضي، تقريباً، في وجهة جديدة.. على الرغم من أنها جميعاً تستند إلى اهتمام واحد بالانطلاق من لغة "توصيلية" بسيطة قادرة على الوصول إلى عموم القراء".

أحمد مجدي همام: مجيد طوبيا لم ينل ما يستحقه

  • أحمد مجدي همام
    أحمد مجدي همام

رغم مكانة طوبيا وثرائه الإبداعي، فإنّ الروائي أحمد مجدي همام، يرى أن مجيد طوبيا لم ينل في حياته ما يستحقه من حفاوة وتقدير، مضيفاً: "اليوم، غادر دنيانا، ولا يجب أن يكون ذلك الانسحاب صامتاً أيضاً، لأن الأستاذ طوبيا روائي فذ وكبير، وكتب روايات وقصصاً تنتمي إلى مدارس مختلفة. فعل ذلك بكل كفاءة وبقدرة هائلة على الإدهاش".

وتابع: "غصنا بين رائعته الأشهر "تغريبة بني حتحوت" إلى بلاد الشمال، وإلى بلاد الجنوب، تلك الملحمة الرائعة التي قرأناها صغاراً وعرفنا منها كيف تُكتب الروايات ذات النفس الطويل والأجيال المتعاقبة، وروايته الرمزية الفذة "غرفة المصادفة الأرضية" التي يبحث فيها الجميع عن "مهجة" التي تمثل القيمة المعنوية في جيل السبعينيات، الذي اتسم بقدر من الاستهلاكية والمادية في عصر الانفتاح الساداتي.. لقد كانت "غرفة المصادفة الأرضية" نقداً وهجاءً فنياً مهذباً لتلك الحقبة".

 كانت رواية "غرفة المصادفة الأرضية" نقداً وهجاءً فنياً مهذباً لحقبة الانفتاح الساداتي.

وتطرق همام إلى منجز طوبيا القصصي، مؤكداً أن الراحل قدم قصصاً قصيرة فذة، والتي "اشتغل في بداياتها مع إصدار "خمس جرائد لم تقرأ" على تيار الوعي والتداعي الحر، ثم راح يحفر عميقاً في النفس البشرية والشخصية المصرية، ويلتقط ومضات إنسانية وهاجة ينسج على أساسها سرده الذكي ويطرح لمحاته المضيئة، لينتج في منقضى الأمر قصصاً مميزة وشديدة العذوبة".

لم يفت همام أن يشير إلى ما عاناه مجيد طوبيا في سنوات عمره الأخيرة من المرض وتدهور صحته، بحيث لم يعد قادراً على مغادرة منزله، مستطرداً: "لا شك في أن كثيرين منا قصروا في حقه وفي التواصل معه، وبقي الأستاذ الروائي فتحي سليمان هو همزة الوصل بينه وبين العالم. وعن طريقه عرفنا، بخبر رحيل الأستاذ مجيد طوبيا الذي، وإن كان لم ينل ما يستحقه من أضواء، إلا أن كتبه ضمنت له خلود اسمه في هذه الدنيا إلى الأبد".