في حضرة الموسيقى!

اللحظات الحرجة والأزمنة الصعبة تضاعف حاجتنا إلى الفن والموسيقى بوصفهما مطهّراً من أدرانٍ كثيرة، خطيرة ومميتة، لأن الروح التي لا تنتشي بالموسيقى ولا تسمو، هي روح سقيمة، إن لم نقل ميتة.

"الفنّ ينفض الغبار عن الحياة اليومية"، بيكاسو.

البارحة حلّقنا على أجنحة الموسيقى.

في دير الزيارة، في عينطورة وسط كسروان، تحت قمر أيلول/سبتمبر، ليلة موسيقية غنائية أقامها معهد فيلوكاليا برئاسة الأخت مارانا سعد، مسك ختام ورشة عمل لمجموعة من عازفي العود ومحبّي الغناء الشرق/عربي نساءً ورجالاً، تحت إشراف الفنانَين كارلا رميا وشربل روحانا. متعة الإصغاء إلى الأنغام الساحرة والأصوات الجميلة لا تضاهيها متعة، وهي ليست متعة الحواس فحسب، بل أيضاً، وربما أولاً، متعة الروح التي تسمو بالموسيقى وترتقي.

وهل هذا وقت الموسيقى والغناء؟ 

حروب وويلات، كوارث طبيعية ومآسٍ تفطر القلوب، أزمات معيشية واقتصادية خانقة على مدار كوكب أتعبه بنوه، وحوّلوه من فردوس أرضي إلى ساحة نزاعات، وصراعات لا تنتهي بفعل جشع الإنسان وسعيه الدائم إلى السيطرة والطغيان.

بلى، الوقت مناسب، ولأن واقع الحال على هذا النحو، يصير مناسباً أكثر.

حين تشتد وطأة العيش ويُحشر الكائن البشري في ذاك الممر الضيق الفاصل بين عصرين ومرحلتين ونظامين عالميين، واحد يأفل وآخر يتشكّل، تغدو الحياة أشبه بمخاض عسير، وهو للأسف مثل كل مخاض، لا بدّ له من دماء وآلام، وأكثر مَن يبذل الدماء ويشعر بالآلام هي الشعوب المغلوبة، والناس الذين لا ناقة لهم ولا جمل في رسم مصائر البلدان والأوطان.

ولادة العوالم الجديدة تستلزم أوقاتاً طويلة، تمتد أحياناً على مدى عمر أو عمرين. فالنظام العالمي لا يتشكّل بسهولة، والتوازنات المستجدّة تلزمها عقود مديدة حتى ترسو على صيغة تستقرّ معها لفترة من الزمن حتى تعود إلى سيرتها الأولى، وتدخل مخاضاً عسيراً آخر. هذه سنّة الحياة، وهذا ما يعلّمنا إياه التاريخ، التاريخ نفسه الذي يكتبه المنتصرون يُدفن بين سطوره ملايين الضحايا الذين لا يأتي على ذكرهم أحد.

الحياة صراع دائم على جبهات كثيرة، صراع الأفراد والجماعات، لكلٍّ حربه ونتائجها. من أشكال الصراع بحث الفرد عن منافذ السكينة والخلاص، الموسيقى واحدة من تلك المنافذ. نعم، هي كذلك. فالموسيقى بحسب أرسطو "أسمى من أن تكون مجرد أداة لهو ومجون، هي تطهير للنفوس وراحة للقلوب"، وبالنسبة لبيتهوفن الموسيقى "وَحْيٌ يعلو على كل الحِكم والفلسفات"، وهي وسيلة للتواصل مع الوجود بعناصره كافة، ومع ما وراء الوجود لأنها تحلّق بنا في فضاءات غير مرئية، وتكشف لنا أماكن غائرة في النفس البشرية. 

من هنا نفهم أن اللحظات الحرجة والأزمنة الصعبة تضاعف حاجتنا إلى الفن والموسيقى بوصفهما مطهّراً من أدرانٍ كثيرة، خطيرة ومميتة، لأن الروح التي لا تنتشي بالموسيقى ولا تسمو، هي روح سقيمة، إن لم نقل ميتة.

إلى كل ذلك، الموسيقى مقاومة. كلّ الشعوب التي تعرّضت للاحتلال والاضطهاد كانت موسيقاها شكلاً من أشكال المقاومة ورفضاً للظلم والتمييز، ولنا أمثلة كثيرة من جنوب أفريقيا إلى فلسطين وما بينهما، (وهنا يكمن سر الموسيقى من حيث أنها لغة كونية، وفي الوقت نفسه يمكنها أن تكون شديدة الخصوصية والمحلية ومكوّناً من مكوّنات الهوية)، مثلما هي مقاومة للتردّي والابتذال والتقوقع والانعزال. 

ويمكن لأي باحث مراجعة الدراسات العلمية التي تؤكد دور الموسيقى في العلاج النفسي، وفي تنمية المهارات وتحفيز الذات، فضلاً عن استخدامها الإيجابي في أمور كثيرة من المسرح والسينما إلى الرياضة والزراعة وبقية شؤون الحياة.

تلك الليلة، تحت قمر أيلول، في خريف الفصول والبلاد، وفي زمن التشظّي والعصبيات، التقى موسيقيون من لبنان وفلسطين والأردن ومصر والجزائر والكويت واليابان ومن مختلف المذاهب والأديان كي يتحاوروا بواسطة النوتات والأوتار والنغمات، وكي يقولوا إن الفن يجمع ما تفرّقه السياسة والمصالح الضيّقة والأيديولوجيات. 

إذ كلما اتسعت مساحات الموسيقى كلما ضاقت مساحات التعصّب والتطرّف والانغلاق، وكلما اجتمعنا تحت سقف الفنّ الراقي كلما ردمنا المزيد من الفجوات الفاصلة بين البشر، ورفعنا مزيداً من جسور التواصل والتلاقي. 

الموسيقى ليست فقط صلة وصل بين الناس من مختلف الأجناس، بل أيضاً هي صلة وصل بين الأرض والسماء.