محمد فوزي يروي "الإعداد لمعركة التحرير" في 1973

يروي فوزي كيف استطاع عبد الناصر إقناع السوفيات بإرسال صفقة أسلحة ضخمة ضمنها 32 كتيبة صواريخ سام بكل أجهزتها وخبرائها، و120 طيار سوفياتي درجة أولى.

  • محمد فوزي يروي
    محمد فوزي يروي "الإعداد لمعركة التحرير" في 1973

يروي القائد العام للجيش المصري ووزير الحربية الأسبق الفريق أول محمد فوزي في كتابه "الإعداد لمعركة التحرير" (1967 – 1970)، أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر  اتصل به  في 11 حزيران/ يونيو 1967، في الساعة الواحدة بعد الظهر، وقال له ما نصه: "هل تتحمل يا فوزي مسؤولية قيادة القوات المسلحة في الوقت الحاضر؟"، فأجابه: نعم. فقال عبد الناصر: "سأعلن هذا القرار في الساعة الثانية والنصف في إذاعة القاهرة، وعليك أن تؤمن البلد والقوات المسلحة، حتى ألتقي بك مرة أخرى في السابعة مساء. وفعلاً صدر القرار وعينت قائداً عاماً للقوات المسلحة. وذهبت إلى عبد الناصر في الساعة السابعة مساء حيث أعطاني التوجيهات السياسية والعسكرية الذي ينحصر في كلمتين: عليك أن تبني القوات المسلحة مرة أخرى على أسس علمية بهدف استرجاع الأرض المغتصبة سنة 1967. وهي سيناء والجولان والقدس والضفة الغربية وغزة".

فأجابه قائلاً: العدو لن يتركني أفعل ذلك يا ريس. فرد عبد الناصر: "نعم، هذا تقدير سليم، فالعدو لن يتركك، لذلك نأتي إلى الواجب الثاني المطالب به، وهو مواجهة العدو أثناء بناء القوات المسلحة. فأصبح هناك واجبان، ثم أضاف لهما شرطين، وهو تحديد المدة الزمنية لإنجاز عملية البناء، وكانت محددة بثلاث سنوات أو ثلاث سنوات ونصف على الأكثر.

إقرأ: رؤية جمال حمدان لاستراتيجية التحرّر من الإستعمار

وقال لي أيضاً: "عليك أن تدرب الجيش، وترفع كفاءته واستعداده بالطريقة التي تريدها، أما التسليح، فأنا الذي سآتي به من الاتحاد السوفياتي" والظرف كان لصالحنا، فحنفية الاتحاد السوفياتي كانت مفتوحة على آخرها، وبالتالي تجاوزنا أهّم عقبة وهي مسألة توفير السلاح."، بتابع فوزي.

يقول الفريق فوزي: "بدأت بإخراج القادة المنسوبة إليهم الهزيمة، وعدد كبير منهم كان بدرجة فريق. ثم قمت بتعيين زملاء لي أثق بهم، فعينت واحداً في المنطقة الشرقية وآخر في المنطقة الشمالية، وآخر في المنطقة المركزية، وفي المقاطعات المختلفة في أغراض التأمين المؤقت".

  • الشهيد عبد المنعم رياض
    الشهيد عبد المنعم رياض

إستشهاد الفريق عبد المنعم رياض

ويكشف فوزي أن قائد أركان الجيش المصري الشهيد الفريق عبد المنعم رياض كان أول واحد تناقشت مع عبد الناصر لتعيينه في القيادة في يوم 11 حزيران/ يونيو 1967، في السابعة مساءً. وقد طرحت اسمه من دون تفكير. فنظر لي الرئيس باندهاش، وقال: "إزاي تنطق بسرعة؟". فقلت: "أنا فكرت فيه قبل أن آتي إلى هنا وأنت تعرف أنه من العباسية مثلي، وأننا خريجا سلاح واحد، دفاع جوي، وأبوه ضابط وكمان أبوي … فردد عبد الناصر بابتسام: "الله …الله …". وقصد بها مؤامرة ضده، طبعا بمزاح، فعلقت بسرعة: "ماتفهمهاش كده يا ريّس، إفهمها من محمد فوزي بس".

يذكر فوزي أن استشهاد رياض في شمال الإسماعلية حيث كان يتفقد الخندق للموقع في النسق الأول للجيش الثاني الميداني، وجنازته التي تحولت إلى ملحمة وطنية كان على رأسها الرئيس عبد الناصر، شكلا من اليوم التالي قوة دافعة لكل الوحدات القتالية ونشرها على الجبهة لتصعيد عملياتها.

وكان إنتقام مدفعية الجيش المصري لإستشهاد الفريق رياض سريعاً، حيث نجحت في قصف وقتل مجموعة قيادة العميد الصهيوني "إشعياهو" وهو يتفقد قواته على الجانب الآخر للقناة حيث وقع معه 35 قتيلاً إسرائيلياً و300 جريح، بالإضافة إلى تدمير تسع دبابات إسرائيلية،وعربتي جيب وعربة صواريخ. وقد شكلت هذه العملية عاملاً مهماً في رفع معنويات الجنود.

يلفت الفريق أول فوزي نظر القارئ إلى أنه قبل يوم 11 حزيران/ يونيو 1967، "كانت مصر من دون قيادة سياسية ولا من دون قيادة عسكرية. فالشعب محتار، أين هو؟ لقد كان في فراغ وهو ما سماته في كتبه بالفراغ في القيادة السياسية والعسكرية. إذن الشعب، هو الذي كان يمسك البلاد يوم 9 و 10 حزيران/ يونيو. عبد الحكيم عامر كان قد أعلن استقالته .. وهذه المرحلة اعتبرها تغطية الإحراج السياسي والعسكري بالنسبة للحكم". 

وعن معرفته بالرئيس عبد الناصر يقول فوزي: معرفتنا ببعض كانت سابقة وقديمة وهو الذي عينني في السابق رئيس أركان حرب القوات المسلحة من دون رغبة المشير عامر والقادة الآخرين.

ويؤكد  فوزي أن عبد الناصر نجح في إيهام الاتحاد السوفياتي بأنه شريك في الهزيمة. وقال له ما معناه أنت كنت موجوداً معنا، فكيف تسمح بحصول الهزيمة، إذن أنت شريك لنا فيما حصل، فعليك بالتعويض، تعويض السلاح الذي فقدناه وأحسن،فقال له الروس: أسلحتنا حديثة.

فأجابهم عبد الناصر: وما الأمر في ذلك، تعطونا خبراء من الجيش السوفياتي العامل، لا من الجيش الاحتياطي حتى يساهموا في تأهيل جنودنا على استخدام السلاح الحديث ومن هنا أصبح السلاح والخبراء متوفرين.

وقد ساهم سفر الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين والرئيس العراقي الراحل عبد الرحمن عارف إلى موسكو في تحفيز الاتحاد السوفياتي للاستجابة لطلبات دول المواجهة. وقد كان قرار القمة العربية في الخرطوم، والتعديلات التي أدارها  عبد الناصر في المؤسسات والدولة والجيش دافعاً لشعور الجانب السوفياتي بوجود تغيير جذري في أساليب العمل الأكثر أهمية. وقد ساعدت اللقاءات الخمس التي عقدت بين البلدين في الفترة من 1967 إلى 1970 على توفير دفعات منتظمة للتعاون العربي – السوفياتي في المجال العسكري.

ويبين فوزي أن تعويض الخسائر جاء سريعاً عقب المعركة مباشرة. بدأ الجسر الجوي والبحري منذ يوم 9 حزيران / يونيو 1967 بـ550 رحلة جوية، 150 باخرة لنقل المعدات البحرية لمصر، شملت في الأسبوع الأول بعد المعركة 93 طائرة ميغ 17 و25 طائرة ميغ 21.

قصة صواريخ سام 3 

يروي فوزي أنه في كانون الثاني/ يناير 1970، قدم للرئيس عبد الناصر تقدير موقف عن حالة القوات الجوية والدفاع الجوي وأوضح أن حالتيهما لا تمكناه من الوفاء بالأهداف التي وضعها له في 11 حزيران/ يونيو  1967، وكان لديهم نقص في الطيارين. 

ولقد سجل له عبد الناصر أمانته في نقل الحقيقة، حيث لم يخدعه. فسأله: "طيب ماذا نفعل؟".فقال له فوزي: "مباشرة نحو موسكو".وبقنا يخططان طوال الليل، حتى أنجزا قائمة احتياجات مصر، وهي تتكون من السلاح والضباط والخبراء الروس، وهو ما اعتبره فوزي قمة المساعدة.

  • الرئيس عبد الناصر
    الرئيس عبد الناصر

عبد الناصر يهدد السوفيات بترك الحكم

يحكي الفريق فوزي قصة جميلة حول إحدى لقاءات  عبد الناصر في موسكو، ففي هذه الزيارة أبدى استياءه الشديد من معدل الإمدادات العسكرية السوفياتية وعدم تناسبها مع المعركة وهدد بترك الحكم لزميل له، يمكنه التفاهم مع الولايات المتحدة الأميركية. وبعد جدل طويل، قالوا له: "يا سيادة الرئيس، هذه ليست من سلطاتنا، وإنما سلطة المجلس الأعلى للدفاع". فأجابهم عبد الناصر: "وما الأمر في ذلك. هاتولي المجلس الأعلى". فقالوا له: هؤلاء يبلغ عددهم 1517، ومنتشرون في كل أنحاء الاتحاد السوفياتي، فقال لهم: "ومالوا، بريجينيف يأتي بهم"، وفعلاً أعطونا مهلة 48 ساعة وبقينا نحن في الاستراحة بموسكو.

ولم ينم الرئيس السوفياتي ليونيد بريجنييف تلك الليلة، من هليكوبتر إلى مكتبه، ومن إتصال إلى إتصال، وجاء في الليل بسيارته خلسة إلى الاستراحة، ومن دون حرس، ودخل مباشرة إلى غرفة نوم الرئيس، وقال له: "لا تؤاخذني على إزعاجك في هذا الوقت، لأني سعيد جداً بأني لبيت مطالبكم وقمت بالواجب". وفي اليوم التالي وقفوا في الكرملين، ووقف بريجينيف، يتلو لائحة "بقرار من مجلس السوفيات الأعلى تقرر.. كذا، كذا..".

يتابع فوزي: عدنا إلى مصر بصفقة أسلحة ضخمة من ضمنها 32 كتيبة صواريخ سام بكل أجهزتها مع ما يلزم من خبراء، بالإضافة إلى 120 طيار سوفياتي درجة أولى مكونة قوة دفاع جوي، واستقبلتهم سراً في الإسكندرية، وأوصلتهم إلى مواقعهم، ويومها كنت أريد 110 مليون جنيه، طوارئ، وقام الرئيس بجلسة سرية في مجلس الأمة، ووفر لي هذا المبلغ. وباتفاق في الكرملين، كنت أخذت من الرئيس فرصة 40 يوماً حتى أتمم الإستعدادات على الأرض لهذه القوة، حتى لما يأتي الخبراء والكتائب من هناك يجدون مواقعهم ومهماتهم جاهزة وقد ضبطوا التوقيت حتى يصلوا إلى هنا قبل الأربعين يوماً بخمسة أيام. وفي يوم 39 في الليل، لم استخدم الهاتف، وإنما أخذت سيارتي حتى منشية البكري، ودخلت على الرئيس بعد أداء التحية وقلت له "تمام يا أفندم، النهار ده يوم 39، أنا جاهز".

  • محمد فوزي إلى جانب الرئيس عبد الناصر
    محمد فوزي إلى جانب الرئيس عبد الناصر

السوفيات يقدمون لمصر السلاح مجاناً

يكشف فوزي في كتابه" بأنه برغم من أن مصر قامت بجدولة ديونها مع الاتحاد السوفياتي، فإن مصر لم تدفع أي قسط من أقساط هذه الديون حتى ذلك الوقت. والاتحاد السوفياتي في المقابل لم يمسك دفتراً وفواتير ويحسب ثمن الطائرة كذا وثمن المدافع كذا، وعليكم ديون كذا، وفوائدها كذا.. هذا لم يحصل أبداً. لقد جاءنا كل السلاح الذي أردناه أولاً، وبفائدة تقدر بـ 2% ثانياً، وما فيش دفع خالص ثالثاً. وقد تناقل المعنيون بالأمر في مصر إصطلاحاً صدر عني "على النوتة" تدليلاً على عدم دفع أي قيمة مادية لأية صفقة تسليح مع الاتحاد السوفياتي".

ويروي فوزي أنه في اَخر لقاء له مع السوفيات في تموز / يوليو عام 1970 فاتح القادة السوفيات الرئيس عبد الناصر في موسكو عن تأخر مصر في دفع الأقساط، فكان رد عبد الناصر بصراحة: "إحنا ما عندناش فلوس. وأنتم وعدتم قبل ذلك أنكم ستبحثون عن البترول في الصحراء الغربية في مصر فإن وجدتموه فلكم 50 في المائة منه"، وسكت القادة السوفيات عن إثارة الموضوع".

حرب الاستنزاف

يحذرنا فوزي في كتابه "الإعداد لمعركة التحرير" من أن نصدق أن "حرب الاستنزاف"، قد تحددت مسبقاً أو أنهم قالوا "لنعلن حرباً تستنزف إسرائيل، كلا هذا لم يحدث". ويؤكد بأنه لم يعطِ يوماً أمراً ببدء حرب الاستنزاف، أبدا ذلك لم يحدث.

ويسأل فوزي هل تريدون معرفة من بدأها؟ يجيب: الجندي، نتيجة رغبته في الثأر لأنه يشعر بأنه "أتخم" في الهزيمة. ويعطي مثالاً على ذلك: تلقيت في منتصف ليل 11 - 12 حزيران/ يونيو 1967 بلاغاً من قائد القطاع الجنوبي للجبهة أن جندياً مصرياً شاهد عدداً من الجنود الإسرائيلين يستحمون في مياه القنال، فاستاء لهذا المنظر وأطلق النار عليهم فقتل جندياً إسرائيلياً وجرح اَخرين، ورد العدو بالمثل. وسأل القائد عن إجراءات محاكمة هذا الجندي. وعندما بلغوني في الليل بأن أحد جنودنا قد اخترق أوامر وقف إطلاق النار وقتل إسرائيليين، وطلبوا مني، ما الذي يجب أن يفعلوه؟ في هذا الوقت فكرت في رد فعل معنوي لدى باقي الجنود وهم يشعرون بمحاكمة جندي زميل لهم قتل جندياً إسرائيلياً وشعرت في قرارة نفسي أنني مشدود عاطفياً إلى الوقوف مع هذا الجندي، تحفيزاً لروح الثأر التي لحقت بجميع العائدين من سيناء في هذا الوقت بالذات.

إعادة الإعتبار لشخصية المقاتل المصري

وأصدرت قراراً للقائد المحلي بعدم محاكمة الجندي وقلت لهم رقوه إلى أعلى رتبة وكل من يقتل ويخترق وقف إطلاق النار أعطوه ترقية، وأن يطلب له ميدالية يضعها على صدره تحفيزاً له وتشجيعاً لزملائه الاَخرين، وكانت توجهاتي أن يمنح هذا الجندي إجازة ميدانية ليزور أهله.  فقد كان لتواجده بين أهله مفتخراً بالميدالية الممنوحة له كأول جندي قتل إسرائيلياً على الجبهة أكبر الأثر في رفع الروح المعنوية بين أوساط الشعب المصري.

ويستطرد فوزي عن أول جندي أطلق النار على الجنود الإسرائيليين بقوله: أوّل من نفذ هذه العملية، أعطيته أنا شخصياً النيشان ونزلت صورته في الصحف، وقلت إن من يأخذ إجازة من هؤلاء الأبطال يجب أن ينزل إلى الناس بميداليته مع لباسه المدني حتى لما "تشوف أمه النيشان تقول له: "منين ده يا محمدين؟ يقول لها: أنا عبرت القنال، زغرتي "ياما".

تحفيز المقاتل المصري على مهاجمة "إسرائيل"

انتشر خبر القرار العاطفي المتجاوب مع شعور كل الجنود في الجبهة وتحمس الجنود الاَخرون. وقد تكررت الحادثة ثاني يوم، وهذه المرة أطلق النار خمسة من جنودنا. وثالث يوم تكررت هذه الحادثة مرة أخرى، وأطلق النار 10 من جنودنا. وبدا العدو يرد النار على جنودنا، وكانوا يتعمدون النزول للمياه حتى يؤكدون ملكيتهم لها. وهكذا بدأت حرب الاستنزاف، من بندقية، إلى رشاشة إلى مدفع إلى مدفع ثقيل إلى دبابة حتى تدخل الطيران المصري في الحرب في شهر تموز/ يوليو 1969.

يقول فوزي عن هذه الإختراقات الفردية: كنت أشجعها من تحت إلى تحت. وحاولت بعد ذلك، أن أهذب كلمة "الثأر" حتى تصبح (التحرير) بدلاً من الثأر، تمشياً مع حضارتنا العربية الإسلامية. وحاولت أثناء الحرب، تأهيل المقاتل تأهيلاً طبيعياً عملياً تحت النيران، وذلك أفضل بكثير من تدريبه في القاهرة. وأصدرت أوامر أخرى تقول إن كل من يعبر القنال ويلقي قنابله اليدوية أو يستخدم رشاشه ويقتل إسرائيليين يعطى نيشان درجة ثانية، ومكافأة مادية.

أوامر إستثنائية للمقاتل المصري 

كانت أوامري الكتابية تطالب بتهدئة الموقف وعدم الاشتباك مع العدو حتى لا يمسك علينا أحد موقفاً. ولكن القرار الصادر من قلبي جاء تجاوباً مع الشعور العام المسيطر على جميع الجنود المصريين العائدين من سيناء.

نشير إلى أن المؤلف الفريق أول محمد فوزي (1915- 2000) ، صاحب تجربة عسكرية فريدة في التاريخ العسكري المصري. وقد تخرج على يديه الآلاف من ضباط الجيش المصري عندما كان مديراً للكلية الحربية، كما عينه عبد الناصر قائدًا عامًّا للجيش المصري ووزيرًا للحربية، وكلفه بإعادة تنظيم القوات المسلحة وتجهيزها وتدريبها بعد حرب حزيران/ يونيو 1967، فسبب ضغطًا هائلًا وخسائر مستمرة وجسيمة للعدو خلال حرب الاستنزاف (1969-1971)، وأعاد بناء الجيش الذي حقق بعض الإنجازات في عام 1973.