"حافة الهاوية – وثيقة وطن.. الرواية التاريخية لمباحثات حافظ الأسد وهنري كيسنجر" - الحلقة الثالثة

في هذه الحلقة، تتابع الدكتورة بثينة شعبان الحديث عن الزيارات المكوكية لوزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر بين دمشق وتل أبيب للتوصل إلى اتفاق فصل القوات، وصولاً إلى زيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون للعاصمة السورية عام 1974.

دبابات سورية في هضبة الجولان المحتلة خلال حرب 1973

امتدت الرحلة المكوكية لوزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر فترة طويلة تخللتها العديد من الأحداث، بينها إرسال حكمت الشهابي رئيس الاستخبارات العسكرية السورية إلى واشنطن والقلق الذي انتاب الإسرائيليون والسوفييت من رؤية ضابط سوري رفيع في زيارة للعاصمة الأميركية، استياء سوفييتي من المقاربة الأميركية أحادية الجانب لعملية السلام في الشرق الأوسط، استقالة غولدا مائير ودخول إسرئيل في معركة تشكيل الحكومة، وهو الأمر الذي استغله كيسنجر كورقة تفاوضية في دمشق لتبرير التعنت الإسرائيلي لقبول مبادرته للسلام. وعد الأسد كيسنجر بأن يأتي الشهابي بمزاج راغب في التعاون، وهذا ما حصل فعلاً، حيث بدا الشهابي هادئاً ومرناً ومبتسماً. وأعاد كيسنجر شرح العرض الذي قدمه وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه دايان، مذكراً الشهابي بالخلافات الحالية في إسرائيل، والضغوط التي يمارسها اللوبي اليهودي في واشنطن. ثم قام الشهابي بشرح الموقف الرسمي السوري، مضيفاً أن بلاده مستعدة لقبول منطقة عازلة تديرها الأمم المتحدة على طرفي الخط الفاصل، ومناطق محدودة السلاح متساوية في المساحة على كلا طرفي خط الفصل، مع بقاء حدود التخفيف مفتوحة للتفاوض. وبناءً على هذا الموقف السوري رد كيسنجر برسالة أرسلها مع الشهابي إلى الرئيس الأسد قال فيها: "إن مبادئ اتفاق محتمل قد بدأت بالتبلور". وأخيراً اتفقت سوريا وإسرائيل على فصل قواتهما، ولم يبقَ على كيسنجر إلا أن يحرك خط الفصل إلى ما وراء خط السادس من تشرين الأول – أكتوبر 1973، الأمر الذي يزعج الإسرائيليين كثيراً.

 

طريق المفاوضات الطويل

كان على السوريين انتظار تشكيل حكومة جديدة في إسرائيل، وفعلاً أتى اسحاق رابين بسياسيين شبان لا يشاطرون من سبقهم المخاوف الأمنية ذاتها. وُلد فريق جديد في الشرق الأوسط وأعضاؤه أكثر استرخاءً بالتعامل مع محيطهم العربي من غولدا مائير وجيلها من اليهود الأوروبيين، تقول الكاتبة. كان كيسنجر قد التقى ثلث أعضاء وزارة مائير، وهم أولئك الذين وصفهم بالجزء "الذكي" من الوزارة. حينها ابتسم الأسد وأجاب "هذا يعني أن ثلثي أعضاء الوزارة أغبياء، إذن لا عجب أن يكون الطريق إلى بلوغ السلام معهم صعباً جداً".

في هذا الجزء من الحوار بين الأسد وكيسنجر، تذكر الكاتبة تفاصيل تشعرك بالحالة النفسية للمحاورين وتأخذك إلى قصر الروضة الرئاسي الذي وصفته بشكل دقيق في أجزاء الكتاب، مع انقطاع مفاجئ للتيار الكهربائي وما تلاه من تعليقات أثناء الحوار، حتى أنها ترسم صورة لوجه الرئيس الأسد وتوصف جلسته وغضبه أو تبسمه في حالات معينة هو وضيفه الأميركي. هذه التفاصيل تُشعر القارئ كما لو أنه موجود معهم في ذات الجلسة، خاصة في الجزء الذي عرض فيه كيسنجر خريطة جاء بها من إسرائيل، وقال للأسد: "أخشى إن رأيتم ما عرضه الإسرائيليون، أن تقوموا الليلة بإطلاق ثمانية آلاف طلقة على مواقع إسرائيلية بدلاً من أربعة آلاف". حينها تقول الكاتبة، ضحك الأسد والتفت إلى كيسنجر قائلاً: "من الآن فصاعداً، أنا لن أقبل بمترٍ واحدٍ أقل من الخط الذي قمت بتحديده، ولا أوجه هذه الكلمات لك، بل هي رأيي بكل صراحة، لن أقبل بمتر واحد دون الخط الذي حددته، ولن نسمح للإسرائيليين بالاستمرار بالاستهانة بنا على هذا النحو، ويبدو أننا اخطأنا فهمهم مرة أخرى، الحقيقة هي أنهم قوة عدوانية توسعية في المنطقة وهذه طبيعتهم، ويرفضون تعلّم دروسٍ يستفيدون منها، وفي رأيي ليس هذا غريباً عليك دكتور كيسنجر، وأنا أخبرتك بذلك في أول لقاء بيننا حين قلت لك: إننا لن نتنازل عن حقنا في بوصة واحدة من أرضنا ولو وجب علينا أن نخوض 200 حرب".

 

عرض القنيطرة

إن حالة التوتر التي عاشها كيسنجر وهو يتنقل بين القاهرة ودمشق وتل أبيب، محاولاً صنع جديد في محادثاته، وتمكن من انتزاع عرض إسرائيلي جديدٍ للأسد، يقضي بانتقال الخط الدفاعي الإسرائيلي غرب القنيطرة، بينما يُعاد نصف المدينة إلى السيطرة السورية، ويبقى النصف الثاني تحت إشراف بين إسرائيل والأمم المتحدة. وراح يشرح كيسنجر للرئيس الأسد بحضور العميد حكمت الشهابي مدى التعنت الإسرائيلي والحرس الإسرائيلي القديم، وحجم الصعوبات التي واجهته في المفاوضات وعدداً من النقاط كمقدمة قبل تقديمه عرض القنيطرة. وحاول كيسنجر جلب الشهابي إلى صفه من خلال أخذ شهادة منه كونه يعرف أميركا جيداً، لكن الشهابي لم يُجب بكلمة، إذ لم يشأ أن يساعد الأميركيين على إقناع قائده، تقول شعبان. هنا قاطع الأسد الحديث قائلاً بهزء وصلابة: "معنى ذلك أن ليس هنالك ما يُسرّ". عندها أخرج كيسنجر من حقيبته خريطة جديدة وبدأ يشرح عليها، واعداً بمزيد من التراجع الإسرائيلي إلى ما وراء الخط الذي كانوا عليه في السادس من تشرين الأول -أكتوبر، وأبلغهم بموافقة إسرائيل على إعادة القنيطرة بأكملها. عند ذلك تذكُرُ الرواية أن الأسد رد على كيسنجر قائلاً: "هم لم يتراجعوا خلف خط السادس من تشرين الأول، لا توجد خطوط فصل متوازية، وسيؤدي المخطط الحالي إلى مزيد من تدخل القوات، لا فصلها، يحافظون على نقاط قاموا باحتلالها بعد وقف إطلاق النار في 22 تشرين الأول، ولم يكن لهم قبل ذلك التاريخ أي وجود على جبل الشيخ، تكمن أهمية القنيطرة في عودة سكانها إليها، وإن لم يحصل ذلك فالأفضل من ناحية عسكرية ألا تستعيد سورية هذه المدينة".

 

الخلاف حول التلال

هنا تذكر محاضر الجلسات أن كيسنجر وضع على طاولة المفاوضات مع الأسد خريطة مصوّرة للقنيطرة، أُخذت من طائرة تجسس أميركية، حينها نظر الأسد إلى الخريطة قائلاً: "هُم الإسرائيليون باقون في المرصد على جبل الشيخ وهنا على التلال". بدا من الواضح أن الإسرائيليين لن يتخلوا عن التلال غرب القنيطرة مما دفع الأسد إلى تأكيد وجوب عودة التلال المحيطة بالقنيطرة إلى سوريا، وإلا "فالقنيطرة لا تساوي شيئاً". الحديث وصل إلى رئيسة الوزراء المستقيلة غولدا مائير التي التقاها كيسنجر في 13 أيار مايو 1974، والتي ثارت ثورتها قائلة: "لا يستحق الأسد أن يحصل على ما يريد". ولم تقبل مائير أكثر من إجراء تعديلات بسيطة على العرض الإسرائيلي لفصل القوات. عاد كيسنجر إلى دمشق في 14 أيار مايو ليقدم الخريطة الجديدة، مضيفاً إليها عرضاً أميركياً جديداً بإعادة إعمار القنيطرة، لم يرد الأسد بعد أن شعر أن محاوريه بدأو يليّنون الموقف، حينها سأل عن مصير قريتي مَسعدَة ومجدل شمس المأهولتين في الجولان المحتل، أجاب كيسنجر أن الإسرائيليين يرفضون التفاوض بشأن هاتين القريتين. ودار الحديث بعدها عن مرصد جبل الشيخ الذي سيطرت عليه القوات السورية في الساعات الأولى للحرب، حينها أبلغ الوزير الأميركي الأسد حرفياً "أن الإسرائيليين ليسوا مستعدين لإعادة المرصد احتراماً للقرار 338" برغم أنهم سيطروا عليه بعد ساعات من سريان قرار وقف إطلاق النار في 22 تشرين الأول.

في ظل التعقيدات الحاصلة، أبدى الرئيس السوري استعداده للتخلي عن المسار السياسي، مقترحاً انتقال المباحثات إلى اللجنة العسكرية المصرية – الإسرائيلية في جنيف. بدت العملية التفاوضية وكأنها على وشك الانهيار برمتها، وانتهى اللقاء بين كيسنجر والأسد كما يلي: قال كيسنجر: إن لم أستطع أن أصل إلى نتيجة ناجحة، كيف يمكن أن استمر برحلتي هذه، هل نعلّق الجهود والمباحثات بضعة أسابيع بغية إعطاء فرصة للطرفين للنظر بعمق في هذه النقاط". أجابه الأسد: "نعم".

   

رسم الخطوط

الرئيس حافظ الأسد والرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين والرئيس المصري أنور السادات في قمة ثلاثية عام 1973
 

بدأت الكاتبة في الفصل السادس من الكتاب حديثها عن عملية معالوت في الخامس عشر من أيار مايو 1974، حينما هاجمت مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين مدرسة فيي مستوطنة معالوت شمال فلسطين المحتلة، نتج عنها احتجاز تسعين طفلاً وأربعة مدرسين رهائن وقتل 25 إسرائيلياً، مما دعا الإسرائيليين للرد بقصف أهداف في جنوب لبنان ذهب ضحيتها عشرات المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين. هذه العملية أثارت قلق كيسنجر الذي خشي على مبادرته للسلام، فأبرق للرئيس الأسد طالباً إليه إبعاد نفسه عن الحادثة بأكملها، فرد عليه الأسد أنه لم يكن على علم مسبق بهذه العملية. ولم يُرِد كلا الرجلين أن تؤثر هذه الحادثة في مسار مفاوضات فصل القوات. تُطلعنا الوثائق المنشورة في الكتاب قيام كيسنجر بإطلاع الأسد على مجموعة من التعليمات السرية كان قد تلقاها من الرئيس نيكسون، التي من شأن فضحها أن يُحدث خرقاً كبيراً بالأمن القومي، بحسب كيسنجر. حينها ابتسم الأسد وأصغى إلى ضيفه باهتمام حيث كان من ضمن ما قاله نيكسون لوزير خارجيته هو أن عليه طمأنة سوريا بأن فصل القوات سيؤلف خطوة أولى باتجاه "سلام عادل ودائم". وبدت هذه العبارة بالغة الأهمية للرئيس السوري، فطلب من مترجمه أسعد إلياس تكرارها، "سلام عادل ودائم". لقد كان نيكسون يُعيد الجملة التي أطلقها الأسد في اجتماعه الأول مع كيسنجر في كانون الأول ديسمبر 1973. وبدأ كيسنجر بعرض مجموعة العوامل التي ربما تعوق التوصل إلى تسوية في المنطقة، ومضى بشرح تفاصيل العرض الأميركي. لم يصدق الأسد أن الإسرائيليين ما زالوا مستمرين بالتشبث بأمتار قليلة قائلاً: "إذا كانوا يتصرفون هكذا في المرحلة الأولى، فكيف سيتصرفون عندما سنحاول التوصل إلى السلام أو إلى حل القضية الفلسطينية، من المستحيل التعامل معهم، مضيفاً أن الشعب السوري وحكومته لا يقبلان هذا العرض، فلا يكفي اتخاذ خطوة أولى بغض النظر عن شكلها، بل يجب وجود ضمانة لما سيتبعها".

تذكر الكاتبة أنه تم استدعاء كل من وزير الدفاع مصطفى طلاس ورئيس الأركان يوسف شكور إلى غرفة الاجتماعات. كما تم استعراض الخرائط ونصوص قرارات مجلس الأمن ذات الصلة (242، 338، 339، 340). استمر الاجتماع مدة ثماني ساعات وصفتها شعبان بالمرهقة، حتى خرقتها أصوات طلقات نارية أصابت كيسنجر بالرعب. سارع الأسد لشرح ما حصل: "لدينا لجان شعبية تقوم بدوريات ليلية، وتطلق أحياناً رصاصات تحذيرية في الهواء، ولكن لا أحد يجرؤ على إطلاق النار باتجاه هذا المكان".

 

تغيير قواعد اللعبة

ومثلما توقع كيسنجر، رفض الإسرائيليون التخلي عن التلال، التي هي موضع الخلاف، إلى طرف ثالث. وبدلاً من ذلك تعهدوا بألا يضعوا أي أسلحة على القمم يمكنها إطلاق النار مباشرة على القنيطرة. عدّ الأسد العرض الإسرائيلي الجديد سخيفاً ووقحاً، غير أنه اتخذ قراراً وصفته الكاتبة بالشجاع والحاسم قائلاً: "إذا كان موضوع التلال خطوة تساعد في قضية السلام، فيمكننا أن نتجاوزه، مع أننا لسنا متفائلين جداً بتصرفات إسرائيل على المدى البعيد". اندهش كيسنجر من موقف الأسد قائلاً: "أؤكد لكم فخامة الرئيس أننا إذا نجحنا الآن في هذه المرحلة فلا بد أن تلتزم الولايات المتحدة بأن يكون هذا الإنجاز مجرد خطوة أولى". كان على كيسنجر إنهاء المفاوضات قبل موعد تشكيل الحكومة الجديدة في إسرئيل في 24 أيار مايو، وعليه توجه مباشرة إلى تل أبيب للقاء أعضاء الحكومة المغادرة ووضع خط الفصل النهائي قبل مناقشة تخفيف السلاح.  وبعد مضي 21 يوماً على جولاته المكوكية، اقترب كيسنجر كثيراً من الاتفاق المرجو، مما دفعه إلى طلب أمر خاص من الرئيس السوري: "كل ما أطلبه إذا نجحنا هو أن أزور مدينة تدمر".

 

مزيد من التعقيدات

أبرق كيسنجر إلى نيكسون مطمئناً بأن الأرضية أصبحت جاهزة للتوصل إلى اتفاق فصل القوات السورية عن القوات الإسرائيلية، وأن القضية الأساس الآن هي وضع تعريف للمنطقة منزوعة السلاح (المنطقة العازلة) ولمناطق تخفيف السلاح على جانبي الخط. وعند ذلك أصبح الخط الذي سينسحب إليه الإسرائيليون معروفاً بـ"الخط الأزرق"، على حين عُرف الخط الذي وقف عنده السوريون بـ"الخط الأحمر". وغدت المنطقة بينهما منطقة عازلة منزوعة السلاح. وفي اجتماعات لاحقة بينما كان الطرفان يراجعان نص اتفاق فصل القوات، أثار مصطلح "القوات شبه العسكرية" قضية الفدائيين الفلسطينيين، حينها تُظهر الوثائق أن الرئيس الأسد احتج بشدة قائلاً: "نحن مسؤولون فقط عن الجيش السوري، ولا يمكن تضمين الفلسطينيين في الاتفاق". وأصرّ أنه لا وجود لحالكم عربي يمكنه منع الفدائيين من القيام بعمليات ضد إسرائيل، وأضاف أنه يرفض الوقوف حارساً لإسرائيل أو أن يقف في وجه الفلسطينيين، وأنه في لبنان كلما ضربت الدولة الفدائيين، ازداد الدعم الشعبي لهم". وذكّر الأسد كيسنجر أن سوريا على مرمى حجر من فلسطين، ويسكن فيها أكثر من مليون لاجئ فلسطيني. لا يستطيع الأسد أن يلتزم بما التزم به السادات، فصحراء سيناء تمثّل حاجزاً عمقه 300 كيلومتر بين فلسطين ومصر، ثم إنه لا يوجد عدد كبير من الفلسطينيين في مصر.

إضافة إلى ما سبق تذكر الكاتبة إصرار الرئيس الأسد على أن يتضمن أي اتفاق بنداً خاصاً حول الأسرى الفلسطينيين والعرب في السجون الإسرائيلية، إذ أنه أراد تحرير كل من قاتل على الجبهة السورية في تشرين الأول، إضافة إلى من تطوع مع الفدائيين بعد عام 1967، في عملية تبادل الأسرى التي ستأتي بعد الاتفاق. كما طالب بإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين من عرب 1948 القابعين في السجون الإسرائيلية. وقد وعد كيسنجر أن ينقل هذه المطالب إلى الإسرائيليين، وطلب مقابل ذلك مساعدة الأسد على إطلاق سراح طيارين إسرائيليين محتجزين في لبنان، ووعده الرئيس السوري بالمحاولة. تتابع الكاتبة في هذا الجزء من الكتاب عرض وثائق ومحاضر اجتماعات الأسد كيسنجر حيث لم تثمر المفاوضات أي نتائج جديدة، في ظل التعنت الإسرائيلي والإصرار السوري، وكان الخلاف يدور حول خطوط الفصل والمناطق العازلة.

 

أداء مذهل

في الثالث والعشرين من أيار مايو عام 1974، وصل كيسنجر إلى دمشق وبحوزته تنازلات إسرائيلية مهمة. تقول بثينة شعبان إن بصمات ريتشارد نيكسون جليّة عليها، إذ ضغط على غولدا مائير كثيراً طالباً منها إظهار المرونة كي لا تنهار المحادثات حول الجبهة السورية. في المقابل قابل الأسد حُسن النية الأميركية بالإيجاب، ووافق على أن تتضمن منطقة تخفيض السلاح الأولى (أي العشرة كيلومترات الأولى بعد خط الفصل) 6000 جندي، و75 دبابة، و36 قطعة مدفعية صغيرة المدى، وطلب إعادة رسم بعض نقاط خط الفصل الخلافية. وعلى الرغم من ذلك، ظهرت خلافات جديدة حول نوعية المدافع التي ستضعها سوريا في هذه المنطقة وعددها.

بعد مفاوضات طويلة وافقت إسرائيل على كل المطالب السورية المرتبطة بمناطق التخفيف، بما في ذلك تلك المنطقة المتعلقة بدمشق ومدافع الـ 122 ميليمتراً، كما وافقت على وضع 1250 مراقباً أممياً في المنطقة العازلة، بعد أن كانت قد طالبت بـ7000 جندي حفظ سلام في بادئ الأمر. رحب الأسد بهذه التنازلات بحذر من دون أن تبدو ملامح الارتياح على وجهه، برغم كل ما قدم من تنازلات يشهد على مهاراته التفاوضية، تقول شعبان.

 

عيد ميلاد حزين لكيسنجر

صادف وجود كيسنجر يوم 27 أيار مايو 1974 في دمشق ، حيث اضطر إلى قضاء الساعات الأولى من عامه الحادي والخمسين وهو يخوض مفاوضات سياسية صعبة مع الرئيس السوري، بحضور مساعده بيتر رودمان ومترجمه عيسى الصباغ. في تلك الفترة لم يكن في بال الأسد سوى "رسالة نيكسون" التي سيبثها البيت الأبيض عند إتمام اتفاق فصل القوات، ويؤكد من خلالها التزام الولايات المتحدة بالمرحلة التالية من عملية السلام، وخاصة تطبيق قرار مجلس الأمن 338. وفي صبيحة اليوم التالي، تقول الكاتبة إن كيسنجر استفاق ليرى فريقه قد أعد له حفلة عيد ميلاد مفاجئة في قصر الروضة، كانت تلك اللحظات أسعد أوقات كيسنجر.

في ذلك اليوم، توجه إلى عقد الاجتماع الذي "ظنه" الاجتماع الاخير مع الرئيس الأسد. جرى اللقاء بين الرجلين كما كان متوقعاً واحتج الأسد على مطالب إسرائيل المستحيلة حول ترسيم الخط الأحمر. حينها لم تبقَ لدى كيسنجر أي قدرة على المقاومة قائلاً: "راجعت نفسي وأنا أفكر البارحة ليلاً وانتهيت إلى استنتاج أن لا وجود لحل. إن الظروف غير مؤاتية للتوصّل إلى اتفاق على بعض النقاط". وافق الأسد على ذلك، وبدأ التفكير كيف يمكن نقل الخبر السيء إلى الصحافيين المحتشدين خارج قصر الروضة. إن خبراً كهذا أسمته شعبان "بالقنبلة السياسية" يعني أن الرئيس نيكسون لن يستطيع زيارة الشرق الأوسط، وخاصة بعد الإخفاق الذريع للسياسة المكوكية لوزير خارجيته. ولكن الأسد أشار إلى أن دمشق ترحب بزيارته إن تم التوصل إلى اتفاق أو لم يتم، وأكد أن أي زيارة لأي مبعوث سوري للولايات المتحدة في المستقبل، ستكون في سبيل بحث تطوير العلاقات السورية – الأميركية الثنائية، ولا شيء غير ذلك.

مع ذلك، عاد الفريق الأميركي إلى قصر الضيافة للتشاور في اليوم التالي، حيث أضاف كيسنجر شرطاً مهماً إلى الاتفاق ينص على أنه مع تحريك الخط الأحمر وخروج تلال سوريا من المنطقة العازلة، فإن الولايات المتحدة سترسل إلى إسرائيل رسالة تضمن فيها أن سوريا لن تضع أسلحة على قمم تلك التلال التي تقع الآن خلف الخط المعدّل، ويمكن منها إطلاق النار مباشرة باتجاه المواقع الإسرائيلية، وهذا يماثل أيضاً الضمانة التي تلقتها سوريا بخصوص التلال المسيطر عليها إسرائيلياً غرب القنيطرة. هنا لم يكن للأسد أي اعتراضات. كان كيسنجر قد خطط للقاء مجلس الوزراء الإسرائيلي للمصادقة على النصوص النهائية، ولكن عرقلة جديدة قديمة ظهرت من جديد، وصلت الفرق التفاوضية إلى البند الأخير في الاتفاق، حيث طالبت إسرائيل كيسنجر أن لا تنشر سوريا أكثر من 75 شرطياً في المنطقة العازلة، بما فيها مدينة القنيطرة. رفض الأسد وضباطه هذا الطلب نهائياً، فالمنطقة العازلة ضمن السيادة السورية، وللحكومة السورية الحق في نشر العدد الذي تراه مناسباً من رجال الشرطة فيها. وعرض الأسد بقبول حدٍ معينٍ في عدد الشرطة في القنيطرة شرط أن تقبل إسرائيل بالحدِّ نفسه من عدد رجال الشرطة في مدينة طبريا الواقعة على المقلب الآخر من مرتفعات الجولان. ولكن لم يتوصل الطرفان إلى اتفاق.

في ذلك الوقت كانت طائرة الوزير السوفييتي آندريه غروميكو على وشك الهبوط في مطار دمشق، غادر موكب كيسنجر قصر الروضة على وجه السرعة، ماراً بموكب غروميكو على الطريق الواصل إلى مطار دمشق الدولي. تقول شعبان: "كانت لحظة معبّرة جداً، ففي ظل قيادة حافظ الأسد، غدت سورية في قلب سياسات القوتين العظميين، وأصبحت قوة إقليمية يُحسب حسابها".

 

علينا أن نستمر بالإعداد

عاد كيسنجر في اليوم التالي إلى دمشق في 28 أيار مايو 1974، بعد أن طلبت منه غولدا مائير أن يحاول مرة أخيرة انتزاع ضمانة من الرئيس السوري بمنع نشاط الفدائيين الفلسطينيين العسكري في مرتفعات الجولان. ولكن الأسد رفض قطعياً ذلك، كما توقع كيسنجر، لكنه سمح لكيسنجر أن يرسل للإسرائيليين رسالة يضمن فيها أن الولايات المتحدة الأميركية ستعدُّ أي هجوم فلسطيني خرقاً لوقف إطلاق النار في مرتفعات الجولان. هنا تقول شعبان إنه لم يبقَ للأميركيين أي أوراق ليلعبوها، ولم يكن لدى مجلس الوزراء الإسرائيلي خيار سوى الموافقة على الاتفاق كما هو. وعليه، وفي الساعة الثامنة مساء بتوقيت دمشق من يوم الأربعاء الواقع في 29 أيار مايو 1974، أعلن الرئيس نيكسون للعالم أجمع، أنه تم التوصل إلى اتفاق لفصل القوات بين سوريا وإسرائيل. وبعد يومين وقّع العميد حكمت الشهابي على نص الاتفاقية نيابة عن سوريا خلال اجتماع للجنة العمل العسكرية المصرية – الإسرائيلية في جنيف. وفي الأيام التي تلت التوقيع انسحبت قوات الاحتلال من مدينة القنيطرة بعد أن دمرتها بالكامل. في الرابع والعشرين من حزيران يونيو 1974، قام الرئيس حافظ الأسد، محاطاً بالآلاف من المواطنين السوريين، مرتدياً اللباس العسكري الميداني، لا يميّزه عن أي جندي على خط الجبهة سوى رتبة الفريق على كتفيه، برفع العلم السوري في سماء مدينة القنيطرة المحررة، مذكراً أبناء بلده والعالم بأن: "إرادة الشعب لا يمكن أن تُقهر، وأن الوطن فوق كل شيء، وأن علينا أن نستمر في الإعداد لطرد العدو من كل شبر من أرضنا العربية المحتلة، وأنه متفائل بالنصر ومتفائل بالمستقبل، وواثق أنه ما من قوة على وجه الأرض تستطيع أن تمنعنا من استرجاع حقوقنا كاملة".

الرئيس حافظ الأسد خلال استقباله الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون في مطار دمشق عام 1974

نيسكون في دمشق

في سابقة هي الأولى من نوعها، هبطت الطائرة الأميركية "سبيريت اوف 76" في مطار دمشق الدولي بعد ظهر يوم 15 حزيران يونيو 1974، حاملة على متنها الرئيس الأميركي السابع والثلاثين ريتشارد نيسكون وعقيلته بات راين نيكسون. استقبله الرئيس حافظ الأسد وعقيلته السيدة أنيسة مخلوف الأسد على مدرج المطار، حيث فُرش السجاد الأحمر ونشرت الأعلام الأميركية في شوارع دمشق، ليصبح بذلك أول رئيس أميركي يزور العاصمة السورية دمشق. كانت زيارة نيكسون إلى المنطقة تتمحور حول موضوع فصل القوات على الجبهتين السورية والمصرية، بيد أنه وكيسنجر ترقّبا تحديات جسيمة في المرحلة المقبلة من عملية السلام، تلّخصت بمطالبة العرب بانسحاب إسرائيلي شامل وبحلِّ القضية الفلسطينية. وفي 18 حزيران يونيو، وبعد أسبوعين من نهاية المفاوضات على الجبهة السورية، وصل نيكسون إلى مصر حيث استقُبل بحفاوة كبيرة، أراد من خلالها السادات أن يثبت للأميركيين والسوفييت على حد سواء، أن توجه مصر الجديد يحوز الدعم الشعبي. وتمثّلت ذروة الزيارة إلى مصر في توقيع اتفاقيات للتعاون الثنائي شملت المجالات العلمية والتقنية والاقتصادية والثقافية.

في تلك الفترة كان نيسكون يتعرض لحملة تهدف إلى خلعه من منصبه رئيساً للولايات المتحدة في الكونغرس، عقب فضيحة ووترغيت، فقد رغب أن تكون زيارته الشرق أوسطية أكثر من مجرد احتفال، كما أراد لها أن تكون ذات بُعد تاريخي تُخفف عنه عبء الحملة التي يتعرض لها في بلاده سواء من الكونغرس أو الصحافة، ولكن هذه التمنيات كانت بلا جدوى تقول شعبان، فقد استقال نيكسون من منصبه بعد أسابيع قليلة من زيارة الشرق الأوسط.

 

 

في مكتب الأسد

تقول الوثائق إن الرئيس الأميركي دخل مباشرة خلال اجتماعه مع الرئيس الأسد، في عرضٍ للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، مشابهاً لما سمعه الأسد مراراً من كيسنجر. بدأ نيكسون بالتفاخر بالإنجاز الذي تحقق بوساطة أميركية في إشارة لفصل القوات السورية – الإسرائيلية، مكرراً كلام وزيره لناحية الرغبة بإقامة علاقات طيبة مع سوريا وسعي الولايات المتحدة إلى تغيير صورة العرب لدى الرأي العام الأميركي. اعتقد كيسنجر ونيكسون أنهما تجاوزا المرحلة الأصعب، وعرضا على الأسد قراءة البيان المتعلق بالشرق الأوسط الذي يعتزم الرئيس الأميركي والقائد السوفييتي بريجينيف الإدلاء به عقب قمتهما المزمع عقدها في موسكو بعد أسبوعين. هنا وجد الأسد نفسه مرة أخرى مضطراً إلى مناقشة سياسات القوى العظمى، وقرر إيضاح موقفه. كان الأسد يمدح علاقات بلاده بالإتحاد السوفييتي، فالروس قدموا لسوريا السلاح والدعم الإقتصادي، ومع ذلك فسياسات سوريا مبنية على مصالحها القومية العربية العليا، ويضيف: "كما قلت للدكتور كيسنجر من قبل، لا أحد يُملي علينا سياستنا، لا الولايات المتحدة ولا الاتحاد السوفييتي".

في هذه المرحلة التي أطلقت عليها الكاتبة إسم "إعادة بناء الجسور" تعود بنا شعبان إلى الخطاب التاريخي للأسد أمام قصر الروضة، مرحباً بعودة العلاقات الدبلوماسية بين سوريا والولايات المتحدة بعد قطيعة دامت سبع سنوات، قابل نيكسون هذه الإيجابية بالمثل، خاتماً خطابه بدعوة الرئيس الأسد لزيارة واشنطن، لكن الأسد لم يرد على الدعوة أمام الصحافيين ولا عندما عاد إلى مكتبه. فقد أبقى الرئيس السوري محضر الاجتماع مع نيكسون على مكتبه ثلاثة عقود، كذكرى متميّزة للحظة مهمة في تاريخ سوريا، ولتذكره بخداع أميركا والطريق الصعب الذي وجب عليه خوضه نحو سلام بدا دوماً بعيد المنال.

تختم الكاتبة هذا الجزء بالقول: "بعد مضي سبعة عشر عاماً على قمة دمشق التي جمعت حافظ الأسد ونيكسون، عاد الأسد مجدداً ليكون لاعباً محورياً في دبلوماسية السلام الإقليمية والدولية. فبعد أيام من انتهاء حرب الخليج، سارع وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر لزيارة دمشق بغرض التحضير لعقد مؤتمر سلام آخر بين العرب وإسرائيل، وهذه المرة في مدريد. لم يتغير النص كثيراً ولا اللاعبون كما يظهر محضر اجتماع الأسد بيكر في 23 نيسان(أبريل) 1991، إذ قال الأسد لبيكر: "كان نيكسون جالساً هنا في مكانك، والدكتور كيسنجر كان جالساً هنا مكان جمال هلال – المترجم، لقد خضنا نقاشات رائعة، وبعد جدال طويل، أقنعنا نيكسون وخرج من الاجتماع مؤيداً للموقف السوري. إنه شخص صادق مع نفسه ويحترم قناعاته. وقد أصدرنا بعد لقائنا تصريحاً يقول إن آراءه متوافقة مع ما قالته الأمم المتحدة حول النزاع العربي – الإسرائيلي. ثم عاد إلى الولايات المتحدة وتفجرت فضيحة ووترغيت، وفجأة اختفى نيكسون. كانت هناك حملة سريعة ضده، ونحن نعتقد أن هذا الأمر كان متعلقاً إلى حد بعيد بموقفه تجاه السلام في المنطقة".

 

سلام ولد ميتاً

تستعرض الكاتبة في هذا الجزء ظروف استقالة نيكسون من رئاسة الولايات المتحدة في آب أغسطس 1974، وتولي جيرالد فورد المنصب. كان الأسد يعتقد أن الإطاحة بنيكسون كان نتيجة موافقته على تسوية شاملة للصراع العربي الإسرائيلي بناء على قراري مجلس الأمن 242 و338، اللذين ينصان على انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة كافة. طمأن كيسنجر أن قبضته على الدبلوماسية الأميركية ستتعزز سواء في الشرق الأوسط أو في غيره. ورأى أن الخطوة التالية يجب أن تكون في الضفة الغربية بين الأردن وإسرائيل، تماشياً مع استراتيجية عقد سلام منفصل مع كل بلد على حدة. فبعد أن أنجز كيسنجر فصل القوات على الجبهتين المصرية والسورية، وجد أن الخطوة المنطقية التالية للدبلوماسية الأميركية هي إنجاز اتفاق فصل قوات بين إسرائيل والملك الأردني حسين في الضفة الغربية، قبل انجاز اتفاق ثانٍ في سيناء. غير أن مفهوم فصل القوات الذي طُبق على الجبهتين المصرية والسورية لم يكن يُطبق على الحالة الأردنية، التي لم يحصل قتال على طول جبهتها خلال حرب تشرين الأول أكتوبر. تعرّج شعبان في هذه الأوقات على زيارات كيسنجر إلى دمشق ورسائل الرئيس الأميركي الجديد إلى الأسد حول استعداد الولايات المتحدة لاتخاذ خطوات جديدة على المسار السوري، والتي اعتبرها الأسد رسائل غامضة، وصولاً إلى القمة العربية في الرباط.

 

قمة الرباط

تصف الكاتبة قمة الرباط، التي عُقدت في 24 تشرين الأول أكتوبر، بالمفصلية والهامة في التاريخ العربي المعاصر، حيث اعترف القادة العرب فيها بالإجماع بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. ولم يشذّ عن هذا الإجماع إلا الملك حسين، ولكنه فشل في إبداء أي مقاومة جادة، تقول شعبان. وبعد أسبوعين، اعترفت الأمم المتحدة بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً للشعب الفلسطيني، وتم إعطاؤها صفة المراقب. احتفل ياسر عرفات بهذا الإنجاز غير المسبوق بخطاب مطول أمام المشاركين في الدورة التاسعة والعشرين للجمعية العامة للأمم المتحدة، مما أثار سخط كيسنجر ورابين والملك حسين. وكذلك رفض القادة العرب المجتمعون في الرباط رفضاً باتاً أي محاولات لعقد اتفاقات ثنائية بين أي دولة عربية وإسرائيل، وأكدوا التزامهم بالتسوية الشاملة في المنطقة وتطبيق قراري مجلس الأمن 242 و338. بقي السادات صامتاً ولم يعترض على هذا الإجماع، على حين احتفل الأسد بهذا النصر السياسي، إذ تبنّى العرب مجتمعين الموقف السوري تجاه عملية السلام، وأصبح هذا هو الموقف العربي الرسمي. 

لقراءة الحلقة الأولى من مراجعة الكتاب.

لقراءة الحلقة الثانية من مراجعة الكتاب.