"أوكتافات" الصوت القليلة، والحزن الباذِخ الحزن

لا يعنيني كمّ الأوكتافات التي حملها صوت عبد الحليم، ولا قدرته على الوصول بقفلات الغناء إلى خواتيمها السليمة، كما لا أحبّ التفرّج عليه في حفلاته المُتلفزَة بتسريحة شعره الغريبة، وعينيه الصغيرتين المُبلّلتين بماء المرض. أكره طريقته في قيادة الفرقة الموسيقية المُصاحِبة لغنائه فارداً يديه، مولياً ظهره لجمهوره أو مُصفّقاً بيديه بتوقيعات مُستفزّة، ذارعاً خشبة المسرح طولاً وعرضاً، ناشداً مشاركة مُحبيه وحضوره الكثير مُصاحبته الغناء والتصفيق>

كان حليم يعزف عليها بتمّكن على الأبوا كما على البيانو

ما فاتني تذّكرهُ في مقاربات سابقة عن عبد الحليم حافظ، أحاول هنا مُقاربته لصاحب الغناء العاطفي الذي يجعلك تنعس. ألفتُ وبشكل سريع، إلى أن بين المقطعين الثاني والثالث في الأغنية الرائعة للمطربة الراحلة هدى سلطان:  "ياورد الجناين يا سيد الورود"  - وقد كفّت الإذاعات عن إذاعتها منذ زمن، بما فيها إذاعة القاهرة نفسها – نسمعُ عزفاً منفرداً من عبد الحليم نفسه على آلة "الأبوا".

 

 "الأبوا" هذه، وكان حليم يعزف عليها بتمّكن، كما على البيانو، فيما يشوب الضعف عزفهُ على العود ويجهل كيفية دوزنة أوتاره، هي آلة النفخ الخشبية، حنونة الصوت، بالغة الذبذبات الرهيفة، ليّنة الانعطافات، ومنها اكتسبت حنجرة عبد الحليم حافظ، طابعها وأسلوبها في الأداء.

 

"الأبوا" طبعت حنجرة عبد الحليم بعُمقها، وإن اقتصرت ذروة صوته على المقامات التي خلت من أرباع الصوت مثل: النهوند والعجم والحجاز. أيضاً شاب تأثّر صوته بآلة الأبوا ضعف في قفلات الطرب وفي التحّكم بعملية الانتقال بين المقامات الشرقية، ما جعل ذكاء عبد الحليم الحّاد، يتدارك هذا النقص، مُبقياً على سوية مُعيّنة في اختياراته الغنائية، مُتجنباً فنون التلوين المقامي والقفلات التي برع فيها كبار المُغنّيين.

 

ضعف حنجرة عبد الحليم في المُنافسة الشرسة مع حناجر مُكتملة، لم يُحرجهُ أو يمنعهُ حتى من التعبير عن موقفه من الغناء العربي الكلاسيكي لمّا غنّى: "يا سيدي أمرك، أمرك يا سيدي" محاولاً البرهنة من خلال غنائها على قدرته وتملّكه في أداء نماذج عالية من هذا الغناء المقامي، مع تسجيل سخريّته من هذه النماذج نفسها في آن، باعتبارها موضة قديمة زالت، وزال زمنها.

 

النكهة العصرية المُميّزة إذن، والحنان العميق الحزن، والرّقة والليونة أخاذتا الجمال، سمات صوت عبد الحليم شبانة (غيّر إسمه من شبانة إلى حافظ عرفاناً بجميل حافظ عبد الوهاب، الإذاعي الذي فتح له أبواب الفُرَص في الإذاعة) وتعبيراته، ضمن ظاهرة جديدة غير فردية، لم تقتصر على عبد الحليم وحده، بل بدت عملاً جماعياً ضمّ مطربين ومطربات ومُلحّنين وكتّاب أغنية أمثال: محمّد فوزي وهدى سلطان وكارم محمود ومحمّد الموجي وكمال الطويل ومأمون الشناوي وحسين السيّد ومرسي جميل عزيز وسمير محبوب (كاتب أغنية: صافيني مرّة) ومحمّد علي أحمد (كاتب أغنية: على قدّ الشوق) ومحمّد حمزة.. وحتى الشعراء مثل صلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي ..الخ.

 

التغيير إذن، أو التحديث شمل الألحان، وكلمات الغاني والتوزيع الموسيقي في نتاج عبد الحليم حافظ، ما خلّف فراغاً كبيراً إثر رحيله، لم تتوافر بعدهُ مواصفات شبيهة أو موازية في أيّ ممن ترشّحوا بعدهُ لملء هذا الفراغ.

 

ترك حليم أغنيات فاقت الثلاثمائة أغنية، صمد معظمها حتى اللحظة من حداثتها بالمعنى العميق والشامل، فرادتها وتنوّعها.

 

لا يعنيني كمّ الأوكتافات التي حملها صوت عبد الحليم، ولا قدرته على الوصول بقفلات الغناء إلى خواتيمها السليمة، كما لا أحبّ التفرّج عليه في حفلاته المُتلفزَة بتسريحة شعره الغريبة، وعينيه الصغيرتين المُبلّلتين بماء المرض. أكره طريقته في قيادة الفرقة الموسيقية المُصاحِبة لغنائه فارداً يديه، مولياً ظهره لجمهوره أو مُصفّقاً بيديه بتوقيعات مُستفزّة، ذارعاً خشبة المسرح طولاً وعرضاً، ناشداً مشاركة مُحبيه وحضوره الكثير مُصاحبته الغناء والتصفيق.

 

 

 

مع ذلك أحبّ وبشدّة عبد الحليم حافظ. ولأن لا أحد يعرف سرّ الحب، انتهيت بأنني أحبّهُ وهذا أمر لا فرار منه. صحيح أن شكلهُ الخارجي ليس مُرادي في أشكال الرجال، ولا طريقة لبسه واختيار بدلاته ومن ثم.. غموض حياته العاطفية وقلّتها على ما أحسب. سوى أنني ضحية قانعة من ضحايا سحر صوته في أغنياته القديمة تحديداً، وأفلامه القديمة، إبتسامته، وقامته القليلة تلك، غير المُستقيمة والمائلة أبداً كما لو تستجدي كتفاً تتكىء عليها، قميصه الأبيض في أغلب أفلامه، وباذلاً جزء عنقه الأسمر لحنان ما!! لمن يبذل جزء عنقه، ثم يسترهُ في مشهد آخر ب "بلوفر" بقبّة عالية.

 

الاختزال إذن! اختزال ما يمثّلهُ لي حليم، ليس الشخص بكلّه، بل ما يظهر من جزء من عنقه في مشهد جانبي، وما يختفي خلف صوته من عاطفة مُجهضة، ليس مُقدّراً لها أن تعيش.

 

بعد الكثير جداً من السنوات على رحيله، بعد عُمر كامل أو أربعين عاماً على الغياب، تنتابني حقيقة خلوّ العالم من الرومانسية. الرومانسية على كل حال مدعاة بلاهة في هذا العصر، فهي تجعلك ترتكب الكثير من الحماقات ثم سرعان ما يتآكلك الندم على ارتكابها. رحل "حليمو" ورحلت الرومانسية معه، ورحل الغناء العاطفي الطالع من مكامن مجهولة، الغناء العاطفي الذي يجعلك تنعس، تُحسّ بدعة العالم وتنام. أحبّ صوته من مكان فيّ أنا. إذا ما تذكرّ أحدنا قصة حبه الأول، يعرف يقيناً من أين يأتي حبنا لصوت عبد الحليم.

 

تسجيلاته القديمة وترقد صامتة في مكتبتي، رائعة مع ذلك ومحجوزة لذكرى أول قصة حب، لمّا أسمعها تستغرقني أوقات الاشتعال ذاك، ويعّن لقلبي معاودة ذلك الاشتعال هنا أو هناك ولو إلى حين.

 

اشتكى عبد الحليم لوعاته لأكثر مما يجب. لوعة وشوق وفراق وما من وصال أبداً إلى أن أسكته المرض..  ثم الموت. ربما يمكنني تصوّر هذا الجزاء على أنه الأفظع. لكن في الحقيقة، الشيء الأفظع هو غياب الحب، عدم وجوده، لذلك نبحث عنه مازلنا ونطاردهُ في صوت عبد الحليم، صوته المائدة العامرة لعاطفة نعرف أنها موجودة لكن نواريها. عبد الحليم كان يعرف ولم يُوارِ، لذا بدا مقنعاً وعاشت أغنياته حتى اليوم.

 

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]