يادي النعيم اللّي انت فيه يا قلبي

تُرخي أغنية محمّد فوزي مسرّة مُسرفة، غنيّة من دون قيود. مسرّة لا سبب لها ولا علّة، ومسّرة لا أساس لها في اللحن السريع، ولا دافع في الكلمات البسيطة. لاشيء يجعل أغنية فوزي مُبهجة إلى هذا الحّد وتفيض بالفرح والجذل سوى لأن جمالها ينبع من داخل فوزي نفسه.

صوت فوزي صوتٌ سعيدٌ ومرتفعٌ وكأن صاحبهُ يريد في أغنية واحدة، القبض على كل الغناء
والدي الذي لم يكن مُعجباً بالمطرب والمُمثّل الراحل محمّد فوزي، أُرّجح أنه كان يغار منه. يُقّطب ما بين حاجبيه لدى سماعه، ويسأل أميّ المأخوذة بمتابعة غناء وتمثيل فوزي في أحد أفلامه على شاشة التلفزيون: عفواً! اسمحيلي شو يعني هالغنّية؟ وشو بيقصد حضرتو لمّا يقول: وجريت ورا عمّو، وبوست إيد خالو؟ ملاّ غناء  وملاّ آخرة!

لطالما عَجَبتُ من نفور أبي من فوزي، هو صاحب الذائقة الجيّدة والصوت الرخيم وكان لايني يطلبُ إليّ مشاركتهُ الغناء في الـ"ديو" الذي يجمع ما بين محمّد عبد الوهاب وليلى مراد: "يادي النعيم اللّي انت فيه ياقلبي"  أو الآخر الذي يقول:  "طال إنتظاري لوحدي والبُعد عنّك أليم". مُستمع جيّد، سوى أنه كان يغار من إستغراق أميّ في سَماع محمّد فوزي، ولاحقاً من استغراقي أنا ابنته في صوت هذا المطرب كما لو خيانة بحق أبوّته لي.

صوت فوزي سعيد ومرتفع. صوتٌ سعيدٌ ومرتفعٌ وكأن صاحبهُ يريد في أغنية واحدة، القبض على كل الغناء: "مال القمر مالو/ ما جيناش على بالو، يُغنّي فوزي بصوته المُمتلىء بالنّور والدفء، وكنت أرتعش قليلاً في المقطع الذي يقول:  صبري فرغ يا جميل والنفس مانعاني/ ومادام أمرنا الهوى يا كُتر ما نعاني. أغنية تستجدي المحبوب وتُثير بي فزعاً غامضاً من الذلّ اللاحق بالمُحب.

ولد محمّد فوزي الحّو ونشأ وترعرع في مدينة طنطا وكان أبوه شيخاً يُشارك في المناسبات الدينية وتجويد القرآن، ومنها اكتمل نمو الحاسّة الفنية لمحمّد فوزي في هذه المدرسة الكبرى.

لا أعرف أن أمهّد لمقالاتي تمهيداً معرفياً مُرتّباً كأن أقول بأن محمّد فوزي كان فناناً شاملاً: ملحن ومطرب وممثل ومنتج ومُجدّد، وبأنه ظُلم في زمن الكبار الذين عاصرهم، محمّد عبد الوهاب والسنباطي والمليجي وعبد الحليم وسواهم، ما أعرفهُ، أن صداقة جمعتني بغمّازتيه، بخفّة ظلّه، بوسامته وصوته. صداقة عميقة جمعتني بغمّازتيه حين يبتسم (وقلّما لم يكن يبتسم)، ليس لأنني كنت مراهقة وصريعة تللك الفجوات السحرية على خدّيه الممتلئتين، وليس لأنني كنت أشعر بتوّثب كوني ينبع من كل مَسام روحي وجسدي، بل لأنه ببساطة كان يملأني.

 

أنتظر عَرض أحد أفلامه على شاشة التلفزيون الصغيرة، وأروح أكره ليلى مراد أو مديحة يُسري أو صباح أو أياً تكن من الفنانات اللواتي قاسمنهُ بطولات أفلامه، النساء اللواتي لم يعرفن قيمة تلك الغمّازات المُضيئة التي تشّق القلب شقّاً فادحاً، ولا يعرفن معنى أن تصادقها فتاة مثلي في الثالثة عشرة من عمرها، المعنى الثمين والنادر أكثر بكثير من الحب. ثم أن الحب في الحقيقة هو شيء ثخين وغليظ وثقيل مقارنة مع صداقة عُقِدت بين طفلة وغمّازتين لرجل وسيم، صوته جميل ورقيق ورهيف، علمّني الإصغاء، ومنحني إحساسي الذكّي بالموسيقى والغناء.

 

لا أعرف أيضاً أن أقول كسائر خَلق الله الذين يكتبون، أن فوزي ولِد عام 1918 وأنه أخ لعدد كبير من الأشقّاء بلغ عددهم 24 شقيقاً وشقيقة، أشهرهم الفنانة الراحلة هدى سلطان، وأن فوزي انتقل بالأغنية العربية إلى مرحلة مُتقدّمة لمّا قدّم لنا الأغنية الخفيفة والرومانسية العاطفية وكذلك الأغاني الخاصة بالأطفال: "ماما زمانها جايّة" وسواها. أعرف أن أقول فحسب، أن محمّد فوزي لمّا كان يُغنّي:  "داري العيون داريها/ السحر ساكن فيها" كنت أغلق عينيّ بسبب من هذه الأغنية وأترك لأهدابي حركة طيرانها المُرفرف، فتأخذ هذه تصفّق كأجنحة طير يحتضر.

بسبب من هذه الأغنية وسواها من أغنيات فوزي، تختفي الغيوم عن قلبي فجأة، وأشعر أن بؤبؤيّ يحترقان مثل قطعة بخور عُماني. كما وتُخالط روحي كبرياء شامخة، ولا يعود يسعني رفع نظري عنه - أنا الطفلة- بل أحملّق به بعيون مُلتهبة وأغرز في وجنتيه كامل النظر اليائس.

ظبيّ الشاشة في ذلك الحين، كان قد تزوّج من سيّدات ثلاث كما فعل والده من قبله. كل سيّدة تزوّجها فوزي كانت جميلة كقرص الشمس، كلهّن كنّ فاتنات، وأكثرهن فتنة كانت مديحة يُسري، وترتعش حولها دائماً هالة من الشوكولا المُبهجة.

كما لا أعرف أيضاً وأيضاً، أن أكتب أنه التحق بعد نيله الشهادة الثانوية بمعهد الموسيقى العربية، وانضمّ بعدها إلى فرقة بديعة مصابني، ثم إلى فرقة فاطمة رشدي، كما لحّن العديد من المسرحيات، واعتُمِد كملحّن ومطرب في الإذاعة، ومثّل في الكثير جداً من الأفلام، وأسّس أول شركة اسطوانات في مصر وفي رصيده أكثر من 400 أغنية. ما أعرفهُ، هو أن فوزي حين يُغنيّ: "ليّا عشم واياك ياجميل/ إن بُحت بالسرّ تصونه".. يأخذ بمجامع قلبي، ويترك فيه إحساساً صاخباً، وبسببها لم يتغلغل الظلام إليه. الضوء والبهجة وأعوامي الثلاثة عشرة.

تُرخي أغنية محمّد فوزي مسرّة مُسرفة، غنيّة من دون قيود. مسرّة لا سبب لها ولا علّة، ومسّرة لا أساس لها في اللحن السريع، ولا دافع في الكلمات البسيطة.

لا شيء يجعل أغنية فوزي مُبهجة إلى هذا الحّد وتفيض بالفرح والجذل سوى لأن جمالها ينبع من داخل فوزي نفسه. لقد عاش هذا الفنان حياته بالطول والعرض على ما يقولون، لم يردع نفسه عن أيّ إغواء، وربما بسبب من اختياره حياته على هذه الشاكلة المُفرطة في أهوائها، لم يشتكِ من مرض السرطان الذي أصابه وقضى على إثره وهو لم يتعدّ الأربعين من عمره، إذ اعتبر الأمر إلى حدّ ما، عقاباً ربّانياً رضيَ به، على ما كان يتناقلهُ عنه صحبهُ، ومن رافقهُ في رحلة مرضه.