الماريونيت لا تدر دخلاً لكنها تصنع الابتسامة في غزّة

تعلم عبر الأنترنت فصنع الدمى وبثّ فيها الروح حتى غدت وكأنها من لحم ودم.. هكذا حوّل مهدي كريرة دمى الماريونيت إلى صانعة ابتسامة في غزة.

  • الماريونيت لا تدر دخلاً لكنها تصنع الابتسامة في غزّة
    الماريونيت لا تدر دخلاً لكنها تصنع الابتسامة في غزّة

على مسرح متواضع تقف دمى الماريونيت بشخصياتها المختلفة، تحرّكها خيوط دقيقة وفق إيقاع الموسيقى وسيناريو قصة مُعدَّه سلفاً. يعتلي المسرح مُحرِّك الدمى، مُمسكاً بصليبته الخشبية. تلتفت الدميه يُمنة ويُسرى، تحرّك يديها فرحاً أو مناكفة، تفرح وتغضب، ترقص وتضرب الأرض بقدمها، حتى تغدو لحماً ودماً، فتنفث الروح في الحضور.

على مقربة من المسرح الذي شيّده بنفسه يقف مهدي كريرة (39 عاماً). يراقب فريقه "خيوط" معظمه من الفتيات، وهم يحرّكون الدمى. لا ينفكّ عن توجيه الملاحظات لهم "انهض بقوام دميتك"، "اجعلي حركة اليدين متزامنة مع الموسيقى"، "هذا الخيط بحاجة إلى إصلاح فوراً". يتعامل كريرة بانفعال تارة ومزاح طوراً.  صبور لا يملّ من إعادة البروفا مراراً وتكراراً حتى يتأكّد أن الأمور تسير على ما يُرام. فقد نالَ حظّه من الصبر منذ 12 عاماً حين أراد أن يعتنق فن الماريونيت ولم يجد مرشداً واحداً في قطاع غزَّة يدلّه السبيل.

ربما كان عمله في مجال الكتابة الإبداعية وتدريب المعلّمين على الدراما والتعلّم النشط والحكواتي، سبباً لانعطافه نحو هذا الشكل من الفنون، لكن عدم وجود نموذج واحد يحتذي به  في غزَّة جعل الأمر "تحدياً وبحثاً عن التميّز والريادة"، هكذا يفسّر كريرة في مقابلة مع الميادين الثقافية انجذابه نحو هذا الفن وبحثه الجاد الذي لم يقف حتى اليوم.

  • الماريونيت لا تدر دخلاً لكنها تصنع الابتسامة في غزّة
    الماريونيت لا تدر دخلاً لكنها تصنع الابتسامة في غزّة

بدأ كريرة مع الأنترنت رحلة التعلّم الذاتي. قدّم له اليوتيوب بعض المخطّطات لصناعة الدمى، ونظراً إلى معرفته المُسبقة ببعض المواد الخام وكيفية إعادة تدوير الأشياء المُهمَلة، بدأ بتصنيع أول دمية.

يقول كريرة "لم تنجح محاولتي الأولى، لكنها لم تفشل تماماً، بفضلها اكتشفت أسرار المواد وبدأت بتطويع مواد جديدة كـعجينة الورق والسراميك"، ساعده في ذلك صديقه أشرف شيخو الذي سيواصل معه لاحقاً نحت وصناعة الدمى.

فقد تمكَّن بمساعدة شيخو من صناعة دمية ماريونيت حقيقية، لكن لكل شيء إذا ما تم نقصان، يقول كريرة "ما يجعل الدمى حقيقية لدى الجمهور هو حركتها، كان لا بد من تحريكها وهنا واجهت الصعوبة الأكبر"، أصبح نطاق البحث أكثر اتساعاً، إضافة إلى تواصله مع فنانين عرب وأجانب، حتى تمكّن أخيراً من الاستدلال على مخطّط للحركة، ثم لتحريك الفم، كمَن وصل لاهثاً من طول مسيره، يضيف "جرّبت كثيراً وعانيت بالفعل حتى تمكَّنت من تحريك فم الدمية، وبقيت لديّ أمنية.. أن أتمكَّن من تحريك جفون العينين"!

تسبق صناعة الدمى مراحل عدَّة. فبعد الاطّلاع على نص القصة أو المسرحية، يتم تحليل الشخصيات، ثم تُرسَم على ورق، بعد مرحلة التخيّل هذه يتم نحت الدمية ويضاف إليها الشعر والأطراف والملابس.

  • الماريونيت لا تدر دخلاً لكنها تصنع الابتسامة في غزّة
    الماريونيت لا تدر دخلاً لكنها تصنع الابتسامة في غزّة

كما بدأ كريرة السبيل وحده؛ أنتج على فترات عروضاً قصيرة من كتابته وإخراجه، وكان بيته أول مسرح له، وثّق العرض بالفيديو ونشره عبر الأنترنت واليوتيوب.

يقول "استمرّيت في تسجيل عروض قصيرة ونشرها على الأنترنت، لقد حظيت بقبول الناس وحصلت على طلبات إنتاج عروض جديدة لصالح مؤسَّسات وجامعات"، المحافظة على المياه، الخرس الاجتماعي، حق الميراث، الحق في الحياة، كانت من الثيمات التي عمل عليها في عروضه، ويعتبر كريرة أن "الفن أقدر من الخطابات وورشات العمل في توصيل مضمون الرسالة، فهو برمزيّته وعفويّته يترك أثراً كبيراً في نفوس الناس أكثر مما تفعله المحاضرات".

لذا لم يعد بإمكان كريرة وصديقه شيخو البقاء بمفردهما، كانت الحاجة ماسة إلى فريق يحرّك الدمى وتتوزَّع عليه أدوار المسرحية، وشيئاً فشيئاً بدأ بتعليمهم كيفية صناعة الدمية، فيشرح للميادين الثقافية قائلاً: "كثيرون ألقوا عليّ اللوم؛ إذ كيف أمكنني أن أُلقي بهذا العِلم في حِجر مجموعة من الفتيان والفتيات وأنا الذي اجتهدت طويلاً حتى تمكَّنت من وضع موطىء قدم لهذا الفن في غزَّة"، ويردف مبتسماً "برأيي اجتهادي لا يجعل هذا الفن حكراً عليّ، التعلّم مُتاح للجميع، وأنا بحاجة إلى فريق شغوف يساعدني لإنجاح العمل".

  • الماريونيت لا تدر دخلاً لكنها تصنع الابتسامة في غزّة

ليست الصدفة هي التي قادت آلاء العصار29 (عاماً) إلى الانضمام إلى فريق "خيوط". تقاطع طريقها مع كريرة حين كانت مُتدرّبة في التعلّم النشط والدراما، وهي بالأساس صانعة أفلام كرتون، لكنها بانضمامها إلى الفريق تقول إنها تعلّمت الكثير، فقد "تعلّمت رسم الشخصية ووضع المسافات بدقّة بين تفاصيل الوجه، وكذلك نحت الوجه وتركيب المفاصل"، تتحدّث العصار للميادين الثقافية بِنَهمٍ لا يُمكنه أن يُشبع سريعاً "أريد أن أعرف أكثر عن تحريك الدمى وصناعة الديكور الخاص بالمسرح، بغضّ النظر عن العائد المادي المتواضع، فإن المعرفة تشغلني أكثر".

إقرأ أيضاً: أنماط الشخصية تحكمها الأفكار والمشاعر.. كيف يمكن اكتشافها؟

يوضح كريرة أنه وفريقه يعتمدون في تمويل عروضهم على المشاريع والمِنَح المُقدَّمة من المؤسَّسات، حيث لا يوجد تمويل ثابت أو مسرح خاص بدمى الماريونيت. فهو وفريقه يتوقون لأن يكون لديهم مسرح وباص مُتنقّل يمكنه أن يصل إلى المناطق الحدودية المُهمَّشة في قطاع غزَّة، ليقف المسرح على أرضها ويقدِّم عروضاً للأطفال.

  • الماريونيت لا تدر دخلاً لكنها تصنع الابتسامة في غزّة
    الماريونيت لا تدر دخلاً لكنها تصنع الابتسامة في غزّة

سبق لكريرة أن نظّم بعض العروض في هذه المناطق وجمهوره من الناس والأطفال البُسطاء، لكنها ورغم قلّتها يعتبرها "أجمل العروض التي قدّمتها، لقد تفاعل معها الأطفال بشكل مُبهِج كأنهم مسحورون، إنه فن ليس للترفيه فحسب، بل أبعد بكثير"، ويذكر أنه بعد انتهاء كل عرض للدمى، يتحلّق الشباب والفتيات والأطفال حوله بكامل انبهارهم، يطالبونه بأن يعلّمهم كيفية صناعة وتحريك الدمى.

لا عجب حين تغنّى الشيخ إمام بكلمات الشاعر فؤاد قاعود في قصيدته "الماريونيت": "مربوط في خيط دقيق أطيعه لو أمر، يشدّ خيط في أيدي اليمين أمدّها عند القمر، يشّد خيط جفوني تنفتح وأشغل البصر، يشدّ خيط عواطفي أنتشي وأحب، يشدّ خيط جنوني انتفض أهبّ، وألاقي قلبي دبّ دبّ ويملكه الغضب، كأنه ما هو سر يدري بيه أحد".