لهذه الأسباب لن تعترف فرنسا بجرائمها بحق الجزائريين

إعترفت باريس بقتلها المواطن الفرنسي المناضل موريس أودان، فلماذا لا تقرّ بجرائمها بحق الجزائريين منذ العام 1830؟ وما علاقة ذلك بنظرة الرجل الأبيض للجزائريين؟

العربي بن مهيدي في المعتقل

أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الأسبوع الماضي، وفي خطابٍ رسمي، مسؤولية الجيش الفرنسي عن تعذيب عضو الحزب الشيوعي الجزائري المناضل موريس أودان، الذي قاتل في صفوف الثورة الجزائرية من أجل الاستقلال حتى الموت سنة 1957 إِبَّان ما يُسَمَّى "معركة الجزائر".

ماكرون الذي اعترف باستعمال بلاده لنظامٍ اعتمد على التعذيب خلال حرب التحرير (الثورة الجزائرية) 1954-1962، أمر بفتح الأرشيف المتعلّق بقضايا اختفاء مدنيين وعسكريين من فرنسيين وجزائريين خلال ذات الفترة. لاقت هذه الخطوة ترحيباً من أطراف أكاديمية ورسمية جزائرية، مُعْتَبِرةً إيّاها خطوة في الاتجاه الصحيح نحو الاعتراف بكل الجرائم التي ارتكبتها فرنسا الاستعمارية بحق الجزائريين وحتى الاعتذار عنها. لكن هذا الاعتراف جاء ليطرح أسئلة حول جِدِّية الدولة الفرنسية في المُضِيِّ في هذا الطريق، وفي طبيعته وسياقه. فهل نحن أمام مسار سيحدث قطيعة ثقافية وسياسية فعلية لفرنسا مع ماضيها الاستعماري؟

"المُهِمَّة التحضيرية" للرجل الأبيض في الجزائر

الإجابة عن هذا التساؤل ليست مرتبطة، بالتأكيد، بالتمنيات أو النوايا بقدر ما هي مُتعلِّقة بفهمنا لطبيعة التوسّع الاستعماري بشكلٍ عام وفي الجزائر بشكلٍ خاص. وكذلك صِلَتِه بتطوّر الرأسمالية كنظامٍ اقتصادي أولاً وثانياً بالمشاريع الثقافية الاستشراقية التي رافقت الفعل العسكري للاستعمار، والتي هَدَفَت إلى ترسيخ هيمنة ومركزية الرجل الأوروبي الأبيض أمام الشعب الجزائري، بوصفه "شعباً همجيّاً عاش على النَهب والقرصنة"، ويفتقد إلى "مُقوِّمات التَحَضُّر" التي لن يصل إليها إلّا إذا قَبِل ب"المُهِّمَة التحضيرية" للرجل الأبيض القادم من الضفة الأخرى للبحر المتوسّط.

إذاً، تأسّست هذه المُهِمَّة على منظومةٍ ثقافيةٍ كانت جزءاً أصيلاً من الإدارة الاستعمارية، كما كتب المؤرّخ الجزائري أبو القاسم سعد الله في كتابه "تاريخ الجزائر الثقافي"، عَمَدَت إلى ترجمة كل ما توصّلت إليه من بحوثٍ (حول القبائل الجزائرية المختلفة، اللهجات المَحْكِيَة، أشكال التديّن،...الخ)، ووثائق ومخطوطات، إلى اللغة الفرنسية من أجل توظيفها في ترسيخ نظامٍ استعماريٍ استيطانيٍ تكرّس على الأرض بقوّة النهب ومُصادرة الأراضي، ولكن أيضاً بارتكاب الجرائم وإبادة قبائل عن بِكرة أبيها أساسه هيمنة "هُوِيّة" الأقلية الأوروبية البيضاء التي تمتلك كل شيء، على "هُوِيّة" الغالبية من "الأهالي"(الأنديجان) المحرومين و"العاجزين عن الاندماج  والتحضُّر".

نحن هنا أمام بُنْيَة عنصرية مُسيْطِرَة على الفكر الغربي ومن ضمنه الفرنسي، طِيلة فترة الاستعمار (تدعمها الطبيعة الرأسمالية القائمة أصلاً على النهب والاستغلال)، ولا زالت مُسْتَمِرة وملموسة بالخصوص في حال فرنسا في مواقفها من مستعمراتها السابقة في إفريقيا، أو من خلال دورها في حرب الناتو على ليبيا، أو من الحرب في سوريا. فهل يمكن ضمن هذا السياق تَخَيُّل قطيعة بين الدولة الفرنسية وبين هذه البُنْيَة المُؤَسِّسَة لها؟  أو أن تشفى بسهولة من "مرض ماضيها الاستعماري" كما يسمّيه المؤرِّخ الفرنسي بنجامان ستورا في كتابه "حرب الذاكرات: فرنسا في مواجهة ماضيها الاستعماري"؟ خاصة أننا هنا بصدد اعتراف، رغم أهميته، جاء بصيغة "التنديد" بالنظام الذي اعتمد على التعذيب خلال حرب الجزائر وليس بالنظام الاستيطاني من جهة، ومن جهة أخرى توجّه هذا الاعتراف إلى مناضلٍ "أبيضٍ" من أصولٍ فرنسية هو الشهيد موريس أودان بدحضِ روايةِ "فراره وفقدان الاتصال به أثناء نقله" دُونَمَا أن يصل إلى حالة مناضلٍ آخر من "الأهالي" هو الشهيد العربي بن مهيدي رمز "معركة الجزائر" حيث لا زالت الرواية الفرنسية الرسمية تتحدّث عن انتحاره، رغم اعتراف بعض القادة العسكريين الفرنسيين بقتله (مذكّرات الجنرال أوساريس).

موريس أودان من التدريس إلى "معركة الجزائر"

إنطلقت الثورة الجزائرية في سنة 1954 بالأساس في الأرياف. لكن قيادة الثورة قرَّرَت نقل المعركة إلى العاصمة الجزائر، فشنَّت خلايا جيش التحرير الوطني في المدينة (انطلاقاً من حيّ القصبة العتيق ذي الغالبية المسلمة) بين 56 و57 عمليات تفجير استهدفت المستوطنين الأوروبيين ومصالحهم فيها، سُمِّيت بمعركة الجزائر (مدينة الجزائر).

ويمكن أن نجد الوصف الأمثل لهذا القرار في العبارة التي كتبها جان بول سارتر في مقدّمة كتاب "معذّبو الأرض":"إنّ المواطن من السكان الأصليين لا يشفي نفسه من العصاب الاستعماري إلا بطرد المستوطنين بقوّة ... إنّ إطلاق النار على أوروبي هو بمثابة قتل عصفورين بحجرٍ واحد، فهو يعني أن يقتل في آنٍ معاً الرجل الأبيض والرجل الخاضع لظلمه".

كان موريس أودان واحداً من الشباب الشيوعي القلائل من ذوي الأصول الأوروبية واليهودية (هنري علاّق، إيميل شقرون، فرناند إيفتون ...الخ) الذين رسَّخُوا بانضمامهم للثورة الجزائرية مفهوماً جديداً وجذرياً للهُوِية أساسه المقاومة، من خلال كسر نَمَطِيَة الهُوِية البيضاء الأوروبية مقابل الهوية العربية "للأهالي".

قُتِل بعض هؤلاء فيما اختار الآخرون الجنسية الجزائرية بعد الاستقلال. إعتقل أودان أستاذ الرياضيات في جامعة الجزائر في هذه الفترة كما الكثيرين (جميلة بوحيرد، جميلة بوباشا، جميلة بوعزة زهرة ظريف وغيرهن)، ومورست ضدّه أفظع أنواع التعذيب حتى الموت، وذلك في إطار خُطَّةٍ مُضَادَّة شنّتها قوات المِظَلِّيِّين الفرنسيين بقيادة الجنرال ماسو، التي أُوكلت لها مهمة تفكيك شبكات جيش التحرير الوطني في المدينة.

الرواية الفرنسية الرسمية آنذاك (تماماً كما حاولت طمْس عملية الاغتيال التي نُفذت بحق أحد قادة الثورة العربي بن مهيدي)، وإلى الأسبوع الماضي، كانت تتحدّث عن فراره. المسألة بَدَت، رغم تداعياتها على قضايا الاعتراف والاعتذار التي تُعَقِّد العلاقة بين الجزائر وفرنسا، وكأنها مُوجَّهة للداخل الفرنسي.

الاعتراف بجريمة التعذيب أم بجريمة النظام الاستعماري؟

خلال زيارته للجزائر كمرشّحٍ للانتخابات الرئاسية، وصف ماكرون استعمار فرنسا للجزائر بالجريمة ضد الإنسانية، لكنه سُرعان ما تراجع عن تصريحاته بعد وصوله إلى السلطة (وقد سبقه فرانسوا هولاند بتصريحات مُمَاثِلة تعترف بالمسؤولية عن إطلاق النار على تظاهرات المهاجرين الجزائريين في باريس سنة 1961، وأخرى لجاك شيراك حول مجازر 8 أيّار/مايو 1945).

الأمر كما أشرنا سابقاً، أعقد من محاولاتٍ لاستقطاب أصواتٍ انتخابيةٍ هنا، أو بحضورٍ سياسيٍّ هناك، أو ببياناتٍ يتم اختيار كلماتها بدقّة لتُؤَدِّي وظيفتها في إبراز الطابع المعزول أو الفردي للجرائم، وليس للدولة الفرنسية ككيانٍ قام على الاستعمار.

فالمسألة بُنْيَوِية مُتعلّقة بجوهر مفهوم الاستعمار أساساً، وبمنظومة النهب العنصرية التي تُعيد إنتاج نفسها بأشكالٍ مختلفة ولا تزال تحكم علاقة الغرب بِبُلْدَانِنا.

لهذه الأسباب لن يأتي اليوم الذي تقطع فيه فرنسا مع ماضيها الاستعماري وتعترف فيه بتعذيبها وقتلها للجزائريين خلال حرب التحرير وقبلها ولن نسمع يوماً ما عن بيانٍ من الرئاسة الفرنسية تعتذر فيه مثلاً عن إبادة قبيلتي "العَوْفِية" و"أولاد رياح" في سنوات 1832 و 1845.

نتذكّر في هذا الصَدَد ما كتبه المُناضل فرانز فانون في كتابه "مُعَذَّبُو الأرض" في معرض حديثه عن مركزية العنف وتجذّره في المنظومة الاستعمارية:

"ليس التعذيب عَرَضاً ولا خطأً، ولا يمكن فهم الاستعمار خارج إمكانية التعذيب والاغتصاب والمجازر، التعذيب نموذج من نماذج العلاقات بين المُسْتَعْمِر والمُسْتَعْمَر".

ما يَهُم فِعلاً، هو أن جيل الثورة، فهم جَيِّداً مضامين تلك العلاقات التي تحدّث عنها فانون، وأدرك أن ممارسة العنف الثوري ضدّ الاستعمار، هو وحده السبيل لنيْل الحرية.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]