محاذير حول الدراسات المستقبلية الغربية والأميركية في مجال الطاقة

ينبغي التمييز بين مفهوم الحرص أو الحذر في التعامل مع نتائج التقديرات والدراسات الغربية في مجال النفط والطاقة، ورفض التعامل مع هذه التقديرات والدراسات أو عدم الأخذ ببعضها ومراجعة أساليبها الفنية.

  • محاذير حول الدراسات المستقبلية الغربية والأميركية في مجال الطاقة
    محاذير حول الدراسات المستقبلية الغربية والأميركية في مجال الطاقة

مع تفاقم حدة أزمة الطاقة في العالم أجمع، وفي دول الاتحاد الأوروبي خصوصاً، بما يذكرنا بالأزمة العاصفة التي صاحبت حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بات الحديث عن أبعاد هذه الأزمة وأفق المستقبل بمنزلة حديث كل بيت، ومجال نقاش كل الناس. وهنا، ينبغي أن نتوقف عند المحاذير التي ينبغي أن يتجنبها العقل التحليلي العربي عند النظر إلى أفق المستقبل، خصوصاً حينما يكون الغرب هو مصدر المعلومات والبيانات وأداة التحليل.

عند النظر إلى المستقبل في مجالات النفط والطاقة، ينبغي التوقف بالتحليل عند مستويين:

الأول: الحذر المطلوب عند التعامل مع الدراسات والتقديرات المستقبلية الغربية، وخصوصاً ما يتعلق منها بالتوزيعات الجيو – استراتيجية لمصادر الطاقة الحالية عموماً (نفط، غاز، فحم، نووي...)، أو الاحتياطيات المستقبلية لهذه الموارد. هذا الحذر يشمل التعرف بدقة إلى: 

1-   من يقوم بالتقديرات والدراسات.

2-   النماذج الرياضية والأساليب الفنية المستخدمة.

3-   الظروف الدولية أو الإقليمية المصاحبة لصدور مثل هذه الدراسات والتقديرات.

الثاني: النظر إلى المستقبل بأخذ عناصره المختلفة بعين الاعتبار، وكذلك ديناميكية الواقع والحدث، وليس بمنظور المصور الفوتوغرافي، فالحدث هنا يشمل: 

1- الظروف العالمية من حيث: احتمالات النمو الاقتصادي وأفقه، ومعدلات التزايد السكاني، وأفق العلاقات الدولية من زاوية التعاون أو الصراع، كما هي الحالة الراهنة في أوروبا نتيجة الأزمة الروسية الأطلسية، أو التنافس بين أطرافها.. 

2- أفق التطورات التكنولوجية، وما وصل إليه العلم وتطبيقاته في المجالات كافة، وقطاعات الطاقة على وجه الخصوص، ومقدار الموازنات المخصصة للبحث العلمي فيها. 

3- بنية عمل الاقتصاد الدولي وآليته حالياً وفي المستقبل، ودرجة تأثيراتها الضارة – أو المفيدة – في مجالات الإنتاج، وتسويق الطاقة بمصادرها المختلفة، مثل آليات المضاربة، كالسوق الفورية Spot Market، أو السوق المستقبلية Future Market، وكذا نظم الضرائب ومستوياتها على المنتجات النفطية، مثل ضريبة الكربون...

4- قضايا البيئة والقوى السياسية والاجتماعية الداعمة لمثل تلك القضايا واتجاهات تفكيرها، ودرجة نفوذها على عمليات صنع القرار في الدول كافة، وسبل التعامل معها.

5- أفق الصراعات الدولية أو الإقليمية ومستقبلها، ودرجة تأثيرها في انتظام إمدادات الطاقة والنفط، وخصوصاً في حالة الشرق الأوسط الحافلة بالنزاعات والصراعات والأطماع، ويضاف إليها ما يجري حالياً في أوروبا.

فلنتناول إذاً كل واحدة بشيء من التفصيل:

أولاً: الحذر المطلوب في التعامل مع التقديرات الغربية

بادئ ذي بدء، ينبغي التمييز هنا بين مفهوم الحرص أو الحذر في التعامل مع نتائج التقديرات والدراسات الغربية في مجال النفط والطاقة، ورفض التعامل مع هذه التقديرات والدراسات أو عدم الأخذ ببعضها بعضاً ومراجعة أساليبها الفنية. يستند حذرنا – وليس رفضنا – إلى عدة اعتبارات، من بينها: 

1- طبيعة المادة موضوع الدراسة أو التقدير، فعلاوة عن كونها مادة استراتيجية تعتمد عليها الحضارة الإنسانية المعاصرة كلها والآلة الصناعية الغربية بصفة خاصة، فهي أيضاً ذات أبعاد سياسية، ما يؤدي غالباً إلى خضوع هذه التقديرات الغربية – وخصوصاً ما يتعلق منها بالاحتياطيات المؤكدة وشبة المؤكدة، وتوزيعاتها الجغرافية – إلى اعتبارات الملاءمة السياسية، ومدى مناسبة ما ينشر للمصالح الخاصة بالجهة القائمة على الدراسة أو التقدير، والحكومات التابعة لها. 

2- ولأنَّ المادة موضوع التقدير – النفط والغاز والفحم تحديداً – تكمن في باطن الأرض، بما يجعل مثل هذه التقديرات خاضعة لمدى تطور أساليب البحث والتنقيب والاستكشاف في كل فترة زمنية، ومقدار التطور التكنولوجي في هذا المجال، مثل استحداث أساليب المسح السيزمي الثلاثي الأبعاد، أو الحفر الأفقي Horizontal، أو الحفر في المناطق المغمورة والعميقة Deep- Water drilling.. كل تلك الأساليب الجديدة أدت إلى زيادة المعدل العالمي في نجاح الاستكشاف من 15% عام 1970 إلى 20%، ثم إلى 30% في الوقت الحالي (1)، وهي كلها عوامل قد تؤدي إلى تغيير وتعديل التقديرات الدورية التي تصدر عن هذه الجهات الغربية، والمتعلقة بإمكانيات كل منطقة ومستوى احتياطياتها المؤكدة في كل فترة زمنية وأخرى. 

4-   من يقوم بالتقديرات والدراسات الغربية شركات نفطية كبرى ذات تاريخ احتكاري واستغلالي معروف – مثل الشركة البريطانية BP أو الشركات الأميركية أو غيرها – أو معاهد علمية وهيئات بحثية ذات صلات وثيقة بدوائر رسم السياسات وصنعها في الدول الصناعية الكبرى، وفي طليعتها الولايات المتحدة، أو وكالات دولية متخصصة مثل الوكالة الدولية للطاقة IEA التي أنشئت عام 1974، كآلية جماعية غربية لإدارة الأزمة ضد منظمة أوبك تحديداً، أو معهد مثل معهد معلومات الطاقة الأميركي EIA، أو مجلس الطاقة العالمي، أو غيرها.

5- النماذج الرياضية والأساليب الفنية المستخدمة في مثل هذه الدراسات - والتي على أساسها توضع التقديرات والاحتمالات والسيناريوهات، ودراسات التنبؤ Forecasting - تحتاج أيضاً إلى تأمل وتدقيق ومراجعة. 

تعتمد دراسات بناء التوقعات المستقبلية Future على تحليل الاتجاهات العامة Trends Analysis أو على المنهج الهندسي Engineering Method، ووفقاً لنوعية الأجهزة المستخدمة ودرجة تطورها (2). وقد درجت أجهزة الاستخبارات الأميركية على استخدام نموذج تحليل الاتجاهات العامة في التحليل، كما يشير "تقرير الاتجاهات العالمية حتى عام 2015" الصادر في تشرين الأول/أكتوبر عام 2000 (3). 

أما دراسات التنبؤ، فقد عرفت بدورها صورتين أساسيتين:

الصّورة البسيطة عبر استخدام أسلوب الإسقاط الإحصائي Statistical Projection لاتجاهات زمنية مع وجود تفاوت في مستويات تقدم هذا الأسلوب وتعقده، إذ تتخذ شكلين أو طريقتين: شكل الإسقاط الإحصائي الشامل Overall Projection أو شكل الإسقاط القطاعيSectoral Projection (4) .

الصورة الأخرى هي أسلوب الارتباط الإحصائي Statistical Correlation بين الاستهلاك الفردي أو الإجمالي للطاقة وبين الناتج المحلي الإجمالي GDP أو الناتج القومي الإجمالي GNP على مدى سلسلة زمنية، وعلى اعتبار أن استهلاك الطاقة هو المتغير التابع.(5) 

تواجه هذا النوع من الدراسات عدة صعوبات، نذكر منها:

1- صعوبة التحديد الكمي للطاقة المطلوبة، والمتغير المستقل الذي سينعكس أثره في حجم الطاقة، سواء كان الناتج القومي أو الرقم القياسي للإنتاج الصناعي أو غيرها. 

2- صعوبة التعرف إلى وحدة القياس المعادل للطاقة. وهنا، ينبغي للباحث أن يتأكد من وحدات التحويل المستخدمة Conversion، بحيث تصحّح الفروق الناتجة من اختلاف هذه المعايير قبل إجراء المقارنات الإحصائية. وفي هذا الصدد، ينبغي التمييز في دراسات التنبؤ بين عدة تعريفات للطاقة، من أهمها:

أ – معيار الطاقة الأولية P.E.R، أي مصادر الطاقة الأولية التي تستخدم لتوليد الطاقة النهائية (نفط، غاز، يورانيوم، فحم...). 

 ب – معيار الطاقة المفيدة أو الاستخدام النهائي للطاقة U.E، مثل الطاقة الكهربائية أو الحرارية أو النووية...

ونجد أن صعوبة التعرف إلى وحدات القياس من أسباب الخلاف في التقدير بين الجهات الدولية المتخصصة فيما يتعلق بتقدير حجم الاستهلاك العالمي من الطاقة. على سبيل المثال، فيما قدرت وكالة الطاقة الدولية I.E.A هذا الاستهلاك عام 1997 بنحو 8743 مليون طن زيت معادل (Toe)، وفقاً لمعامل التحويل التي اعتمدتها Conversion ratio، ذهبت هيئة معلومات الطاقة الأميركية E.I.A إلى أنها 9572 مليون طن زيت معادل Toe، في حين قدرتها الشركة البريطانية للبترول B.P بأنها 8504 مليون طن زيت معادل.

3- صعوبة فنية أخرى تتمثل فيما يواجهه القائمون على دراسات التنبؤ من تباين وتفاوت في مستويات التقدم، وأثر الفن التكنولوجي ودرجة كثافة الطاقة Energy Intensity لإنتاج وحدة واحدة من الناتج القومي، أو وحدة واحدة من الناتج الصناعي أو غيرها(6).

4- هناك أيضاً صعوبات تتعلق بمدى التيقن - من عدمه – بشأن المؤثرات الخارجية، مثل حالة الطقس، ومعدلات التزايد السكاني، والكوارث الطبيعية، ونظم دعم الأسعار، ومعدلات نمو الناتج القومي، ومعدلات الضرائب المفروضة على الطاقة، وغيرها من المؤثرات الخارجية. 

5- تتأثر التقديرات كذلك والتنبؤات بنوعية وطبيعة الفرضيات التي تقوم على أساسها تلك التوقعات، وهي أحد مصادر التحيز والخطأ في بنائها. وسواء كان ذلك راجعاً إلى عوامل اجتماعية وشخصية للباحث، أو للقيم العلمية لفريق البحث، أو بسبب أفكارهم وأيديولوجياتهم السياسية (7)، أو لأي أسباب أخرى، فإن الأمر بلا شك يلقي ظلاله على النتائج والدراسات. خذ مثلاً المبالغات الكبيرة التي تمت في أثناء وضع تقديرات أحجام الاحتياطيات المتوقعة في بحر الشمال (بريطانيا والنرويج) في مطلع السبعينيات، بما يكشف التوظيف السياسي لمثل هذه التقديرات والدراسات غير الدقيقة، وهو ما تكرر بشأن بحر قزوين في الثمانينيات. 

وقد ابتكر الباحثون والمعاهد العلمية المتخصصة عدة نماذج Models للتنبؤ بالطلب على الطاقة عموماً، والنفط والغاز على وجه الخصوص، كما يجري العمل باستمرار بأسلوب وضع السيناريوهات للتعرف إلى أفق سوق الطاقة العالمي في ظل ظروف وقيود مختلفة، ومن أبرز هذه النماذج ثلاثة، هي:

النموذج الأوربي القديم: الذي أعدته وصممته منذ عقد الخمسينات من القرن الماضي لجنة تابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي الأوربي OEEC، وجرى تطويره وإدخال عناصر جديدة إليه عبر الزمن.     

النموذج الأميركي الحديث: الذي تستخدمه هيئة معلومات الطاقة EIA، ويطلق عليه NEMS، ويتولى وضع عدة سيناريوهات للطلب على الطاقة. 

النموذج العالمي: الذي صممته وكالة الطاقة الدولية منذ أن أنشئت عام 1974، يطلق عليهWEM (8) .

وتعتمد دقة السيناريوهات الموضوعة على مدى جودة المعلومات والبيانات التي تدخل في بنائها، وعلى درجة سلامة التحليل المنهجي المستخدم، وتقليص مساحة التحيزات من جانب الباحثين أو الدارسين. 

وقد قامت هيئة معلومات الطاقة الأميركية EIA في أواخر عام 1997 ببناء 5 سيناريوهات لتقدير حجم الإنتاج والعرض العالمي للزيت الخام ومشتقاته، في ظل استخدام قيم متوسطة ومرتفعة ومنخفضة لمتغيرين أساسيين هما: سعر الزيت وحجم إنتاج الدول المنتجة، سواء كانوا أعضاء في منظمة أوبك أو خارجها، وذلك خلال الفترة الزمنية 2000 و2010 وعام 2020(9).

وكذلك فعلت بعض الجهات الإقليمية والعربية والدارسين العرب، إذ قامت اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) ESCWA عام 1982 بوضع نموذج لميزان الطاقة الإقليمي وتوقعات الطاقة حتى عام 2000. كما قام إبراهيم إبراهيم ومعاونوه بدراسة ضمن أعمال الأمانة العامة لمنظمة الدول العربية المصدرة للنفط (أوابك)، وقُدمت الدراسة إلى مؤتمر الطاقة العربي الثالث المنعقد في العاصمة الجزائرية عام 1985. 

أما دراسة Totto & M. Johnson، فقد بنت عدة سيناريوهات بالاعتماد على 38 متغيراً ودوالياً تحدد العلاقة بين تلك المتغيرات، ومن بينها 19 متغيراً تم تحديد الإسقاطات المستقبلية لها خارج نطاق النموذج، باعتبارها متغيرات خارجية Exogenous. أما المتغيرات الأخرى، فقد تم تحديد قيمها داخلياً، أي ضمن إطار النموذج ذاته Indigenous. ويوجه البعض انتقادات إلى هذه الدراسة من زاوية إهمالها أثر المتغيرات في أسعار الطاقة المحلية على مستويات الاستهلاك(10).

ولعل هذا، على العكس، هو الذي ميز دراسة إبراهيم إبراهيم ومعاونيه، إذ أخذ هذا العنصر بعين الاعتبار، واعتمد في بناء النماذج الرياضية لتقدير دوالي الطلب على أنواع الوقود المختلفة لكل بلد عربي على حدة، وأجرى إسقاطات مستقبلية للسنوات 1990 و1995 و2000، وكانت المشكلة التي واجهتهم تكمن في مدى توافر الإحصاءات والبيانات عن الاستهلاك الفعلي للطاقة وروافدها المختلفة في البلاد العربية(11).

ثانياً: التعامل مع عناصر المستقبل في ديناميكيتها وتفاعلها معاً

العامل الثاني المهم في تحليل المستقبل هو مدى شمول هذه العناصر وإحاطتها بالجوانب المؤثرة في نتائج المستقبل وتفاعلاتها عبر الزمن. خذ مثلاً عامل الظروف العالمية وتقلباتها واتجاهاتها، إذ تؤثر في أسواق الطاقة بروافدها المختلفة من خلال: 

1-الاتجاه إلى التكامل في الاقتصاد العالمي (التكتلات الإقليمية) والعولمة والقواعد المبنية عليها، من فتح الأسواق، وخصخصة الأصول والممتلكات العامة، وإذكاء حدة المنافسة العالمية، ومن ثم الضغط على الأسعار وهوامش الربح، وما يترتب عليها من إلزام شركات الطاقة على البحث الجدي عن طرق جديدة لترشيد نفقاتها، سواء في العمليات الأولية أو العمليات اللاحقة(12).

2-التطورات التكنولوجية في مجال الاتصالات والمعلومات، وتأثيرها في النمو في الدول الصناعية المستهلكة للنفط والغاز، ودور ذلك في رفع المنافسة السعرية والدولية، وكذا تأثيرها في تغيير أنماط استهلاك الطاقة. 

3-إعادة هيكلة الصناعة النفطية، وأهمها ما شهده عقدا الثمانينيات والتسعينيات من اندماجات بين الشركات العملاقة، وبالتالي قدرة هذه الشركات المندمجة على التكيف السريع والمرن مع المتغيرات التقنية والتأثير في الأسواق. (13) 

4-إنشاء منظمة التجارة العالمية WTO بعد توقيع اتفاقية "أوروغواي" عام 1994، وتأثيراتها في الصناعة النفطية خصوصاً. 

وإذا انتقلنا إلى التطورات التكنولوجية - التي بنت عليها الدول الغربية عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، سياساتها في مجال الطاقة وفي المواجهة مع الأوبك بعد عام 1973 (14) - فإنَّ هذه التطورات الكبيرة اصطدمت بوقائع عنيدة جعلت نطاق فاعليتها الكلية على أسواق النفط ذا أثر محدود. ونشير هنا إلى بعض الحالات والنماذج ودلالتها المتضادة:

(أ) على سبيل المثال، أثمرت التطورات العلمية في مجال البحث والتنقيب أساليب جديدة - مثل المسح السيزمي الثلاثي الأبعاد، والحفر الأفقي، والحفر في المناطق المغمورة - في الوصول إلى مناطق لم تكن ممكنة من قبل، مثل الطبقة الملحية والمناطق المتاخمة للبحار، كما خفضت نسبة الآبار الجافة. 

وبذلك، ارتفع المعدل العالمي في نجاح الاستكشاف من 15% عام 1970 إلى 30% حالياً (15)، وخصوصاً أن متوسط نفقات البحث والتنقيب يعادل نحو 60% من نفقات شركات النفط العالمية، فيما تصل نسبة التسويق 22% من إجمالي المصروفات الرأسمالية، والباقي، وقدره 16%، يتوزع بين أنشطة النقل والتكرير والكيماويات..(16).

(ب) التطورات التكنولوجية في مجال استخدام الطاقة الثانوي أو النهائي. على سبيل المثال، أدى تطوير تقنية خلية الوقود Fuel Cell في السيارات إلى خفض كبير في استهلاك الزيت كوقود، كما أدى انتشار أفران القوس الكهربائي في صناعة الصلب إلى خفض كمية فحم الكوك المستخدم بصورة كبيرة، ما نتج منه خفض حصة الفحم في مكونات الطاقة العالمية، رغم توافره بكثرة في الدول الصناعية المتقدمة، ولأجل زمني طويل نسبياً.

الأمر نفسه يمكن قوله بالنسبة إلى التطورات في مجال معامل التكرير، وفي إسالة الغاز الطبيعي، واستخلاص الوقود من رمال القار وغيرها (17)، وكذا تطوير المشاريع المزدوجة الأغراض لإنتاج الكهرباء والحرارة معاً (18)، ومحاولات التحول إلى أنواع بديلة من الوقود، مثل الميثانول والإيثانول والزيوت المخلقة والغازات المسيلة والهيدروجين (19)، وكذلك المحاولات المستمرة لتحسين نظم الاحتراق الداخلي ونسب الحمل/السرعة في السيارات والسفن وغيرها من وسائل النقل. كل هذه المحاولات لم تؤدِّ عملياً إلى تقليل الاعتماد على مصادر الطاقة الأحفورية، وخصوصاً النفط والغاز. 

وتطلع علينا النشرات الغربية كل يوم بتحسينات جزئية في بعض الصناعات، مثلما أعلن خفض كثافة الطاقة في صناعات اللب والورق فيما بين عامي 1972 و1985 بنسب مقدارها 36%، وما يجري من محاولات في صناعات أخرى تستهلك كميات كبيرة من الطاقة، مثل صناعة الإسمنت(20)، والمحاولات الجارية لتطوير نوعية المفاعلات النووية، مثل المفاعل السريع ذي المبرد الرصاصي، ومفاعل المياه الثقيلة الحراري ذي وعاء الاحتواء ووعاء الضغط من الخرسانة السابقة الإجهاد والصلب(21).

وأخيراً، المحاولات القائمة على قدم وساق لما يسمى "تكنولوجيا الفحم النظيف" من خلال إدخال نظام الاحتراق الثلاثي المراحل النظيف بيئياً في محطات الطاقة الحرارية، مع إزالة الرماد والجزيئات العالقة وأكاسيد الكبريت والنيتروجين(22).

كل هذه التطويرات التكنولوجية وأبحاثها، بقدر ما سعت لتحقيق اكتفاء نسبي أعلى للدول الصناعية المتقدمة بمصادرها، والتقليل من اعتمادها على مصادر الطاقة من خارجها – بخاصة من الأوبك – فإنها جاءت بنتائج عكسية، إذ عززت احتياطيات هذه المنطقة من مصادر الطاقة الأحفورية (وخصوصاً النفط والغاز) لآجال أطول، ومن ثم في ميزان الطاقة العالمي. ورغم استمرار الأبحاث في هذه المجالات لأكثر من 30 عاماً، فهي ما زالت غير قادرة على إجراء تحول نوعي واستراتيجي في هيكل الطاقة العالمي وميزانها. 

1-   الصراعات الدولية والإقليمية وتأثيراتها. هذا العنصر من أكثر العناصر تأثيراً في أوضاع الطاقة في العالم أجمع، وخصوصاً في فنزويلا، وأحداث غزو العراق واحتلاله في آذار/مارس عام 2003، وكذلك ما ترتب على الأزمة الأوكرانية الروسية حالياً من إشعال نار فوق بركان غاضب وساخط على السياسات الأميركية والمتحالفين معها، ما يرشح هذا العنصر لأداء دور غاية في الخطورة على الأوضاع في المنطقة والعالم. 

2-بنية وآلية عمل الاقتصاد العالمي الراهن تؤدي بدورها إلى خلق بؤر أزمات متعددة، فالعولمة المتسارعة لم تكن انسياباً أسرع لحركة الاستثمار والسلع والأفراد، بقدر ما جاءت بنقيضها الأكثر خطورة، ألا وهي حركات المضاربة Speculation، ليس فقط في مجال العملات والمضاربة على أسعار الصرف بينها (23)، بل في مجال النفط تحديداً، وهي الأسواق التي انتعشت بعدما تخلت منظمة الأوبك - في منتصف الثمانينيات - عن نظام التحديد السعري لمنتجاتها، فشجعت بذلك ما يسمى السوق الفورية والسوق المستقبلية في مجال النفط، وهو ما أدى إلى أضرار هائلة على المستهلكين لمصلحة حفنة من الشركات والتجار الرأسماليين المتمرسين في الدول الغربية ووكلائهم المحليين في بعض الدول العربية وفي جنوب شرق آسيا. 

لكل هذا، فإنَّ الحذر يظل واجباً حينما نتعامل، نحن العرب أو الدول النامية، مع التقديرات والدراسات القادمة إلينا من الغرب عموماً، ومن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي خصوصاً.

 

* هوامش 

(1)د. حسين عبد الله، "البترول العربي.. دراسة اقتصادية سياسية"، القاهرة، دار النهضة العربية، 2003، ص 43 – 35.

(2)د. عبد الرازق الفارس، "هدر الطاقة.. التنمية ومعضلة الطاقة في الوطن العربي"، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1995، ص 317. 

(3)Global Trends 2015 , A dialogue About The Future With Non – Governmental Experts , Department Of State / Bureau Of Intelligence And Research And CIA,s GLOUBLE Future Project , oct. 2000. 

(4)د. حسين عبد الله، المرجع السابق، ص 132. 

(5)المرجع السابق، ص 132. 

(6)المرجع السابق، ص 134، وكذلك: مجلس الطاقة العالمي "الطاقة لعالم الغد"، مرجع سبق ذكره، ص 139. 

(7)د. عبد الرازق الفارس، مرجع سابق، ص 317. 

(8)د. حسين عبد الله، المرجع السابق، ص 134 - 139. 

(9)المرجع السابق، ص 158. 

(10)د. عبد الرازق الفارس "هدر الطاقة"، مرجع سابق، ص 313 - 314. 

(11)المرجع السابق، ص 316. 

(12)عاطف محمد الجميلي، "النفط العربي.. فرص وتحديات المستقبل"، واردة في كتاب "مؤتمر النفط والغاز في سياسات الأمن الدولي"، الإمارات العربية، مركز زايد للتنسيق والمتابعة، حزيران/يونيو 2002، ص 77 وما بعدها. 

(13)لمزيد من التفاصيل عن عمليات الاندماج بين الشركات النفطية الكبرى، راجع: د. محمد محروس إسماعيل، "اقتصاديات البترول والطاقة"، الإسكندرية، دار الجامعات المصرية، 1988، ص 129 - 134. 

(14) the Macmillan press LTD , London , 1978 , p 34 و " western energy policy و Douglas Evans    

 (15) د. حسين عبد الله، البترول العربي، مرجع سابق، ص 35. 

(16)المرجع السابق، ص 89 وما بعدها. 

(17)د. محمود سرى طه، "الاتجاهات المعاصرة في عالم الطاقة"، مرجع سبق ذكره، ص 134 - 233، وكذلك: معهد البحوث، جامعة الملك فهد للبترول، "مؤتمر الطاقة العربي الخامس"، القاهرة، 7-10 أيار/مايو 1994، ص 7 وما بعدها. 

(18)إيهاب صلاح الدين، "الطاقة وتحديات المستقبل"، القاهرة، المكتبة الأكاديمية، 1994، ص 235. 

(19)مجلس الطاقة العالمي، "الطاقة لعالم الغد"، مرجع سابق، ص 70. 

(20)مجلس الطاقة العالمي، المرجع السابق، ص 147. 

(21)المرجع السابق، ص 238. 

(22)المرجع السابق، ص 238. 

(23)المدهش أن من أكثر الأصوات التي ارتفعت محذرةً من مخاطر المضاربة في البورصات وأسعار صرف العملات، كان الشخص الذى مارس هذا الدور، وكاد أن يطيح الجنية الإسترليني في مطلع التسعينيات، وأوشك أن يدفع روسيا إلى الإفلاس عام 1998، وهو السيد جورج سورس. انظر في هذا: د. محمود عبد الفضيل، "سورس يحذر العالم من نفسه"، مجلة "وجهات نظر"، العدد الرابع، السنة الأولى، أيار/مايو 1999. ص 34 -37.