كيف دخل مدمنو الألعاب الإلكترونية ساحة الحرب؟

يقف الغرب حائراً في مواجهة عقائد وأيديولوجيات أخرى، لذلك تثير مشاهد الأطفال والطلاب شرقاً في "سلام فرمانده" وأناشيد القومية العربية في سوريا، وجنوباً في استذكار بوليفار في فنزويلا، قلق الأميركي من تفكيك منظومة اللعب.

  • كيف دخل مدمنو الألعاب الالكترونية ساحة الحرب؟
    الحد الفاصل بين المتخيّل والواقعي يفقد سلطته، ويصبح الموت على الشاشة محض رصيد نقاط

حين افتخرت وسائل الإعلام الأميركية بانضمام مدمني الألعاب الإلكترونية إلى ساحة الحرب في أوكرانيا، وإتقانها توجيه الطائرات المسيرة، كانت تريد بذلك تصدير صورة واحدة ذات غاية سياسية مفادها: "شباب عالم التسلية يقهرون الروس".

تختبئ خلف هذه الصورة الدعائية، صورة أخرى قاتمة ومخيفة لجيل يشارك في الحرب بسبب خبرة راكمها في ميدان الألعاب الإلكترونية، لا في ميدان المعركة الواقعي، وربما للمرح (for fun) أكثر مما هو دفاعاً عن أرض. 

لا يُخشى أن تطيل مشاركة هؤلاء الشباب أمد الحرب، فلم تطل حرب على يد هواة قادمين من عالم المرح والتسلية، من دون عقيدة أو أيديولوجيا، حتى ولو امتلكوا مهارات عالية في الإدراك البصري، وإدراك أبعاد الفراغ المتعددة، والإحساس الافتراضي بمقاومة الرياح، إنما الخشية كل الخشية من تبعات نظام التسلية الذي أدارته وغذّته الولايات المتحدة على مدار عقود. لا تعني هذه المشاركة واقعة هوليودية، إنما انكشافاً واسعاً لثمار حقبة القطب الواحد، ولكن، هذه المرة على الجبهة الثقافية والسيكولوجيا الاجتماعية.

 القتال عبر الشاشة 

"التقنية هي تفكيك للجسد، وليست أبداً وسيطاً وظيفياً، بل هي امتداد للموت، تقطيع أوصال وتجزئة، وليس في ذلك التلميح المجازي لوحدة الذات المفقودة، بل في الرؤية الانفجارية لجسد يتعرض "للجراح الرمزية"، لجسد اختلط بالتكنولوجيا في بُعد الانتهاك والعنف"  (جان يودريار–المصطنع والاصطناع).

يعتقد عدد من علماء الاجتماع والإنثروبولوجيا أن الإنسان استسهل القتل أكثر بعد التطور التكنولوجي في العالم وإنتاج أدوات جديدة للقتل عن بعد، ففي حادث القتل الأول في التاريخ، كانت المسافة اللازمة لإتمام القتل ذراعاً واحدة، ثم ابتكر الإنسان الحجارة المدببة والأسهم والرماح والسيوف، وصولاً إلى الأسلحة النووية التكتيكية اليوم ذات المديات القصيرة.

كانت مشاعر القتل تصبح أسهل مع تعاظم المسافة عن رائحة الدم، وكانت بروتوكولات الحروب القديمة، تعمل بمنطق غريزة البقاء، هناك في الميدان تشتعل غريزة القتل حفاظاً على البقاء، وعندما يسقط الآخر قتيلاً، فكثيراً ما كانت تترك الجثة ليكرّمها أهلها، وقد تتوقف المعارك أياماً بموت قائد كبير، وقد تكتب الأشعار في الخصم الميت، وكثيراً ما يشتعل شعور الندم.

لا شيء من هذا يبقى عندما يقتل مدمنو الألعاب الإلكترونية عبر الشاشة، حتى إن بروتوكولات أخلاقيات الحرب ليست حاضرة في خصائص الألعاب القتالية الجديدة، وكما يصف بودريار لم تعد التقنية وسيطاً وظيفياً، بل غيّرت معها ملامح الجسد، الملتصق بالشاشة هذه المرة.

إن الحد الفاصل بين المتخيّل والواقعي يفقد سلطته، ويصبح الموت على الشاشة محض رصيد نقاط، ويفقد الدم الحقيقي علاقته بانفعالات القاتل. 

التكنولوجيا العالمية، التي تصاحبها تكنولوجيا القتل بطبيعة الحال، تسير في اتجاه الدمج الكامل بين الواقعي والمتخيل، ويظهر ذلك حتى في مفردات وعناوين التكنولوجيا الجديدة، إننا نسير بسرعة عالية من "الواقع المُعزّز" (Augmented Reality) إلى "الواقع الخيالي" (virtual Reality)، هي السكة نفسها في السير من وضع الفلاتر على صور وسائل التواصل، وصولاً إلى الألعاب الإلكترونية التي تقذف فيها كرة البولينغ بيدك مع أنك لا تحملها، وصولاً إلى طموح "ميتا" في العراك المباشر مع هوية رقمية واقعية تكن لها الكراهية، سوف تتمكن ببساطة من ملاكمتها وإسالة دمها مع سماع صوتها الحقيقي الخارج فعلاً من حنجرتها البعيدة، ولكنك تسمعه عبر تقنيات الصوت الجديدة.

إن الانصهار العميق المقبل بين صورة الواقع وصورة المتخيّل، سوف تؤسس لمرحلة جديدة من اندماج القتل في المرح، مرحلة يشكّل فيها مدمنو الألعاب الإلكترونية المثال الصارخ على جفاف الإحساس بالموت. 

متلازمة العنف وفقدان التعاطف

في دراسة صدرت عن المركز الدولي لأبحاث الألعاب (international Gaming Research Unit)، تتناول التبعات النفسية على الشباب والمراهقين من إدمان الألعاب الإلكترونية. إنها تمثل تماماً تبعات نظام التسلية التي أسّست لمرحلة مشاركة الشباب في التحكم بمسيّرات حقيقية، ولكنها لم تنفصل بالنسبة إليهم عن مبدأ المحاكاة الذي خبروه. تتحدث الدراسة عن 3 أنماط أو مستويات أو مراحل لتبعات هذه الإدمان هي: فقدان التعاطف، والإدراك العدواني، والسلوك العدواني.

1.  فقدان التعاطف ويلاحظ فيه ارتباط وثيق (correlation factor) بين ممارسة الألعاب العنفية وقبول السلوك العدواني وفقدان التعاطف. في تجربة على 320 طالباً، كانت استجابة مدمني الألعاب الإلكترونية الحربية لأحداث تحتاج إلى مساعدة في مكان قريب بطيئة جداً (450%) أي كانت أبطأ منها لدى الطلاب الذين لم يدمنوا هذه الألعاب. 

2.  أما الشعور العدواني فسجّل فيه ارتفاع نتائج التقارير التي تقرّ بتعاظم هذا بعد الانتهاء مباشرة من جولات اللعب. اعتمد عدد من التجارب على اختصاصات متنوعة في الوقت نفسه، سلوكية نفسية، وطبية (عبر التصوير المستمر للدماغ ومراقبة التغيرات) وغيرها. قد لا يكون الأمر مستغرباً، فما يحدث اليوم مع جيل (Z)، حدث مرادفه مع جيل (x) و (Y) عندما كانت تدب فيهم الحماسة للعب كرة القدم بعد مشاهدة أفلام الكرتون ذات الصلة، إننا هنا نتحدث عن منطق واحد، ولكن بوعاء مختلف من الأفكار والقواعد السلوكية.

3.  وأخيراً السلوك العدواني ولا يستغرب فيه أن يُترجم الشعور العدواني إلى سلوك عدواني آخر، وكثيراً ما يرد عدد من الباحثين ظاهرة الجريمة في الولايات المتحدة في أحد أسبابها إلى رغبة المراهقين في ترجمة تجاربهم في عالم المحاكاة إلى الواقع الذي يعيشه. في bowling for columbine للمخرج الأميركي مايكل مور، تتجسد الصورة في الدمج بين الرغبة الواقعية في اقتناء السلاح لدى المدنيين في الولايات المتحدة وهوس الشباب في الألعاب الإلكترونية المتخمة بالقتل. 

بين عقيدتين.. التسلية والبناء العقائدي والأيديولوجي 

مع التداخل الحتمي بين الواقع والمتخيل، ثمة تيار بحثي ما زال مؤمناً بإمكانية الاستفادة من اللعب الإلكتروني، وبتقنيات الغرافيكس والمحاكاة العالية لمصلحة جوانب أخرى في الحياة.  وعزّزت هذه الألعاب كذلك الإدراك العدواني لدى الشباب، بإمكانها أن تعزّز لديهم الشعور بالتعاون، وبإمكانها أن تعزز مهاراتهم في التفاوض والدبلوماسية والذكاء العاطفي، وفي إمكان هذه التكنولوجيا أيضاً أن تؤدي دوراً تلطيفياً مهماً على مرضى السرطان مثلاً، كل ذلك ممكن لولا أن عقيدة التسلية مكوّن أساسي في نظام الربح العالمي. 

 بعد أن حوّل الغرب التسلية إلى عقيدة، كان من البديهي أن يتحول أيّ موت إلى حدث مسلٍّ. يعيش العالم رماد تفكك الناتو وتشظيه، هذا على جبهة السياسة والحرب، أما على الجبهة الثقافية لكل ذلك، فيقف الحلف نفسه حائراً في مواجهة عقائد وأيديولوجيات أخرى، تبني شبّانها بمنطق مختلف ودوافع مختلفة، حتى في الحرب؛ لذلك تكون مشاهد الأطفال والطلاب شرقاً في "سلام فرمانده" وأناشيد القومية العربية في سوريا، وجنوباً في استذكار بوليفار في فنزويلا، مشهداً يدعو إلى القلق الأميركي من تفكيك منظومة اللعب.. وهو قلق له موجباته الواقعية في كل حال.