مخاطر "التعاون" بين مصر و"إسرائيل" على الأمن القومي العربي.. في المجال الزراعي (3-4)

بعد مرور أكثر من 30 عاماً على التعاون المسموم بين مصر و"إسرائيل"، كان من نتائجه وتداعياته وضعٌ كارثي للزراعة المصرية والمجتمع المصري برمته.

  • مخاطر
    مخاطر "التعاون" بين مصر و"إسرائيل" على الأمن القومي العربي

لم يكن دَوِيّ مدافع حرب أكتوبر عام 1973 هدأ بعدُ عندما انتهت المؤسسات السياسية والأمنية والبحثية في الكيان الإسرائيلي من صياغة رؤية شبه متكاملة للتعامل المستقبلي مع الأقطار العربية، في ظل ما عَدّته أفقاً لـ"السلام" والتطبيع الشامل مع كثير من الدول العربية.

وكان من أبرز تلك المشاريع "البحثية" ما قدّمه معهد "دافيد هورفيتز"، التابع لـ"جامعة تل أبيب"، والمكون من نحو 20 ورقة "سياسات عامة"، بعدد الدول العربية المستهدَفة من هذا "التعاون" المتوقَّع.

وعلى رغم تواضع عدد صفحات كل ورقة بحثية من تلك الأوراق، فإنها اشتملت على تحليل متكامل للوضع، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وطائفياً، في هذا البلد العربي أو ذاك، وأفق "التعاون" بين هذا البلد العربي والكيان الإسرائيلي. وكان التركيز في الورقة المصرية على قطاعات الزراعة والسياحة والطاقة شغل الاهتمام الأعظم.

بمطابقة هذه الأوراق مع ما جرى بعد ذلك في الاتفاقيات "الاستسلامية"، التي وقعت مع بعض هذه البلدان العربية (مصر – الأردن – منظمة التحرير الفلسطينية)، فإنها تكاد تكون طُبقت بالحرف الواحد حينما بدأت مسيرة ما يسمى "السلام والتطبيع مع إسرائيل".

وهكذا، حينما وُقِّع ما سُمِّي اتفاقية "السلام المصرية – الإسرائيلية" في 26 آذار/مارس 1979، بدأت عجلة الرؤية الصهيونية في الدوران: فوُقِّع أول اتفاق للتعاون الزراعي بين الحكومة المصرية والكيان الإسرائيلي في "تل أبيب" بتاريخ 21 آذار/مارس 1980. وبعد ذلك بأسابيع قليلة، في 8 أيار/مايو 1980، بدأت العلاقات الاقتصادية الرسمية بين الطرفين حينما وافق البرلمان المصري على الاتفاق التجاري الأول مع "إسرائيل"، وتمّ تشكيل عدد من اللجان المشتركة لتعزيز المشاركة في مختلف القطاعات.

وكان من أبرز هذه اللجان وأسرعها تشكيلاً "اللجنة الزراعية المشتركة"، التي مثّلها عن الجانب المصري الدكتور يوسف والي، نائب وزير الزراعة في ذلك الحين (والذي سوف يرتقي في مناصب النظام المصري ليشغل أخطر المناصب بعد أعوام قليلة)، وعن الجانب الإسرائيلي البروفسيور صاموئيل بوهوريليس.

كانت اللجنة هي النواة الأولى للتطبيع الزراعي بين البلدين، واستغلال "إسرائيل" تاريخ مصر الغني في الزراعة، وسرقة بذور قطن، وتغيير بنية الزراعة المصرية عبر إبدال زراعات استراتيجية بزراعة البطيخ والموالح والنباتات العطرية والكانتلوب وغيرها مما سُمِّي المحاصيل النقدية.

وبهذا، أصبح القطاع الزراعي أسرع القطاعات الاقتصادية المصرية اندفاعاً نحو إقامة علاقات تعاون متعددة الأوجه مع الكيان الإسرائيلي، سواء في مجال الزراعة أو البعثات التعليمية أو البرامج التدريبية، بحيث نستطيع أن نؤكد أن هذا القطاع الزراعي المصري جرى اختراقه مبكّراً وعميقاً. وكان للدكتور يوسف والي – ذي الأصول اليهودية – دورٌ حاسم في هذا التطبيع الزراعي السريع والعميق.

وأخذت هذه الاتفاقيات والتعاون الزراعي 3 أشكال، هي:

1- إرسال عدد كبير من الباحثين الزراعيين المصريين إلى "إسرائيل" بدعوى تبادل الخبراء والتدريب، كما استعان عدد مهم من مراكز البحوث المصرية بخبراء إسرائيليين وخصوصاً مركز البحوث الزراعية، والذي تحول إلى مركز ومعقل للتطبيع الصهيوني بامتياز. ونشر موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية، بتاريخ 23-3-2009، مقالاً أشار فيه إلى أوجه "التعاون" الزراعي بين "إسرائيل" ومصر، وكشف المقال عن اجتماع يُعقَد مرتين في العام لـ"اللجنة الزراعية المشتركة" منذ تأسيسها عام 1981، والتي تقف وراء قيام عشرات المشاريع الزراعية بين البلدين. وأثمر هذا التعاون - وفق ما جاء في المقال - إقامةَ عشرات المَزارع المشتركة في مصر، وعَقْدَ عشرات الدورات التدريبية للتأهيل المهني، ووصولَ الآلاف من المصريين العاملين في مجال الزراعة إلى "إسرائيل" للمشاركة في دورات استكمال زراعية. وعلى سبيل المثال: شارك عام 2007 نحو 200 مزارع مصري في دورات تأهيلية في "إسرائيل" في مواضيع متعددة. وفي عام 2008، وصل 220 مصرياً من الخبراء المصريين، الذين شاركوا في دورات في "إسرائيل"، كما تم عقد الاجتماع السنوي للجنة الزراعية الإسرائيلية المصرية المشتركة في تشرين الأول/أكتوبر 2008 بمشاركة مسؤولين كبار من وزارتي الخارجية والزراعة، من كلا الجانبين.

وتمّت، خلال الاجتماع، بلورة خطة للتعاون الثنائي خلال عام 2009، ودراسة الأوجه المتعدّدة لهذا التعاون.

يُقَدَّر عدد الخبراء والدارسين والمزارعين المصريين، والذين توافدوا على الكيان الإسرائيلي منذ عام 1980 حتى عام 2010، بأكثر من 3 آلاف شخص. وفي المقابل، زحف كثيرون من الخبراء الإسرائيليين في المجال الزراعي، وتمددوا في كثير من المحافظات والزراعات المصرية خلال هذه الفترة.

2- دعم مجموعة من السياسات الزراعية. وكانت اللجنة المشتركة أوصت بزراعة ما سُمي الحاصلات النقدية المربحة، مثل الخضروات والنباتات العطرية والفواكه والكانتلوب والبطيخ والتفاح، وتصديرها، والابتعاد عن زراعة الحاصلات الاستراتيجية غير المربحة كالفول والقمح والعدس والذرة والقطن، والشراء بثمنها الحاصلات الاستراتيجية التي تحتاج إليها مصر، وخصوصاً القمح، بالإضافة إلى إلغاء الدورة الزراعية، وإلغاء نظام التوريد الإجباري للحاصلات الاستراتيجية لمصالح الدولة، وهو ما اعترف به الدكتور يوسف والي (نائب رئيس الوزراء المصري ووزير الزراعة والأمين العام للحزب الحاكم) في رسالة بعث بها إلى رئيس مجلس الشعب عام 2001، رداً على تساؤلات لأعضاء المجلس بشأن أبعاد التعاون مع "إسرائيل" وفوائده في مجال الزراعة. ونشرت جريدة "الشرق الأوسط"، بتاريخ 25/6/2001، أن الرجل قال إن "التعاون الزراعي مع إسرائيل كان دائما في مصلحة مصر من خلال تبادل المعلومات العلمية في مجال زراعة الصحراء واستخدامات مياه الصرف الصحي في زراعات الغابات الخشبية"، وأضاف في الرسالة أن "مصر حصلت، عبر التعاون الزراعي مع إسرائيل، على أصناف مميزة من الفاكهة والخضراوات، كما استفادت من تجارب تطبيق نظم الري".

3- تصدير "إسرائيل" لبعض الأسمدة والمبيدات والبذور المهجَّنة، والتي سبّبت مشكلات كبيرة للزراعة والتربة المصريتين. ومثال ذلك سوس النخيل، وتسهيل "إسرائيل" إدخاله مصر، من خلال عدد من الشركات المصرية التي تتعامل مع وكالات إسرائيلية في منطقتي شمالي سيناء والإسماعيلية وأراضي شباب الخريجين في النوبارية والفيوم وبني سويف. وبلغ عدد الشركات التي حصلت على توكيل من شركات إسرائيلية في مصر أكثر من 6 شركات، تحت رعاية وزارة الزراعة المصرية، التي يقودها الدكتور يوسف والي، ومنها شركة "حزيرا" و"أفريدوم".

ويكشف المهندس الزراعي حسام رضا، في كتابه المهم، بعض المخالفات التي ارتُكبت في هذا الصدد، ومنها عثور الوزارة فعلاً على تجار يوزّعون مبيد "كاردريل" المسبب للأورام الخبيثة في الأوعية الدموية، ومبيد "تترا كلورفينوس" المسبب لأورام سرطانية بالكبد والغدة الدرقية، ومبيد "فلاتريسن" الذي يؤدي إلى أورام في الغدة النخامية، و"داي كلوفينيل" المسبب للأورام السرطانية في الكبد.

ويورد في كتابه أنه جرى تدريب المزارعين المصريين على استخدام مبيدات يمتدّ مفعولها 45 يوماً مع الخضراوات والفاكهة، وهي مبيدات كانت تُستخدم مع القطن، وأدى ذلك إلى انتقال المبيدات إلى جسم الإنسان، وهو ما تسبب بزيادة نسبة السرطانات في أعوام هذا التعاون. ففي الوقت الذي تحظر مصر استخدام الهرمونات وفقا للقانون رقم 590 لعام 1984، يؤكد حسام رضا أنها ظلت مستخدمة أعواماً طويلة بكميات كبيرة في منطقة مشروع النوبارية الذي بدأ منه التطبيع الزراعي بناءً على ما تعلمه المزارعون في الدورات التدريبية التي حصلوا عليها في "إسرائيل".

هذه المبيدات المسرطنة هي جزء من مخطط مارسته "إسرائيل"، جنباً إلى جنب مخطط آخر لتدمير المحاصيل الزراعية التي اشتُهرت بها مصر، وشمل المخطط محصول القطن. وكشفت الدراسة أنه، منذ بدء استيراد السلالات الصهيونية من القطن على مدى الأعوام العشرة (2000-2010)، تدهورت إنتاجية الفدان، وأدى ذلك إلى عمليات المحو الوراثي لسلالات الأقطان المصرية طويلة التيلة. وكانت نتيجة ذلك خروج مصر من الأسواق العالمية للقطن، واستطاعت أميركا أن تستنبط من القطن المصري، "ميت عفيفي"، سلالةً تسمى "البيما"، وأنتجت أقطاناً شبيهة بالمصرية، غزت بها الأسواق العالمية.

وفي دراسة أخرى للمهندس الزراعي محسن هاشم بعنوان "الاختراق الصهيوني للزراعة المصرية"، أظهرت أن 
"البطاطس" - التي تُعَدّ مصر من الدول المصدرة لها - أصيبت بمرض العفن البني، الأمر الذي أدى إلى رفضها في الأسواق الأوروبية نتيجة لاستيراد التقاوي من الكيان الإسرائيلي بواسطة اتحاد المصدرين والمنتجين للحاصلات البستانية في الديوان العام لوزارة الزراعة المصرية. كما لم ينجُ القمح من المخطط، بحيث كشفت الدراسة النقاب عن إقامة مزرعة إسرائيلية في منطقة شرقي العوينات في مصر، زُرع فيها أكثر من مئتي فدان من القمح الإسرائيلي، بإشراف معهد شيمون بيريز، واستخدمت في الزراعة تقاوٍ إسرائيلية معاملة وراثياً لمحو سلالات القمح المصرية.

وكانت الرافعة لهذا التعاون الإجباري قروض ومساعدات ومنح من هيئة المعونة الأميركية، التي اشترطت مشاركة "إسرائيل" في مجال الزراعة المصرية، وزيادة عدد الخبراء الإسرائيليين، العاملين في الشركات الأميركية العاملة في مصر، في مجال استصلاح الأراضي والإنتاج الحيواني، فانتشر هؤلاء بين المزارع الجديدة التي أقامها عدد كبير من رجال الأعمال الجدد.

استمر هذا التعاون منذ عام 1980 حتى قيام ثورة كانون الثاني/يناير 2011، حينما أعلن الدكتور صلاح عبد المؤمن، وزير الزراعة المصري الجديد، بتاريخ 22/2/2013، أن التعاون المصري – الإسرائيلي في مجال الزراعة توقف نهائياً، وأن لا نية في العودة إلى المشاريع المشتركة في جميع أشكالها، مثلما كان في الماضي. كما نفى الوزير المصري (لـ"بوابة الأهرام") صحة تقارير إعلامية تحدث فيها خبراء زراعيون عن استمرار انعقاد اجتماعات اللجنة الزراعية المصرية الإسرائيلية المشتركة، والتي تشكلت منذ عام 1980 ضمن معاهدة كامب ديفيد.

وبعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على هذا التعاون المسموم كان من نتائجه وتداعياته وضعٌ كارثي للزراعة المصرية والمجتمع المصري برمته، من حيث: 

أ‌- تخلي الحكومات المصرية عن نظام التخطيط الزراعي والدورة الزراعية والعمل وفق أسلوب آليات السوق والعرض والطلب، فاختلّ التوازن الذي كان قائماً من قبل بين الإنتاج والاستهلاك، وبين الرقعة الزراعية والمقنن المائي المتاح، وبين تكاليف الإنتاج وأسعار المنتوجات الزراعية في السوق.

ب‌- ترتّب على هذا التعاون انخفاض نسب الاكتفاء الذاتي من أهم الحاصلات الزراعية والمحاصيل الغذائية من 65% إلى 75% في المتوسط، طوال العقود الثلاثة السابقة على هذا التعاون (الخمسينيات والستينيات والسبعينيات) من معظم احتياجات مصر الغذائية والزراعية إلى أقل من 40%ـ45% في المتوسط، منذ منتصف الثمانينيات حتى عام 2023.

ج- بهذا التعاون مع مصر، انفتح مجال التعاون الزراعي بين الكيان الإسرائيلي وعدد من الدول العربية بمظلة يرعاها البنك الدولي والولايات المتحدة الأميركية تحت مسمى "المشروع الإقليمي للتنمية الزراعية في منطقة الشرق الأوسط"، فانخرطت بعد مصر كل من الأردن وفلسطين، وبعد ذلك اثنتان من دول "الاتفاق الإبراهيمي" عام 2020، هما الإمارات والمغرب، حيث يبدأ في مجال البحوث والدراسات وينتهي بالاستصلاح والزراعة وتغيير السياسات الزراعية والتركيب المحصولي لهذه البلدان.

وعلى رغم مرور أكثر من عشرة أعوام على التوقف الرسمي للتعاون الزراعي بين مصر والكيان الإسرائيلي، فإن الزيارات الفنية والمشورات البحثية ما زالت مستمرة بين مركز البحوث الزراعية في مصر والكيان الإسرائيلي، ما دام المركز المصري في حاجة مستمرة إلى الدعم والتمويل الأميركيّين لأبحاثه ومشاريعه.

لذلك، تتعدد زيارات وزراء الزراعة الإسرائيليين للبنك الدولي في واشنطن. وفي الزيارة الأخيرة لوزير الزراعة والتنمية الريفية الإسرائيلي (عوديد فورير) لمقر البنك الدولي في واشنطن، في كانون الأول/ديسمبر 2021، التقى نائب رئيس البنك والهيئات المهنية في مجال الزراعة، يورغن فويغل، من أجل تعزيز التعاون بين "إسرائيل" والبنك الدولي ودول المنطقة، وبينها مصر والأردن والإمارات والمغرب، وتزويد هذه البلدان بالمعدات والآلات الزراعية المنتَجة في "إسرائيل"، وإنشاء مركز للتدريب الزراعي ومزارع نموذجية في المناطق الصحراوية بتمويل من البنك الدولي والولايات المتحدة، ودفع البنك الدولي إلى دراسة مدى إمكان أن تصبح "إسرائيل" مركز ابتكار إقليمياً للزراعة الصحراويّة والبحريّة. وأشاد نائب رئيس البنك الدولي بنشاط "إسرائيل" في مجال البحث والتطوير الزراعيَّين، وأشار إلى ريادتها في الابتكار الزراعي على مستوى عالمي!!

وهكذا، تسللت المخططات الإسرائيلية من مصر إلى سائر الدول العربية، عاماً بعد عام، وإن ظل الهدف الاستراتيجي الأعظم لها هو إضعاف مصر وليس تنميتها. وبهذا ينكسر ظهر العرب، وتدخل المنطقة عصر الهيمنة والسيادة الإسرائيليتين.

ومثلما بدأ الرئيس المصري الأسبق أنور السادات عهده بعد حرب أكتوبر بجملته الشهيرة "إن 99% من أوراق اللعبة في يد أميركا"، ومقولته الثانية وهي أن "عصر الرخاء سوف يبدا عام 1980"، واختتمها بالقول "إن المصريين سيأكلون بملعقة من ذهب"، فلقد انتهى الأمر بعد 50 عاماً من سياسات التعاون متعدد المستويات مع الكيان الإسرائيلي بأن اعترف الجنرال عبد الفتاح السيسي - الذي تولى الحكم عام 2014 – في مقولته الشهيرة عام 2018، واصفاً الحال في مصر بـ"أننا أشباه دولة".